وبعد ذلك الحوار وجلسات أخرى متفرِّقة مع خالي ، اهتزّت كل قناعاتي بالموروث الديني السنّي ، وتكشَّفت أمام ناظري مجموعة من الحقائق ، بعدما وقفت على عمق الخلافات المذهبيَّة ، وعندما أتى خالي لزيارتنا في بيتنا عاجلته بالسؤال : وما هو رأيكم في المذاهب الأربعة ؟
فتبسّم خالي قائلا : أما زلت في حيرة من أمرك ، فإنّ الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكلِّفاك باتّباع أحد منهم ، وأنا أتحدَّى كل علماء السنة الماضين منهم والباقين أن يستدلُّوا بدليل واحد على وجوب تقليدهم ، فدعي عنك تلك الوساوس ، وتوجَّهي إلى أئمّة الهدى من آل البيت(عليهم السلام) ، فهم موضع الحكمة والرسالة ، جعلهم الله لنا عصمة وملاذاً ، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ; كتاب الله وعترتي أهل بيتي(1) .. ولم يقل : كتاب الله وأئمَّة المذاهب الأربعة .
فقاطعته قائلة : ولكن قال : ( كتاب الله وسنّتي ) ممَّا يفتح الباب واسعاً أمام اجتهاد الأمة .
خالي : أوَّلا : إنّ حديث : كتاب الله وسنّتي غير صحيح فلم يروه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وكل الصحاح الستة ، فكيف نرتكز على حديث غير ثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهذا الحديث لم يروه إلاَّ مالك في الموطأ من غير سند ، فقد جاء في الموطأ أن مالك بلغه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ( تركت فيكم كتاب الله وسنّتي )(2) ، فكيف ياترى بلغ مالكاً هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟!! ومن المعلوم أن الفاصل بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومالك يحتاج فيه الحديث إلى سند طويل ، يعني : حدَّثني فلان عن فلان عن فلان عن الصحابي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا الحديث من غير سند ، ممَّا يعني أنه حديث في غاية الضعف .
أمَّا حديث : تركت فيكم كتاب الله وعترتي فقد رواه مسلم في صحيحه بعدّة طرق(3) ، وروته كل الصحاح الستة ما عدا البخاري ، وعدد الرواة الذين نقلوا الحديث من الصحابة يتجاوز الثلاثين راوياً ، ممَّا يعني أنّه حديث متواتر مقطوع الصدور عند السنّة والشيعة ، فكيف نتنازل عنه من أجل حديث لا سند له ؟ ومن هنا كان من الواجب على كل مسلم أن يتبع أهل البيت(عليهم السلام) في كل أمور دينه .
قلت : هناك حديث آخر يقول : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ(4) ، فنستفيد من هذا الحديث أوَّلا التمسُّك بسنّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسنَّة الخلفاء ثانياً .
خالي : هذه إسقاطات لا يقبلها النص ، أولا ـ بعيداً عن مناقشة سند الحديث الذي استفرد بنقله أبو داود وابن ماجة والترمذي ، وتجاوزنا عن تضعيف بعض الرواة في أسانيده ـ فإنّ هذا الحديث لا يتحمَّل أكثر من دعم رأي الشيعة ، وذلك أنّ كلمة الخلفاء هنا لا تعني الخلفاء الأربعة ، أو الذين حكموا في التأريخ ; لأن هذا إسقاط تأويلي متأخِّر عن النص ، فتسمية الخلفاء الراشدين للأربعة الذين حكموا ليست هي تسمية شرعيّة ، وإنّما تسمية المؤرِّخين الذين حكموا على فترة حكم الخلفاء بالرشد ، فبالتالي لا يكون الخلفاء مصداقاً لهذا الحديث لمجَّرد اشتراك التسمية ، فيكون التفسير الأقرب أن الخلفاء المقصودين هم أئمة أهل البيت الاثنا عشر(عليهم السلام) ، وذلك لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في البخاري في باب الخلافة ، ومسلم وغيرهما من الصحاح عشرين رواية ـ كما جعلها القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ـ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إن الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة(5) .
فجاء في رواية : كلهم من قريش ، وفي رواية : كلهم من بني هاشم ، وهذا الترديد في نقل الراوي لا يؤثِّر في الاستدلال بهذا الحديث على إمامة أهل البيت(عليهم السلام) ، وذلك بأن الفرقة الإسلاميّة الوحيدة التي توالي اثني عشر إماماً هم الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة ، كلهم من أهل البيت(عليهم السلام) ، فإذا ثبت ـ وهو كذلك ـ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : عليكم بكتاب الله وعترتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ثمَّ جاء حديث آخر يقول : الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة ، تعيَّن أن يكون هؤلاء من أهل البيت(عليهم السلام) ; لأنه يستحيل عقلا أن يأمرنا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باتّباع أهل البيت ، وفي نفس الوقت يأمرنا باتّباع خلفاء من غير أهل البيت ، ممَّا يحدث تناقضاً وتضارباً ، فتعيَّن أن يكون الخلفاء المقصودون في الحديث هم الأئمة من آل البيت(عليهم السلام) ، وللأسف لم يكن الخلفاء الذين حكموا في التأريخ ولا أئمّة المذاهب الأربعة من آل البيت(عليهم السلام) ، وهذا كاف في إبعادهم عن ساحة الحوار .
قلت : ولكن من أين جاءت فكرة المذاهب الأربعة ؟
خالي : فكرة المذاهب الأربعة خدعة نسجت خيوطها سياسات الكبت الأمويّة والعباسيّة ، وإلاَّ لم يكن الفقهاء الأربعة هم أعلم أهل زمانهم ، فهناك من كان أكثر علماً منهم ، وكان لهم مذاهبهم الخاصة ، كسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم ، انقرضت مذاهبهم عندما لم تجد دعماً سياسيّاً من السلطة ، ممَّا يعني أن للسلطة مآرب معيَّنة لتمرير أسماء الأربعة ، ومن ثمَّ سدّ الطريق عن غيرهم ، والأمر واضح وهو خلق قيادات فقهيّة بديلة عن أهل البيت(عليهم السلام)لكي يلتفَّ حولها عامة المسلمين .
أو ليس من العجيب فعلا أن كل ما جاء في أهل البيت(عليهم السلام)من آيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة كاشفة عن مكانة عظيمة ومرتبة رفيعة إذا لم نقل بالعصمة ، ألا تؤهِّلهم في نظر أهل السنّة ليتسلَّم أهل البيت(عليهم السلام)زمام الفتيا ، أو على أقل تقدير يختارون واحداً من أهل البيت ليكون من بين الأئمّة الأربعة ، حتى يأتي شيخ الأزهر شلتوت ليتصدَّق على أهل البيت(عليهم السلام)في القرن العشرين بأن يجعل الإمام الصادق (عليه السلام) إماماً خامساً مع الأئمة الأربعة ، مع أن أهل البيت(عليهم السلام)لا يقبلون الصدقة .
لقد تعجَّبت فعلا عندما ردَّدت أسماءهم في نفسي ( مالك ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ) فمعظمهم مشكوك في عروبته ، ناهيك عن كونه من آل البيت ، ثمَّ نتباهى بحبِّ ذرِّيَّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أيُّ حب هذا الذي لم يورثنا الثقة في علمهم وجدارتهم ؟ ومن الغريب أيضاً أننا لم نقبل حقَّ أهل البيت(عليهم السلام) في الخلافة ، متمسِّكين بأنّ الحق لا يثبت بمجرِّد القرابة ، فإن كان الحق لا يثبت بالقرابة فالحبُّ لا يكون أيضاً لمجرِّد القرابة ، إلاَّ إذا كان حبُّنا مجرَّد ادّعاء أجوف ، أمَّا إذا اعترفنا بأن هنالك مكانة خاصة ومرتبة رفيعة تؤهِّلهم للحبِّ غير قرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو نفسه يؤهّلهم إلى مرتبة الإمامة ، هذا مع أنّ الواقع التأريخي يثبت أنّ أئمة المذاهب الأربعة ـ بدءاً من مالك وانتهاءاً بابن حنبل ـ يدينون بالفضل والأعلميّة لأهل البيت(عليهم السلام) ، فإن كان للأربعة علم فهو من نفحات أهل البيت(عليهم السلام) ، ممَّا يكشف لنا مأساة التأريخ الأعمى الذي لا ينظر إلاَّ بعيون السلطة ، فإن كان بنظر أهل السنّة لا يوجد في أهل البيت فقهاء ، ألا يوجد فيهم علماء في العقائد والحديث ومعارف القرآن ؟ فمن أئمّة العقائد والتفسير والحديث عندنا ؟ ... لا يوجد من بينهم واحد من أهل البيت(عليهم السلام) ، فهل يحقُّ لأهل السنّة بعد ذلك أن يدّعوا أنهم محبُّون لأهل البيت(عليهم السلام) ؟
___________
1- تقدَّمت تخريجاته في المناظرة الخامسة .
2- كتاب الموطأ ، مالك : 2/899 ح3 ، ولفظ الحديث : وحدَّثني عن مالك أنّه بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال : تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما مسكتم بهما : كتاب الله وسنّة نبيِّه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
3- صحيح مسلم : 7/123 . وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث المتواتر .
4- سنن ابن ماجة : 1/16 ح42 ، شرح معاني الآثار ، ابن سلمة : 1/81 ، أحكام القرآن ، الجصاص : 1/530 .
5- راجع : صحيح البخاري : 8/127 ، صحيح مسلم : 6/3 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/86 ـ 93 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/617 ـ 618 .
أكذوبة المذاهب الأربعة
- الزيارات: 1270