• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصحابة تجاه أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته


ولنبدأ بالأوامر التي أمر بها (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، والتي قُوبلتْ بالتمرّد والعصيان من قبل هؤلاء الصّحابة.
وسوف لن نتحدّثْ إلاّ بما أخرجه البخاري في صحيحه روماً للاختصار، وضارباً على بقية صحاح أهل السنّة صفحاً، وإلاّ فإنّ فيها أضعاف الأضعاف، وبعبارات أكثر وضوحاً، وأكثر تحدّياً.
أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب من كتاب الشروط، وبعد ما أورد البخاري قصة صلح الحديبية، ومعارضة عمر بن الخطّاب لما وافق عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشكّه فيه حتّى قال له صراحة: أَلسْتَ نبيّ الله حقّاً؟ إلى آخر القضيّة. قال البخاري: فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: "قوموا فانحروا ثمّ أحلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم رجلٌ حتّى قال ذلك ثلاث مرّات، فلم يقم منهم أحدٌ، فدخل على أُمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس. (صحيح البخاري 3: 182)!!
ألا تعجب أيّها القارئ من تمرّد الصّحابة وعصيانهم تجاه أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورغم تكرار الأمر ثلاث مرات فلم يستجب له منهم أحد؟!
ولا بدّ هنا من ذكر محاورة دارت بيني وبين بعض العلماء في تونس بعد صدور كتابي "ثمّ اهتديت"، وأنّهم قرأوا فيه تعليقي على صلح الحديبية، فعلّقوا بدورهم على هذه الفقرة بقولهم: إذا كان الصّحابة قد عصوا أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنحر والحلق فلم يمتثل لأمره أحد، فإنّ عليّاً بن أبي طالب كان معهم ولم يمتثل هو الآخر لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
وأجبتهم بما يلي:
أولا: لم يكن علي بن أبي طالب معدوداً من الصّحابة، فهو أخ رسول الله وابن عمّه وزوج ابنته وأبو ولده، وقد كان علىّ مع رسول الله في جانب وبقية النّاس في جانب، فإذا قال الرّاوي في صحيح البخاري بأنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرَ أصحابه بالنحر والحلق، فإنّ أبا حسن سلام الله عليه لم يكن معدوداً ضمنهم، فهو بمنزلة هارون من موسى، ألا ترون أنّ الصلاة على محمّد لا تكون كاملة إلاّ إذا أُضيف إليها الصلاة على آله، وعلي هو سيّد آل محمّد بدون منازع، فأبو بكر وعمر وعثمان وكلّ الصّحابة لا تصحُّ صلاتهم إلاّ إذا كان فيها ذكر علي بن أبي طالب مع محمّد بن عبد الله.

ثانياً: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان دائماً يُشركُ عليّاً أخاه في هَدْيهِ، كما وقع ذلك في حجّة الوداع عندما قدم علىٌّ من اليمن، وسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "بماذا أهللتَ يا علي"؟ فقال: "بما أهلّ رسول الله"، فأشركه النبي في هديه، وقد ذكر هذه القضيّة كلّ المحدّثين والمؤرّخين، فلا بدّ أن يكون شريكه يوم الحديبية ـ أيضاً ـ.

ثالثاً: إنّ عليّ بن أبي طالب هو الذي كتب الصُّلح يوم الحديبية بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يعترض عليه في شيء طيلة حياته، لا بمناسبة الحديبية ولا في غيرها، ولم يسجّل التاريخ بأنّه (عليه السلام) تأخّر عن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عصاه مرّة واحدة ـ حاشاه ـ، ولا فرّ مرّة من الزحف وترك أخَاه وابن عمّه بين الأعداء، بل كان دائماً يفديه بنفسه، والخلاصة أنّ عليّاً ابن أبي طالب هو كنفس النّبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "لا يحلّ لأحد أن يجنُب في المسجد إلاّ أنا وعلي"(1).
واقتنع أغلب المحاورين بما أوردْتُه، واعترفوا بأنّ عليّ بن أبي طالب ما خالف في حياته أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثامن في الباب كراهية الخلاف من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة:

عن عبد الله بن عباس قال: لمّا احتضر النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، قال: "هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده"، فقال عمر: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غَلبهُ الوجْع، وعندكم القرآنُ فحسبُنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عُمر.
فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: "قوموا عنّي"، فكان ابن عباس يقول: إنّ الرّزية كلّ الرزّية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (صحيح البخاري 8: 161 و1: 37 و5: 138).
ي أجوبة المصابيح قال ابن حجر: "وورد لحديث أبي سعيد شاهد نحوه من حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه البزار من رواية خارجة بن سعد عن أبيه، ورواته ثقات..".
وهذا أمرٌ آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقابله الصّحابة بالرفض والعصيان، وبانتقاص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
مع الملاحظة بأنَّ عمر بن الخطاب قال بحضرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لمّا طلب منهم إحضار الكتف والدّواة ليكتب لهم الكتاب الذي يمنعهم من الضّلالة قال: إنّ رسول الله يهجُرُ، بمعنى يهذي ـ والعياذ بالله ـ.
ولكنّ البخاري هذّب تلك العبارة وأبدلها بـ "غلبه الوجع"; لأنّ قائلها عمر بن الخطّاب!! وتراه إذا أهمل اسم عمر في الرواية قال: فقالوا: هجر رسول الله، وهذه أمانة البخاري في نقل الحديث (وسوف نعقد له باباً خاصّاً).
وعلى كلّ حال، فإنّ أكثر المحدّثْين والمؤرّخين ذكروا بأنّ عمر بن الخطاب قال: إنّ رسول الله يهجرُ(2)، وتبعه كثير من الصّحابة فقالوا مقالته بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولنا أن نتصوّر ذلك الموقف الرّهيب، وتلك الأصوات المرتفعة، وكثرة اللّغط والاختلاف بحضرته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومهما تكن الرّواية معبّرة فلا تعبّر في الواقع إلاّ قليلا عن المشهد الحقيقي، كما إذا قرأنا كتاباً تاريخياً يحكي حياة موسى (عليه السلام)، فمهما يكن الكتاب معبّراً فلا يبلغ تعبير الفيلم السينمائي الذي نُشاهده عياناً.
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه السّابع في باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله عزّ وجلّ من كتاب الأدب، قال:
احتجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجيرة مُخصّفةً أو حصيراً، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يُصلّي إليها، فتبعه رجالٌ وجاؤوا يُصلّون بصلاته، ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا البابَ، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم: "ما زال بكم صنعكم حتى ظننتُ أنّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصّلاة في بيوتكم، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة". (صحيح البخاري 7: 99 و2: 252).
ومع كلّ الأسف فإنّ عمر بن الخطّاب خالف أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجمع النّاس على صلاة النّافلة أيام خلافته، وقال في ذلك: إنّها بدعة ونعم البدعة(3)، وتبعه على بدعته أكثر الصّحابة الذين كانوا يرون رأيّه، ويُؤيّدونه في كلّ ما يفعل ويقول، وخالفه علي بن أبي طالب وأهل البيت الذي لا يعملون إلاّ بأوامر سيّدهم رسول الله صلّى الله عليه وعليهم، ولا يبغون عنها بدلا، وإذا كانت كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار، فما بالك بالّتي جُعلتْ لتُخالف أحكام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!!
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب غزوة زيد بن حارثة من كتاب المغازي، عن ابن عمر... قال:

أمَّرَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أُسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتُم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة، وإن كان من أحبّ النّاس إلَىَّ، وإنّ هذا لمن أحبّ النّاس إلىَّ بعده" (صحيح البخاري 5: 84).
وهذه القصّة ذكرها المؤرّخون بشيء من التفصيل، وكيف أنّهم أغضبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى لعن المتخلّفين عن بعث أُسامة، وهو القائد الصغير الذي لم يبلغ عمره سبعة عشر عاماً، وقد أمّره النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على جيش فيه أبو بكر، وعمر، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وكلّ وجوه قريش، ولم يعيّن في ذلك الجيش علي بن أبي طالب، ولا أحداً من الصّحابة الذين كانوا يتشيّعون له.
ولكن البخاري دائماً يقتصر الحوادث ويبتر الأحاديث حفاظاً على كرامة السّلف الصّالح من الصّحابة!!، ومع ذلك ففيما أخرجه كفاية لمن أرادَ الوصول إلى الحقّ.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثّاني في باب التنكيل لمن أكثر الوصال من كتاب الصوم، عن أبي هريرة قال:
نهى رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الوصال في الصّوم، فقال له رجلٌ من المسلمين: إنّك تواصل يا رسول الله! قال: "وأيّكم مثلي؟ إنّي أبيت يُطعمني ربّي ويسقين"، فلمّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثمّ يوماً ثمّ رأوا الهلال، فقال: "لو تأخّر لزدْتكم"، كتنكيل لهم حينَ أبوا أن ينتهوا. (صحيح البخاري 2: 243).
مرحى لهؤلاء الصّحابة الذين ينهاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشيء فلا ينتهوا، ويكرّر لهم نهيه فلا يسمعوا! أفلم يقرأوا قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّـقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ}(4).
ورغم تهديد الله سبحانه لمن خالف رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعقاب الشّديد فإنّ بعض الصّحابة لا يُقيمون لتهديده ووعيده وزناً.
وإذا كان حالهم على هذا الوصف فلا شكّ في نفاقهم ولو تظاهروا بكثرة الصّلاة والصّيام والتشدّد في الدّين، إلى درجة أنّهم يحرّموا نكاح نسائهم لئلاّ يروحوا ومذاكيرهم تقطر منيّاً! ويتنزّهون عمّا يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!! كما تقدّم في الأبحاث السّابقة.
وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب بعث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كتاب المغازي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:

بعث النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسنُوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتُل منهم ويأسر، ودفع إلى كلّ رجل منّا أسره، حتّى إذا كان يومٌ أمر خالدٌ أن يقتل كلّ رجل منّا أسيره، فقلتُ: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتُلُ رجلٌ من أصحابي أسيره حتّى قدمنا على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذكرناه له، فرفع النبىُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يده فقال: "اللهمَّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد" مرّتين!! (صحيح البخاري 5: 107 و8: 118).
ذكر المؤرّخون هذه الحادثة بشيء من التفصيل، وكيف ارتكب خالد بن الوليد هذه المعصية الشنيعة، هو وبعض الصحابة الذين أطاعوه ولم يمتثلوا أوامر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تحريم قتل من أسلم، إنّها من أكبر المعاصي التي أراقت دماء بريئة، ولأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بدعوتهم للإسلام ولم يأمُره بقتالهم!!
ولكنّ خالد بن الوليد تغلّبتْ عليه دعوى الجاهلية، وأخذته الحمية الشيطانية; لأنّ بني جذيمة قتلوا عمّه "الفاكه بن المغيرة" أيام الجاهلية، فغدر بهم، وقال لهم: ضعُوا أسلحتكم فإنّ الناس قد أسلموا، ثمّ أمر بهم فكُتّفوا وقتل منهم خلقاً كثيراً.
ولمّا علم بعض الصّحابة المخلصين نوايا خالد هربوا من الجيش والتحقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعادوا عليه الخبر، فتبرّأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فعله، وأرسل علي بن أبي طالب فودّى لهم الدّماء والأموال.
ولمعرفة هذه القضية بشيء من التفصيل لا بأس بقراءة ما كتبهُ عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية خالد" إذ قال العقّاد بالحرف في صفحه 45 ما يلي:
"فبعد فتح مكّة، توجّهتْ عنايته (عليه السلام) إلى تطهير البوادي المحيطة بها من عبادة الأصنام، فأرسل السرايا إلى قبائلها لدعوتها والاستيثاق من نيّاتها، ومنها سريّة خالد إلى بني جذيمة في نحو ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سليم، أرسلها دعاة ولم يأمرهم بقتال، وكان بنو جذيمة شرّ حىّ في الجاهلية يسمّون لعقة الدم، ومن قتلاهم الفاكه بن المغيرة وأخوه عمّا خالد بن الوليد ووالد عبد الرحمن بن عوف، ومالك بن الشريد وإخوته الثلاثة من بني سليم في موطن واحد، وغير هؤلاء من قبائل شتّى.
فلمّا أقبل عليهم خالد وعلموا أنّ بني سليم معه، لبسوا السّلاح وركبوا للحرب وأبوا النزول، فسألهم خالد: أمسلمون أنتم؟ فقيل: إنّ بعضهم أجابه بنعم، وبعضهم أجابه: صبأنا صبأنا! أي تركنا عبادة الأصنام، ثمّ سألهم: فما بال السّلاح عليكم؟ قالوا: إنّ بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السّلاح! فناداهم: ضعوا السّلاح فإنّ الناس قد أسلموا.
فصاح بهم رجلٌ منهم يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد، والله ما بعد وضع السّلاح إلاّ الأسار، وما بعد الأسار إلاّ ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً، فما زالوا به حتّى نزع سلاحه في من نزع وتفرّق الآخرون.
فأمر خالد بهم فكتّفوا وعرضهم على السّيف، فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب، وأنكر عليه الأنصار والمهاجرون أن يقتل أحداً غير مأمور من النّبي (عليه السلام) بالقتال، ثمّ انتهى الخبر إلى النّبي، فرفع يديه إلى السّماء وقال ثلاثاً: "اللهمّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد" وبعث بعلي بن أبي طالب إلى بني جذيمة، فودّى دماءهم وما أصيب من أموالهم...
وقد عمّ النّكير على الحادث بين أجلاّء الصحابة، من حضر منهم السَّرية ومن لم يحضرها، واشتدّ عبد الرحمن بن عوف حتى رمى خالداً بقتل القوم عمداً ليدرك ثار عميّه" انتهى كلام العقّاد.
نعم، هذا ما ذكره العقّاد بالحرف في كتابه عبقرية خالد، والعقّاد كغيره من مفكّري أهل السنّة بعد ما يورد القصّة بكاملها يلتمسُ أعذاراً باردة ملفّقة لخالد بن الوليد، لا تقوم على دليل ولا يقبلها عقل سليم، وليس للعقّاد عُذرٌ سوى أنّه يكتب "عبقرية خالد"، فكلّ ما جاء به من أعذار لخالد فهي واهية كبيت العنكبوت، والذي يقرأها يشعر بسخافة الدفاع ووهنه.
فكيف وقد شهد هو بنفسه في كلامه بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلهم دعاة ولم يأمرهم بقتال؟! وأعترف بأنّ بني جذيمة نزعوا سلاحهم بعد ما لبسوه عندما خدعهم خالد بقوله لأصحابه: ضعوا السّلاح فإنّ الناس قد أسلموا؟! واعترف ـ أيضاً ـ بأنّ جحدم الذي رفض نزع السّلاح، وحذّر قومه بأنّ خالداً سيغدر بهم بقوله: ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد، والله ما بعد وضع السّلاح إلاّ الأسار، وما بعد الأسار إلاّ ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً؟!! وقال العقّاد: بأنّ بني جذيمة ما زالوا به حتّى نزع سلاحه، وهذا ما يدلُّ على إسلام القوم وحسن نيّتهم.
فإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسلهم دُعاة ولم يأمرهم بقتال، كما شهدتَ يا عقّاد، فما هو عذر خالد لمخالفة أوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هذه عقدة لا أحسبك تحلّها يا عقّاد.
وإذا كان القوم قد نزعوا السّلاح، وأعلنوا إسلامهم، وغلبوا صاحبهم الذي أقسم أن لا يضع سلاحه حتّى أقنعوه كما اعترفت به يا عقّاد، فما هو عذر خالد للغدر بهم وقتلهم صبراً وهم عُزّل من السلاح؟
وقد قلتَ بأنّ خالد أمر بهم فكُتّفوا وعرضهم على السّيف، وهذه عقدة أُخرى ما أظنّك قادراً على حلّها يا عقّاد، وهل الإسلام أمر المسلمين بقتل من لم يقاتلهم على فرض أنّهم لم يُعلنوا إسلامهم، كلا فهذه حجّة المستشرقين أعداء الإسلام والتي يروّجونها اليوم.
ثمّ اعترفت مرّةً أُخرى بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأمره بقتال القوم، إذ قُلتَ: بأنّ المهاجرين والأنصار أنكروا على خالد أن يقتل أحداً غير مأمور من النّبي (عليه السلام) بالقتال، فما هو عُذرك ـ يا عقّاد ـ في التماس العذر لخالد؟
ويكفينا ردّاً على العقّاد، أنّه أبطل أعذاره بنفسه وناقضها بأكلمها حين اعترف بقوله:
"وقد عمّ النّكير على الحادث بين أجلاّء الصحابة، من حضر منهم السرية ومن لم يحضرها"، فإذا كان أجلاّء الصّحابة شدّدوا النّكير على خالد حتّى هربوا من جيشه، واشتكوه للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا كان عبد الرحمن بن عوف قد اتّهم خالداً بقتل القوم عمداً ليدرك ثأر عمّيْه كما شهد بذلك العقّاد، وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رفع يديه إلى السماء، وقال ثلاث مرّات: "اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد"، وإذا كان النّبي بعث بعليّ ومعه أموالٌ، فودّى لبني جذيمة دماءهم وما أُصيب من أموالهم حتى استرضاهم ـ كما شهد العقاد ـ ; فكلّ هذا يدلّ على أنّ القوم أسلموا، ولكنّ خالد ظلمهم واعتدى عليهم!!
فهل من سائل يسأل العقّاد الذي يحاول جهده تبرير فعل خالد: إن كان هو أعلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي تبرّأ إلى الله ثلاثاً من فعله؟ أو من أجلاّء الصّحابة الذين أنكروا عليه؟ أو من الصّحابة الذين حضروا الواقعة، وهربوا من السّرية لهول ما رأوه من صنيعه المُنكر؟ أو من عبد الرحمن بن عوف الذي كان معه في السّرية، وهو لا شكّ أعرف بخالد من العقّاد، والذي اتهمه بقتل القوم عمداً ليدرك ثأرَ عمَّيه؟
قاتل الله التعصّب الأعمى، والحمية الجاهلية التي تقلب الحقائق!
ومهما اختصر البخاري القضية في أربعة سطور، فإنّ فيما أورده كفاية لإدانة خالد، وبقية الصّحابة الذي أطاعوه في قتل المسلمين الأبرياء، والذين ذكرهم العقاد بقوله: فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب.
ولكنّ البخاري لا يستثني من الصحابة الذين أطاعوه إلاّ اثنين أو ثلاثة، هربوا من الجيش ورجعوا للنبي يشتكون خالد، فلا يمكن لك أن تقنعنا ـ يا عقّاد ـ بأنّ المهاجرين والأنصار ـ وعددهم ثلاثمائة وخمسون كما صرّحت أنت بذلك ـ لم يطيعوا خالداً في قتل القوم، وهربوا كلّهم من الجيش!! فهذا لا يصدّقه أحدٌ من الباحثين.
ولكنّها محاولة منك للحافظ على كرامة السّلف الصّالح من الصّحابة، وستر الحقائق بأىّ ثمن، وجاء الوقت لإزاحة السّتار ومعرفة الحقّ.
وكم لخالد بن الوليد من مجازر شنيعة حدّثنا عنها التاريخ، خصـوصاً يوم البـطاح عندما انتدبه أبو بكر على رأس جيش كبير مؤلّـف من
الصّـحابة الأولين، فغدر ـ أيضاً ـ بمالك بن نويرة وقومه، ولمّا وضعوا السّلاح أمر بهم فكُتّفوا وضرب أعناقهم صبراً، ودخل بزوجة مالك ليلى أم تميم في نفـس الليلة التي قتل فيها بعلها، ولمّا وقف عمر بن الخـطاب يقتص منه وقال له: قتلت امرئاً مسلماً ثمّ نزوتَ على زوجته!! والله لأرجُمنّك بأحجارك يا عدوّ الله! وقف أبو بكر إلى جانب خالد وقال لعمر: إرفع لسانك عن خالد فإنّه تأوّل فأخطأ(5).
وهذه قضية أُخرى يطول شرحها ويقبحُ عرضُها، فكم من مظلوم يهضم حقّه; لأنّ ظالمه قوىٌّ عزيز، وكم من ظالم يُنصَرُ ظلمه وباطله; لأنّه غنىٌّ ومقرّبٌ للجهاز الحاكم!! فهذا البخاري عندما يستعرض قصّة بنو جذيمة يبترها بتراً ويقول: بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خالداً إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا.
فهل كان بنو جذيمة فرس أم أتراك أم هنود وألمان، حتى لا يحسنوا أن يقولوا أسلمنا يا بخاري؟! أم هم من القبائل العربية التي نزل القرآن بلغتهم؟ ولكن التعصّب الأعمى والمؤامرة الكبرى التي حيكت للحفاظ على كرامة الصحابة هي التي جعلت البخاري يقول مثل هذا القول ليبرّر فعل خالد بن الوليد!!
وهذا العقّاد ـ أيضاً ـ يقول: فسألهم خالد أمسلمون أنتم؟ ثم يقول العقّاد:
فقيل: إنّ بعضهم أجابه بنعم، وبعضهم أجابه صبأنا صبأنا... وكلمة "فقيل" تدلّ دلالة واضحة على أنّ القوم يتمسكون بأيّ شيء قد يوهمون به النّاس ليعذروا خالد بن الوليد، لأنّ خالد بن الوليد هو سيف الحاكم المسلول، وهو المدافع عن الخلافة المغصوبة، وهو وأتباعه يُمثلون القوّة الضّاربة لكلّ من تحدِّثه نفسه بالخروج والتمرّد عمّا أبرمه أبطال السقيفة يوم وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)!! فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

____________
1- سنن الترمذي 5: 303 وقال: "حديث حسن.."، تفسير القرطبي 5: 207، تاريخ دمشق 42: 140، سير أعلام النبلاء 13: 272، السنن الكبرى للبيهقي 7: 66، فتح الباري لابن حجر 7: 13، وف
2- ذكر ذلك كلّ من الغزالي في سرّ العالمين: 40، سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 65، ابن الأثير في النهاية 5: 245، الجوهري في السقيفة وفدك، كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6: 51، ابن تيمية في منهاج السنة 6: 24، 315 تحقيق محمّد رشاد سالم.
لكن صاحب كتاب كشف الجاني: 134 يضع رأسه في الرمل كالنعامة عند الوصول إلى هذ النقاط الخطرة، والتي تقلب الصورة المصطنعة عنده وعند غيره لعمر بن الخطّاب، فأخذ كعادته بالاستهزاء والسخرية، والتهجّم على المؤلّف وعموم الشيعة، ونسبته عدم العقل إليهم، مع أنّ إمامه ابن تيمية يقرّ بذلك ويعترف بأنّ الذي قالها عمر بن الخطّاب!! فليس أمام عثمان الخميس إلاّ خيارين وأحلاهما مرٌّ وهو: إمّا القول بأنّ عمر بن الخطاب لم يقل ذلك ـ وهو غير صحيح ـ وفي ذلك ردّ على شيخه ابن تيمية!! وإمّا القول بأنّ عمر بن الخطّاب قال ذلك، وفي ذلك تجريح بعبقريه العظيم واسطورته المصطنعة عمر بن الخطّاب!! فأيّهما اختاره كان مرّاً!
3- صحيح البخاري 2: 252، كتاب صلاة التراويح.
4- الحشر: 7.
5- راجع بألفاظه المختلفة: تاريخ الطبري 2: 504، أُسد الغابة 4: 295، البداية والنهاية 6: 355، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17: 206، تاريخ خليفة بن الخياط 68، الإصابة لابن حجر 5: 560.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page