طباعة

الصفات الإلهية عند السلف والمفسرين

قاطعني قائلا : ماذا نفهم من هذا الكلام ؟ هل تخالف السلف الصالح ، وتؤوِّل هذه الآيات ؟
قلت : أولا : إنّ مجرَّد نسبة هذه الأفكار إلى السلف لا يكسبها قدسيّة يمنعها من النقاش .
ثانياً : إن السلف الذين تدّعي اتباعهم لم يقولوا ما قلت ، بل كانوا يوجِّهون تلك الآيات القرآنيّة التي جاءت في باب الصفات غير توجيهكم ، وفي الواقع إن نسبة هذه الأفكار إلى ابن تيمية وابن عبد الوهاب أقرب وأصدق من نسبتها إلى السلف ، وحتى تتأكَّد من ذلك ارجع إلى أيِّ تفسير من التفاسير المأثورة في باب الصفات ، لتجد تأويلات السلف واضحة لهذه الآيات .
جاء في تفسير الطبري ، في تفسر قوله تعالى : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}(1) التي اعتبرها ابن تيمية من أعظم آيات الصفات ، نجد أن الطبري يروي حديثين بإسناد إلى ابن عباس قال : اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي ، فقال بعضهم : هو علم الله تعالى ذكره ، وذكر من قال ذلك بإسناده أن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ورواية أخرى بإسناده عن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ألا ترى : {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}(2) .
وفي تفسير الطبري نفسه ، ينقل في تفسر قوله تعالى : {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} يقول : اختلف أهل البحث في معنى قوله : وهو العليُّ العظيم ، فقال بعضهم : يعني بذلك هو عليٌّ عن النظير والأشباه ، وأنكروا أن يكون معنى ذلك هو : العلي المكان ، وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا يعني بوصفه بعلوِّ المكان ; لأن ذلك وصف بأنه في مكان دون مكان .
وإليك شاهداً آخر في تفسير قوله تعالى : {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}(3)وقوله : {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ}(4) .
قال الطبري : واختلف في معنى قوله : ( إلاَّ وجهه ) ، فقال بعضهم : كل شيء هالك إلاَّ هو ، وقال آخرون : معنى ذلك : إلاَّ ما أريد به وجهه ، واستشهدوا بقول الشاعر :
أستغفر الله ذنباً لست محصيه     ربّ العباد إليه الوجه والعمل
وقال أبو البغوي : إلاّ وجهه ; أي إلاَّ هو ، وقيل : إلاَّ ملكه ، قال أبو العالية : إلاَّ ما أريد به وجهه .
وفي الدرّ المنثور للسيوطي عن ابن عباس قال : المعنى : إلاّ ما يريد به وجهه ، وعن مجاهد : إلاّ ما أريد به وجهه ، وعن سفيان : إلاَّ ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة(5) .
هذا قول السلف ، وأنا لم أخالف قولهم ، بل أنتم الذين تخالفونهم ، وتنسبون لهم ما ليس فيهم .
ثالثاً : نحن لا ندعو إلى التأويل في مثل هذه الآيات ، فلا يجوز صرف ظاهر الكتاب والسنّة بحجّة أنها تخالف العقل ، فلا يوجد في القرآن والسنّة ما يخالف العقل ، وما يتبادر من الظاهر أنه مخالف ليس بظاهر ، وإنما يتخيَّلونه ظاهراً .
ولتوضيح ذلك لابد أنّ تفهم أن اللغة في مدلولها تنقسم إلى قسمين :
1 ـ دلالة إفراديّة .
2 ـ دلاله تركيبيّة .
أو كما يسمّيها علماء المنطق والأصول دلالة تصوُّريَّة ودلالة تصديقيّة .
فقد يختلف المعنى الإفرادي عن المعنى التركيبي في الكلمة الواحدة ، إذا وجدت قرائن في الجملة تصرفها عن معناها الإفرادي ، فمثلا : عندما أقول :
( أسد ) ينصرف الذهن إلى الحيوان ، ولكن عندما أقول : أسد يقود سيارة فإن الذهن سينصرف إلى الرجل الشجاع ، فمعنى أيِّ كلمة لابد أن يلاحظ فيه السياق والقرائن المتصلة والمنفصلة ، وهذا هو ديدن العرب في فهم الكلام ، ولذلك الذي يفهم بهذه الطريقة لا يسمَّى مؤوِّلا للنصّ ، خارجاً عن الظاهر ، وهكذا الحال في مثل هذه الآيات ، ففي قوله تعالى : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فيكون المعنى الظاهر من اليد هي القدرة والتأييد الإلهي من غير تأويل ، كالذي يقول : البلد في يد السلطان ، أي تحت تصرفه وإدارته ، ويصح هذا القول وإن كان السلطان مقطوع اليد ، وكذلك في بقيَّة الآيات فلا يمكن أن تثبت معنى الكلمة من غير ملاحظة السياق ، وهذا هو الأخذ بالظاهر بعينه .
بدأت الحيرة على وجه الوهابي ، وهو لا يدري ماذا يقول ، إلاَّ أنه قاطعني قائلا : هذا الكلام فيه تكلُّف ومراوغة ، فالإسلام دين يسر ، ولا يحتمل هذه السفسطة ، فقد خاطب علماؤنا المسلمين بأبسط الكلمات من غير تعقيد وتكلُّف ، وقد أجمع المسلمون على فضلهم وأعلميَّتهم ، مثل : الإمام أحمد بن حنبل ، وشيخ الإسلام ابن تيميّة ، فإنهم بتوفيق الله ردُّوا على أصحاب المذاهب الباطلة بأوضح البراهين ، ولم يقولوا كلمة واحدة مما قلت ، مع أنهم لا يجرأ على مخالفتهم أحد .
فمن أنت ؟ وما هو مذهبك ؟ فإنّي لا أراك إلاَّ من المعتزلة الذين يتمنطقون بالكلام .
يا شيخنا ! ألم أقل لك إنّك تجترُّ ما قاله ابن تيميّة ، وابن عبد الوهاب ، من غير تدبر ؟ فإن هؤلاء كلامهم لا يتجاوزهم ، وهو حجّة عليهم لا علينا ، وخصَّ الله سبحانه كل إنسان بعقل ، ولا يحاكمنا بعقولهم ، هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء لم يكونوا موضع إجماع الأمّة ، فقد خالفهم جلُّ علماء المسلمين ، وكان أكثر مخالفيهم من علماء أهل السنّة والجماعة .





_________
1- سورة البقرة ، الآية : 255 .
2- تفسير الطبري : 3/927 .
3- سورة القصص ، الآية : 88 .
4- سورة الرحمن ، الآية : 27 .
5- الدرّ المنثور ، السيوطي : 5/140 .