حسمت لي تلك النقاشات مع بعض الاطلاع أحقّيّة المذهب الشيعي بجدارة ، ولم يكن بيني وبين الالتزام الكامل إلاَّ بعض الإشكالات الطفيفة التي لا تمسُّ بالجوهر ، مثل بعض الممارسات الشيعيّة في شهر محرَّم ; من اللطم على الصدور ، وضرب الرؤوس بالسيوف ، فسألت خالي وأنا مستنكرة لهذا الأمر : كيف يجوِّز الشيعة فعل ذلك ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ليس منّا من شقّ الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوة الجاهلية(1) ؟
خالي : أولا : هذا نقاش فقهيٌّ داخل الدائرة الشيعيّة ، ممَّا يعني أن الشيعة ملزمون باستنباط أحكامهم الشرعيّة فيما ورد عندهم من الأحاديث المرويَّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت(عليهم السلام) ، والحديث الذي ذكرته هو من أحاديث أهل السنة ، فهو ملزم لهم وليس للشيعة ، كما تقول القاعدة : ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم .
وثانياً : إذا سلَّمنا بهذا الحديث فهو بعيد كلَّ البعد عن مورد الاستدلال والاعتراض ، فالحديث يتكوَّن من ثلاثة محاور أساسية ، فإن اجتمعت في موضوع واحد تتعلَّق به الحرمة والنهي ، وهي : شقُّ الجيوب ، ولطم الخدود ، ودعوة الجاهلية ، والدليل على الاقتران هو حرف العطف ، فإن كان شقُّ الجيب لوحده حراماً ، وكذا لطم الخد لكان من المفترض استخدام حرف ( أو ) فيكون الحديث ( .. من شقّ الجيوب أو لطم الخدود أو دعا بدعوة الجاهلية ) فبالتالي لا تنصبُّ الحرمة على شقِّ الجيب إلاَّ بعنوان دعوة الجاهلية ، أمَّا من شقَّ جيبه بل شقَّ كل ملابسه ولطم خدَّه لأيِّ سبب يراه أو مصلحة يجلبها لنفسه أو حتى عبثاً ، ولم يدع بدعوة الجاهليّة ، لا يكون ملاماً أو معاتباً ، وأكثر ما يقال فيه إذا لم يكن هناك حكمة عقلائيَّة : إنّه مجنون ، فإذاً ليس شقُّ الجيب ولطم الخدِّ بمعزل عن دعاء الجاهليّة ، وهو الذي تدور عليه الحرمة ، وإنما تتحقَّق الحرمة ، ويتعلَّق النهي عن هذه التصرُّفات مع الدعاء بدعوة الجاهليّة ، وكذلك لا يكون الأمر محصوراً في شقِّ الجيب ولطم الخدِّ ، فالذي يضرب رأسه ويشدُّ شعره ويدعو بدعوة الجاهليَّة كذلك يشمله الحديث ، ومن هنا كان محور الحرمة ومناط الحكم هو دعوة الجاهليّة مع شقِّ الجيب أو ضرب الرأس أو أيِّ تصرُّف آخر ، وإلاَّ حكمنا بجواز من يحثو التراب على رأسه ويدعو بدعوة الجاهليّة .
فالحديث بعيد عن تصرُّفات الشيعة أيام محرَّم ; لأنهم لا يدعون بدعوة الجاهليّة ، فهم لا يدعون اللاّت والعزّى ومناة وهُبل ، ولا يدعون باسم العصبيّة القبليّة ، ولا كل العادات التي ذمّها الإسلام ، وإنما يدعون بدعوة الإسلام ، ودعوة التوحيد ، ويبكون على مصائب أهل البيت(عليهم السلام)التي هي مصائب الإسلام ، فالحديث بعيد عنهم .
قلت : ولكن ليس هناك أحد من كل العقلاء يستحسن ما يفعله الشيعة ، بل يستقبحونه ، ألا يكفي حكم العقلاء لتحريمه ؟
خالي : أولا : إذا نظرنا إلى حكم العقل بعيداً عن العقلاء فإن العقل لا يرى فيه قبحاً ; لأن العقل إذا نظر إلى أمر نظر له وهو مجرَّد عن كل العناوين وكل الاعتبارات ، فإذا جرَّدنا هذه التصرُّفات من كل عناوينها لا يتمكَّن العقل من الحكم عليها ; لأنها من الأمور غير الذاتيّة القبح أو الحسن كالعدل والظلم ، وإنما من الأمور التي يدور حكم العقل فيها مع العنوان ، فمثلا : الضرب كموضوع إذا نظرنا له بعيداً عن أيِّ اعتبار ليس قبيحاً ، وليس هو حسناً ، فإذا كان الضرب مع عنوان التأديب فهو حسن ، والضرب نفسه مع عنوان الإيذاء والظلم فهو قبيح ، فبالتالي الحسن والقبح يدوران مدار العنوان ، كذلك بعض الشعائر الحسينيّة ، فهي إمَّا أن تكون بعنوان إحياء أمر أهل البيت(عليهم السلام)وبالتالي إحياء الإسلام ، وإمَّا بأيِّ عنوان سلبيٍّ آخر ، فإن كانت بالأول فهي حسنة ، وإن كانت بالثاني فهي قبيحة ، وأظنُّ أنّ الأمر واضح أن هذه الشعائر بالقصد الأوَّل .
أمَّا حكم العقلاء فهو دائر مدار المصلحة العامة من الفعل أو المفسدة ، ولا يرى العقلاء أيَّ مفسدة في أن يقوم مجموعة من الناس بشعيرة معيَّنة لمصلحة تخصُّهم ، كما لا يرى مانع أن يخترع مجموعة من الناس احتفالا يعظِّمون فيه أمراً ما ، مثلا : كأس العالم في كرة القدم الذي يقوم كل أربع سنوات بإجراء منافسات دوليّة ينشغل بها كل العالم ، فلا يستقبح العقلاء هذا الأمر .
أمَّا حكم العرف والذوق والميل والحب والكراهية كلها عناوين لا يمكنها تشكيل معيار لمحاكمة أيِّ قضية ، فإذا كان هناك عرف لا يحبِّذ الشعائر الحسينيّة فهناك عرف آخر يحبِّذها بل يحترمها ، وكذا الحب والكراهية ، فما تحبينه أنت يكرهه الآخر ، فمن الخطأ أن نحاكم الشيعة برغباتنا الخاصة .
قلت : ولكنَّ الأمر يصل إلى حدِّ الضرر كضرب الرؤوس بالسيوف ، وهذه مفسدة واضحة ; لأن فيها ضرراً ، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه وقال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام(2) .
خالي : إذا نظرنا إلى هذا الحديث وأمعنّا فيه النظر نجد أنّ الاستدلال بهذا الحديث يكون كالتالي : كل ضرر حرام ، وضرب الرأس بالسيف ضرر ، إذاً هو حرام ، وهذا قياس منطقيٌّ واضح ، فإذا كان كل إنسان يموت ، وزيد إنسان ، إذاً زيد حتماً يموت ، أليس كذلك ؟
قلت : نعم ، فكيف تجوِّزونه إذاً ؟
خالي : مهلا ولا تتعجّلي ، حتى يكون هذا الأمر صحيحاً والقياس تاماً لابد أن تكون الكبرى سليمة كما يسمُّونها في المنطق ، وهي : كل ضرر حرام ، فهل كل ضرر على إطلاقه حرام ، فإذا كان كذلك لتوقَّفت كل الحياة ، وليست الشعائر الحسينيّة لوحدها ; لأن الضرر نسبيٌّ ، فكل فعل يفعله الإنسان فيه ضرر ، ففي الأكل ضرر كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه(3) ، وفي عدمه ضرر ، والنوم الكثير ضرر ، والقليل كذلك ، في القراءة ضرر ، وفي عدمها ضرر ، كذلك هناك أفعال في فعلها ضرر وفي تركها منفعة ، ولكنّها ليست حراماً بإجماع الأمّة ، مثل أكل بعض المأكولات الضارّة كالشحوم ، والفلفل الحار ، والسكر الأبيض ، وعشرات الأسماء ، فمع إمكان الإنسان التخلّي عنها إلاَّ أنه ليس ملزماً ، وباختصار ليس هنالك فعل إلاَّ فيه ضرر ، ممَّا يدعونا إلى التفكير في معنى الضرر المقصود في الحديث .
وهنا نتعرَّف على أنّ الضرر نوعان : ضرر حتميٌّ ، وضرر غير حتميٍّ ، أو بمعنى : ضرر مسموح به ، وضرر غير مسموح به ، فالضرر الحرام المقصود في الحديث هو الضرر الحتمي ، بمعنى حتماً يؤدِّي إلى هلاك الإنسان ، مثل أن يشرب الانسان كأساً من السمِّ ، أمَّا الضرر غير الحتمي هو أن يشرب الإنسان مثلا كأساً من القهوة ، فمع أنه فيه نسبة من الضرر إلاَّ أنه ضرر مأذون به .
قاطعته قائلة : ولكن في ضرب الرأس بالسيف ضرر حتمي ، فمن الممكن أن تصادف الضربة شرياناً ، ممَّا يؤدِّي إلى النزف المتواصل ، فيؤدِّي إلى موته .
خالي : هذا الاحتمال غير وارد ولا يعوَّل عليه ; لأن الاحتمال نوعان : احتمال عقلائي ، واحتمال غير عقلائي ، والفرق بين الاثنين أنّ الأول احتمال قائم على مجموعة من المبادئ العلمية ، والثاني عكسه ، فمن المحتمل أن يقع هذا البيت على رؤوسنا ، فهل نركض خارج الغرفة ؟!
قلت : لا ـ وأنا ضاحكة ـ لأن هذا مجرَّد احتمال سخيف .
خالي : وإذا قال لك مهندس مختص : بأن أعمدة البيت لا يمكنها حمل هذه الغرفة أكثر من يوم مثلا فهل تغادرينها ؟
قلت : نعم ، وإذا بقيت أكون رميت بنفسي في التهلكة !
خالي : هذا هو بالضبط الفرق بين الاحتمالين ، فقولك : من المحتمل أن تقطع الضربة شرياناً ، هو كالقول : من المحتمل أن تصدمك سيارة إذا عبرت الشارع ، فهل تتوقَّفين عن العبور ؟
قلت : لكن يا خالي ، إذا نظر إنسان إلى منظرهم وهم مضرّجون بالدماء في منظر تشمئزّ منه القلوب وخاصة غير المسلم ، ممَّا يجعله يستهجن هذا الدين الذي يجعل أتباعه غارقين في الدماء .
خالي : نعم معك حق ، إن هذا المنظر الذي يخرج به المطبّرون كما يسمّونهم منظر ( قد ) تشمئزُّ منه القلوب ، ولكن ليس عليهم عتاب ، ولكي تعرفي ذلك لابدَّ لنا من النظر في الجذر الثقافي الذي يرتكز عليه التطبير ، فهو لا يعدو كونه عملا فنّياً ولوحةً إبداعيةً تحاول أن تقترب من مأساة كربلاء ، فإذا أحضرنا مجموعة من الرسَّامين وكلَّفناهم برسم واقعة كربلاء فما هي اللوحات التي تتوقَّعين أن يرسموها ، غير رؤوس مقطَّعة ، وأياد مبتورة ، وخيام محروقة ، ونساء مفجوعة ، فهل يحقُّ لنا أن نعاتبهم على تلك الرسومات ونقول : كان أجدر بكم أن ترسموا لنا حدائق ومياهاً وزهوراً ، فالقبح إذاً ليس في اللوحة ، وإنما القبح في الواقع الذي حاولت أن تجسِّده اللوحة ، وإن صدق ذلك على اللوحة الورقيَّة يصدق أيضاً على اللوحة التي يشترك مجموعة من الناس في إخراجها كالعمل الدرامي مثلا ، فهذا الموكب الدرامي الذي يتكوَّن من مجموعة من الناس لا بسين الأكفان وهي ملطَّخة بالدماء ، وحاملين السيوف ، حقاً منظر تشمئزُّ منه النفوس ، ولكن ليس القبح فيه ، وإنما القبح في ذلك الواقع التأريخي ، وفي تلك المعركة المفجعة ، فالمأساة ليست في التطبير ، وإنما هي في كربلاء ، فهل نغيِّر حقيقة كربلاء أيضاً ؟!
قلت : هذا الكلام بصورته النظريّة مقنع ، ولكن عملياً أرى أنه بعيد ، فأنا لا أتصوَّر أن يدفعني أمر للقيام بضرب رأسي بالسيف .
خالي : الفعل يصدر من الإنسان عندما تكون هناك تهيئة نفسيَّة تناسب الفعل ، فإذا لم تتحقَّق فإن الدوافع النظريَّة ليست كافية ، فكثير من الأمور نعتقد بها نظريّاً ولكن لا نمارسها إلاَّ إذا كانت هناك تهيئة نفسيّة ، فمثلا ضرورة الأكل مقدِّمة نظريَّة ، ولكن لا يقدم الإنسان على الأكل إلاَّ إذا كان جائعاً ممَّا تستعدُّ نفسه للقيام بالأكل ، وكذا الأمثلة كثيرة ، فنحن خلافنا مع الذين يستنكرون هذه الشعائر خلاف نظريٌّ وليس عمليّاً ، فلم نطلب منهم المشاركة ، ومن هنا كان النقاش النظري ضرورياً معهم ، أمَّا التهيئة النفسيَّة فتحتاج إلى مقدِّمات من نوع آخر ، فمثلا الصوت الجميل في تلاوة القرآن يخلق جوّاً تهيج معه النفس ممَّا يجعلها تبكي ، وكذا الأغاني ، فإنّها تطرب النفس فتكون مقدِّمة للرقص ، وكذلك في محرَّم عندما يعيش الإنسان أجزاء كربلاء ، ويستنشق روائح تلك الدماء الزاكيات ، وتعلو النداءات بثارات الحسين (عليه السلام) ، وتدقُّ طبول الحرب ، تهيِّئ الإنسان نفسيّاً للقيام بتلك الشعائر التي تكون تعبيراً صادقاً لما يجول في نفسه من حبٍّ للإمام الحسين (عليه السلام) .
____________
1- مسند أحمد بن حنبل : 1/432 .
2- الكافي ، الكليني : 5/292 ـ 293 ح2 ، تهذيب الأحكام ، الطوسي : 7/146 ـ 147 ح35 ، مسند أحمد بن حنبل : 5/327 ، سنن ابن ماجة : 2/784 ح2340 و2341 ، المستدرك ، الحاكم : 2/57 ـ 58 .
3- روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ماملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، فإن كان لابد فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه . راجع : مشكاة الأنوار ، الشيخ علي الطبرسي : 564 ، سنن الترمذي : 4/18 .
الشعائر الحسينيّة
- الزيارات: 1008