رسالة الجاحظ(1) التي أرشدني إليها الشيخ الهويدي في تفضيل علي (عليه السلام) .
قال : هذا كتاب من اعتزل الشك والظنّ ، والدعوى والأهواء ، وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبإجماع الأمَّة بعد نبيِّها (عليه السلام)ممَّا يتضمَّنه الكتاب والسنّة ، وترك القول بالآراء ، فإنَّها تخطىء وتصيب ; لأنَّ الأمَّة أجمعت أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) شاور أصحابه في الأسرى ببدر ، واتّفق على قبول الفداء منهم ، فأنزل الله تعالى : {مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}(2) .
فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ، ولا يعطي اليقين ، وإنّما الحجّة لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أجمعت عليه الأمّة من كتاب الله وسنّة نبيِّها ، ونحن لم ندرك النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الأمّة في أحقِّهم ، فنعلم أيّهم أولى ونكون معهم ، كما قال تعالى : {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}(3) ، ونعلم أيّهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال تعالى : {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}(4) حتى أدركنا العلم ، فطلبنا معرفة الدين وأهله ، وأهل الصدق والحقّ ، فوجدنا الناس مختلفين ، يبرأ بعضهم من بعض ، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان : أحدهما قالوا : إن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مات ولم يستخلف أحداً ، وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه ، فاختاروا أبا بكر ، والآخرون قالوا : إن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف عليّاً ، فجعله إماماً للمسلمين بعده ، وادّعى كل فريق منهم الحقَّ .
فلمَّا رأينا ذلك وقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحقَّ من المبطل ، فسألناهم جميعاً : هل للناس من وال يقيم أعيادهم ، ويجبي زكاتهم ، ويفرِّقها على مستحقيها ، ويقضي بينهم ، ويأخذ لضعيفهم من قويِّهم ، ويقيم حدودهم ؟
فقالوا : لابدَّ من ذلك .
فقلنا : هل لأحد أن يختار أحداً ، فيولّيه بغير نظر من كتاب الله وسنّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
فقالوا : لا يجوز ذلك إلاَّ بالنظر .
فسألناهم جميعاً عن الإسلام الذي أمر الله به ، فقالوا : إنه الشهادتان ، والإقرار بما جاء من عند الله ، والصلاة ، والصوم ، والحج ـ بشرط الاستطاعة ـ والعمل بالقرآن ، يحلُّ حلاله ويحرِّم حرامه ، فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم .
ثمَّ سألناهم جميعاً : هل لله خيرة من خلقه ، اصطفاهم واختارهم ؟
فقالوا : نعم .
فقلنا : ما برهانكم ؟
فقالوا : قوله تعالى : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(5) .
فسألناهم : من الخيرة ؟
فقالوا : هم المتقون .
فقلنا : ما برهانكم ؟
فقالوا : قوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(6) .
فقلنا : هل لله خيرة من المتقين ؟
قالوا : نعم ، المجاهدون بأموالهم ، بدليل قوله تعالى : {فَضَّلَ اللّهُ الُْمجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}(7) .
فقلنا : هل لله خيرة من المجاهدين ؟
قالوا جميعاً : نعم ، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد ، بدليل قوله تعالى : {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}(8) .
فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه ، وعلمنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد .
ثم قلنا : هل لله منهم خيرة ؟
قالوا : نعم .
قلنا : من هم ؟
قالوا : أكثرهم عناء في الجهاد ، وطعناً وحرباً وقتلا في سبيل الله ، بدليل قوله تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ}(9) {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ}(10) .
فقبلنا منهم ذلك ، وعلمنا وعرفنا : أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء ،وأبذلهم لنفسه في طاعة الله ، وأقتلهم لعدوِّه ، فسألناهم عن هذين الرجلين ـ علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وأبي بكر ـ أيُّهما كان أكثر عناء في الحرب ، وأحسن بلاء في سبيل الله ؟
فأجمع الفريقان على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه كان أكثر طعناً وحرباً ، وأشدَّ قتالا ، وأذبَّ عن دين الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فثبت بما ذكرنا من إجماع الفريقين ، ودلالة الكتاب والسنة أن عليّاً (عليه السلام) أفضل .
وسألناهم ـ ثانياً ـ عن خيرته من المتقين ، فقالوا : هم الخاشعون ، بدليل قوله تعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْب مُّنِيب}(11) ، وقال تعالى : {وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم}(12) .
ثم سألناهم : من الخاشعون ؟
فقالوا : هم العلماء ، لقوله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(13) .
ثم سألناهم جميعاً : من أعلم الناس ؟ قالوا : أعلمهم بالقول ، وأهداهم إلى الحق ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ}(14) . فجعل الحكومة لأهل العدل .
فقبلنا ذلك منهم ، وسألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو ؟
قالوا : أدلُّهم عليه .
قلنا : فمن أدلُّ الناس عليه ؟
قالوا : أهداهم إلى الحقِّ ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى}(15) ، فدلَّ كتاب الله وسنَّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والإجماع : أن أفضل الأمّة بعد نبيِّها أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ، لأنه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتقاهم ، وإذا كان أتقاهم كان أخشاهم ، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم ، وإذا كان أعلمهم كان أدلَّ على العدل ، وإذا كان أدلَّ على العدل كان أهدى الأمّة إلى الحقِّ ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعاً ، وأن يكون حاكماً ، لا تابعاً ولا محكوماً .
وأجمعت الأمّة بعد نبيِّها (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه خلَّف كتاب الله تعالى ذكره ، وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر ، وإلى سنّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيتدبَّرونهما ، ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه ، فإذا قرأ قارئكم : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ}(16) ، فيقال له : أثبتها ، ثمَّ يقرأ : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(17) ، وفي قراءة ابن مسعود : إنَّ خيْرَكُم عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ، ثمَّ يقرأ : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ}(18) فدلَّت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشون .
ثمَّ يقرأ فإذا بلغ قوله : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(19) فيقال له : اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا ؟ فإذا بلغ قوله تعالى : {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}(20) علم أن العلماء أفضل من غيرهم .
ثمَّ يقال : اقرأ ، فإذا بلغ إلى قوله : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات}(21) قيل : قد دلَّت هذه الآية على أن الله قد اختار العلماء ، وفضَّلهم ورفعهم درجات ، وقد أجمعت الأمّة على أن العلماء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة : علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وعبد الله بن العبّاس ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت .
وقالت طائفة : عمر ، فسألنا الأمّة : من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة ؟
فقالوا : إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يؤمُّ القوم أقرؤهم ، ثمَّ أجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ من عمر فسقط عمر .
ثمَّ سألنا الأمَّة : أيُّ هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله ، وأفقه لدينه فاختلفوا ، فأوقفناهم حتى نعلم ، ثمَّ سألناهم : أيُّهم أولى بالإمامة ؟
فأجمعوا على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إذا كان عالمان فقيهان من قريش فأكبرهما سنّاً وأقدمهما هجرة ، فسقط عبدالله بن العبّاس ، وبقي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، فيكون أحقَّ بالإمامة ; لما أجمعت عليه الأمّة ، ولدلالة الكتاب والسنة عليه . انتهى(22) .
____________
1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر : 2/94 .
2- سورة الأنفال ، الآية : 67 .
3- سورة التوبة ، الآيه : 119 .
4- سورة النحل ، الآية : 78 .
5- سورة القصص ، الآية : 68 .
6- سورة الحجرات ، الآية : 13 .
7- سورة النساء ، الآية 95 .
8- سورة الحديد ، الآية : 10 .
9- سورة الزلزلة ، الآية : 7 .
10- سورة البقرة ، الآية : 110 .
11- سورة ق ، الآية : 31 ـ 33 .
12- سورة الأنبياء ، الآية : 48 ـ 49 .
13- سورة فاطر ، الآية : 128 .
14- سورة المائدة ، الآية : 95 .
15- سورة يونس ، الآية : 35 .
16- سورة القصص ، الآية : 68 .
17- سورة الحجرات ، الآية : 13 .
18- سورة ق ، الآية : 31 ـ 33 .
19- سورة فاطر ، الآية : 28 .
20- سورة الزمر ، الآية : 9 .
21- سورة المجادلة ، الآية : 11 .
22- ذكر هذه الرسالة الإربلي في كشف الغمة : 1/37 ـ 40 ، وقال : إنها نسخت عن مجموع للأمير أبي محمّد الحسن بن عيسى المقتدر بالله .
رسالة الجاحظ
- الزيارات: 1034