الخلافة، وما أدراك ما الخلافة! فهي التي جعلها الله فتنة الأُمة، وهي التي قسمتْها وأَطمعت فيها الطّامعين، وهي التي أهرقت في سبيلها الدّماء البريئة، وهي التي كفر من أجلها مسلمون، فأغرتهمُ وأبعدتهم عن الصراط المستقيم وأدخلتهم نار الجحيم، ولا بُدَّ لنا من دراسة تكون على اختصارها محيطة بالخفايا والملابسات، التي كانت الخلافة مسرحاً لها قبيل وبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأوّل ما يتبادر للأذهان أنّ الزعامة عند العرب كانت من الأُمور الضرورية في كلّ العصور، فتراهم يقدّمون رئيس القبيلة أو زعيم العشيرة على أنفسهم، فلا يبرمون أمراً دونه، ولا يتخذون قراراً إلاّ بمشورته، ولا يسبقونه بالقول.
فزعيم العشيرة هذا عادة ما يكون أكبرهم سنّاً، وأعلمهم بالأمور، وأشرفهم حسباً ونسباً.
ويبدو أنّ هذا الرئيس يبرز من خلال الأحداث في عشيرته، وممّا يظهر عليه من ذكاء وفطنة، وشجاعة وعلم بالأُمور، وسخاء وإكرام الضيف، وغير ذلك من الخصال الحميدة، ولكن في أغلب الأحيان هي وراثة وليست اختيار.
ونجد بعد ذلك أنّ القبائل والعشائر رغم استقلاليتها، فهي تخضع لزعامة القبيلة الواحدة التي قد تكون أكثر عدداً ومالا، ولها أبطال يخوضون المعارك، ويحملون بقية القبائل تحت رعايتها، ومثال ذلك قريش التي كانت تتزعم بقية القبائل العربية الخاضعة لها بحكم الزّعامة والسيّادة التي فرضتها رعايتها لبيت الله الحرام.
ولمّا جاء الإسلام أقرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حدّ ما هذا الأسلوب في التعامل، فكان يولّي على القبائل التي وفدت عليه وأقرّت بالإسلام سيّدهم وشريفهم ليكون والياً عليها، فيُصلّي بهم، ويجمع زكاتهم، ويكون همزة الوصل بينهم وبينه.
ثمّ إنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) أنشأ بأمر الله سبحانه الدولة الإسلامية، التي تخضع في كلّ أحكامها وقراراتها إلى ما ينزل به الوحي من الله، فكان نظام المجتمع ونظام الفرد من عقود نكاح وطلاق، وبيع وشراء، وأخذ وعطاء، وإرث وزكاة، وكلّ ما يخصّ الفرد والمجتمع في الحرب والسلم من معاملات وعبادات، كلّها خاضعة إلى أحكام الله، ومهمّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي التنفيذ، والسّهر على تطبيق تلك الأحكام.
ومن الطبيعي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفكّر في من سيخلفه في هذه المهمّة العظمى، ألا وهي قيادة الأُمّة.
ومن الطبيعي أن يهتمّ كلّ رئيس دولة ـ إن كان يهمّه شعبه ـ بالشخص الذي يختاره; ليكون نائبه في كلّ المهمّات التي يكون هو غائبٌ عنها، فيكون وزيره الأول والمقرّب الذي يحضر إذا يغيبون، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون نائبه معلوماً لدى كلّ الوزراء وعند الشعب أيضاً.
فلا يمكن أن يصدّق العقل بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أغفل كلّ ذلك ولم يهتمّ به، ولا شكّ بأنّه كان شغله الشاغل، ولا شكّ بأنّ الأحاديث المتعلّقه بالموضوع خضعت للحصار الذي ضربه الخلفاء الذين كانوا يتزعّمون نظريّة الشورى والذين عملوا بكلّ جهودهم لمعارضة النّصوص التي عيّنت وشخّصت الخليفة.
وكان من هذه الجهود أيضاً الطعن بقداسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واتهامه بالهجر، ثمّ الطعن فيه وفي الأمير الذي ولاّه قيادة الجيش; بدعوى أنّه لا يصلح للإمارة والقيادة لصغر سنّه، ثمّ التّشكيك في وفاة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تضطرب الأُمور، ولا يسبق النّاسُ عامّة لبيعة الخليفة الذي عيّنَهُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل.
ومن تلك الجهود اغتنامهم فرصة اشتغال علي وأنصاره بتجهيز النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعقد مؤتمر السّقيفة الطارئ، واختيار من يرضونه وترتاح نفوسهم إليه وتُعقدُ آمالهم عليه، ثمّ حمل النّاس عامّة على البيعة بالتّهديد والتنّديد، والوعد والوعيد، ثمّ إقصاء المعارضة كلّياً عن السّاحة السياسيّة، ثمّ الوقوف بحزم وصرامة ضدّ كلّ من تحدّثه نفسه بشقّ عصا الطّاعة، أو شكّك في شرعيّة الخلافة الجديدة، ولو كانت فاطمة بنت النّبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثمّ ضرب الحصار والمنع الباتّ على الأحاديث النّبوية الشريفة عامّة، حتّى لا تتفشّى النّصوص بين النّاس وتضطرب الأُمور، ولو أدّى ذلك للاغتيال الفردي والقتال الجماعي; لإخماد المعارضة بدعوى القضاء على الفتنة مرّة والردّة أُخرى!!
كلّ ذلك عرفناه من خلال ما كتبه المؤرّخون، وإن كان بعضهم يحاول تغطية الحقيقة بوضع بعض الروايات المتناقضة، أو بعض التأويلات والاعتذارات التي كشفتْ خفاياها الأيام والأحداث والأبحاث.
وقد يكون بعضهم معذوراً; لأنّه أخذ معلوماته من المصادر الأُولى التي كُتبتْ تحت التأثير السيّاسي والاجتماعي الذي خلّفته الفتنة الكبرى، وما أعقبها من أحداث عندما استولى بنو أُميّة على الخلافة، وأغدقوا الأموال والمناصب على بعض الصّحابة والتابعين المأجورين، فأخذ بعض المؤرّخين من هؤلاء لحسن ظنّه بهم، وهو لا يعلم خائنة الأعينُ وما تُخفي الصّدور، فاختلطت الروايات الصحيحة بالروايات المكذوبة، وأصبح من العسير على الباحث الوصول إلى الحقيقة.
ولتقريب القارئ الباحث من هذه الحقيقة، لابدّ من إثارة وطرح هذه الأسئلة، حتّى يكتشف من خلالها أو من خلال الإجابة عليها بعض الحقائق، أو بعض الإشارات التي توصله إلى الحقيقة.
في ما يتعلّق بالخلافة
- الزيارات: 889