ولعلّه يقول قائل : إذا كان الخليفة إنّما فعل ما فعل ليحول بين الناس وبين بيعة أميرالمؤمنين (عليه السلام) فهذه الخطّة إذن لم تكن لتخفى على أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فلماذا لم يخرج إلى الناس ويخبرهم بحقيقة الأمر ، ويدعوهم للبيعة لنفسه ؟
والجواب على ذلك نفهمه من خلال كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام)مع عمِّه العباس ابن عبد المطلب ، فقد روى الشيخ المفيد عليه الرحمة أن العباس قال لعلي (عليه السلام)في اليوم الذي قبض فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك ـ يا بن أخ ـ أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك اثنان ، فقال له علي (عليه السلام) : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إليَّ أن لا أدعو أحداً حتى يأتوني ، ولا أجرِّد سيفاً حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول الله شغل(1) .
وفي رواية الجوهري : قال العباس بن عبد المطلب لعليٍّ (عليه السلام) في حوار له معه : فلمَّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة ، فدعوناك إلى أن نبايعك ، وقلت لك : ابسط يدك أبايعك ، ويبايعك هذا الشيخ ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش ، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب ، فقلت : لنا بجهاز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شغل ، وهذا الأمر فليس نخشى عليه ، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة ..(2) .
وقال المقريزي : وفي رواية : أن العباس قال لعلي (عليه السلام) : هلمَّ يدك أبايعك ، فقال : إن لي برسول الله شغلا ، ومن ذاك الذي ينازعنا هذا الأمر ؟(3) .
وقال ابن قتيبة الدينورى : فلمَّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال العباس لعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه : ابسط يدك أبايعك ، فيقال : عمُّ رسول الله بايع ابن عمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويبايعك أهل بيتك ، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل ، فقال له عليٌّ كرَّم الله وجهه : ومن يطلب هذا الأمر غيرنا ؟(4).
وعن أبي جعفر محمّد بن علي (عليهما السلام) أن عليّاً حمل فاطمة (عليها السلام) على حمار ، وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار ، يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمِّك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي : أكنت أترك رسول الله ميّتاً في بيته لا أجهِّزهپ(5) ، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه ؟ وقالت فاطمة : ما صنع أبو حسن إلاَّ ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما الله حسبهم عليه(6) .
والأمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فحاش أميرالمؤمنين علياً (عليه السلام)أن يترك النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) جنازة ، ويخرج في طلب الخلافة ، فهو ليس بحاجة لها ولا للناس ، بل الناس في حاجة إليه ، فجلس إلى جانب أخيه وابن عمِّه باكي العين حزين القلب ، وقد هدَّ ركنه هذا المصاب الجلل ..
وقد جاء هذا المعنى أيضاً في احتجاجات فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، فقد قالت للقوم : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردُّوا لنا حقّاً(7) .
ثمَّ إن عليّاً (عليه السلام) هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما عقد له من الولاية والخلافة والطاعة يوم غدير خمٍّ وغيره ، وهو إمام بايعه الناس أو لم يبايعه ، وليس على الإمام أن يذهب إلى الناس ليبايعوه ، بل على الناس أن يأتوه للبيعة طائعين ، ولا يبايعوا غيره ، فهو (عليه السلام) كالكعبة تؤتى ولا تأتي(8) وهذا ـ طبعاً ـ لا يعني أن يسكت أميرالمؤمنين (عليه السلام) عن حقِّه ، أو يترك الاحتجاج ولا يعلن ظلامته .
هذا والمتتبِّع لكلمات أميرالمؤمنين (عليه السلام) يجد الكثير من هذه الاحتجاجات الصريحة في ذلك(8) ، وهي كفيلة أن توقف كل من قرأها على الحقيقة ، ومن هو صاحب الخلافة والذي تجب له البيعة والطاعة .
_________
1- الفصول المختارة ، المفيد : 341 .
2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 44 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/48 .
3- النزاع والتخاصم ، المقريزي : 78 .
4- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 21 .
5- في رواية ابن قتيبة : أفكنت أدع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيته لم أدفنه ؟
6- السقيفة وفدك ، الجوهري : 63 ـ 64 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6/13 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/29 ـ 30.
7- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1/30 .
8- روي عن أبي الحسن موسى ، عن أبيه (عليهما السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام) : إنما مثلك في الأمة مثل الكعبة التي نصبها الله علماً ، وإنما تؤتى من كل فجٍّ عميق ونأي سحيق ، ولا تأتي ... الحديث . وسائل الشيعة ، الحرّ العاملي : 4/302 .
وفي تفسير الثعلبي بسنده ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : مثل عليٍّ فيكم ـ أو قال : في هذه الأمّة ـ مثل الكعبة المستورة أو المشهورة ، النظر إليها عبادة ، والحجُّ إليها فريضة . المناقب ، ابن المغازلي : 107 ، رقم : 149 .
9- راجع الجزء الثالث من كتابنا المناظرات : ص37 ـ 51 في احتجاجات أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، ومن احتجاجاته قوله (عليه السلام) : يا معشر المهاجرين ! الله الله ، لا تخرجوا سلطان محمّد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فوالله ـ يا معشر المهاجرين ـ لنحن أهل البيت أحقُّ بهذا الأمر منكم .. إلخ . السقيفة وفدك ، الجوهري : 63 .