وبعد هذه الخرافات وأمثالها كثير في البخاري، فهل يبقى الباحثون والعلماء المتحرّرون ساكتون ولا يتكلّمون؟
وسيقول بعض النّاس: لماذا التحامل إلاّ على البخاري؟ وقد يوجد في غيره من كتب الأحاديث أضعاف ما فيه، وهذا صحيح ولكنْ تناولنا البخاري بالتّحديد لما ناله هذا الكتاب من شهرة فاقت الخيال، حتّى أصبح كالكتاب المقدّس عند علماء السنّة، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ كل ما فيه صحيح لا يتطرّق إليه الشك.
ومنبع هذه الهالة وهذا التّقديس نشأ من السّلاطين والملوك، بالخصوص في العهد العبّاسي الذي وصل فيه الفرس إلى التحكّم في كل جهاز الدّولة، وكان منهم الوزراء والمستشارون والأطبّاء والفلكيون، يقول أبو فراس ذلك:
أبلغ لديك بني العبّاس مالكةً لا يدّعوا ملكها ملاّكها العجم
أي المفاخر أمست في منازلكم وغيركم آمرٌ فيها ومحتكم
وعمل الفرس كلّ جهودهم، واستعملوا كلّ نفوذهم حتّى أصبح كتاب البخاري في المرتبة الأُولى بعد القرآن الكريم، وأصبح أبو حنيفة الإمام الأعظم فوق الأئمة الثّلاثة الآخرين.
ولولا خوف الفرس من إثارة القومية العربية في عهد الدولة العبّاسية، لرفعوا البخاري فوق القرآن، ولقدّموا أبا حنيفة على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن يدري؟
وقد قرأتُ لبعضهم محاولات من هذا القبيل، إذ كان البعض منهم يقول صراحة: بأنّ الحديث قاض على القرآن، ويقصد بالحديث البخاري طبعاً، كما يقول: لو تعارض حديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع رأي واجتهاد أبي حنيفة لوجب تقديم اجتهاد أبي حنيفة، ويعلّل ذلك بأنّ الحديث يحتمل عدّة وجوه، هذا إن كان صحيحاً، أمّا إذا كان مشكوكاً في صحّته فلا إشكال.
وأخذت الأُمة الإسلامية تنموا وتكبر شيئاً فشيئاً، وهي دائماً مغلوبة على أمرها، يتحكّم في مصيرها الملوك والسّلاطين من الأعاجم، والفرس، والمماليك، والموالي، والمغول، والأتراك، والمستعمرين من الفرنسيين والإنكليز والإيطاليين والبرتغاليين، وحدّث ولا حرج.
ودأب أغلب العلماء على الجري وراء الحكّام، واستمالتهم بالفتاوى، والتملّق طمعاً فيما عندهم من مال وجاه، وعمل هؤلاء دائماً على سياسة "فرّق تسد"، فلم يسمحوا لأحد بالاجتهاد، وفتح ذلك الباب الذي أغلقه الحكّام في بداية القرن الثاني، معتمدين على ما يثار هنا وهناك من فتن وحروب بين السنّة، وهي الأغلبية السّاحقة، والتي تمثّل الأنظمة الحاكمة، والشيعة وهي الأقلية المنبوذة، والتي تمثّل في نظرهم المعارضة الخطيرة التي يجب القضاء عليها.
وبقي علماء السنّة مشغولون بتلك اللّعبة السّياسية الماكرة في نقد وتكفير الشيعة، والردّ على أدلّتهم بكل فنون النّقاش والمجادلة، حتّى كُتِبتْ في ذلك آلاف الكتب، وقُتِلتْ آلاف النفوس البريئة، وليس لها ذنب غير ولائها لعترة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورفْضِها للحكّام الذين ركبوا أعناق الأُمّة بالقوّة والقهر.
وها نحن اليوم في عهد الحريّات في عهد النور ـ كما يسمّونه ـ في عهد العلم وتسابق الدول لغزو الفضاء والسيطرة على الأرض، إذا ما قامَ عالم وتحرّر من قيود التعصّب والتقليد، وكتب أىّ شيء يُشمُّ منه رائحة التشيّع لأهل البيت، فتثور ثائرتُهم، وتُعبّأ طاقاتهم لسبّه وتكفيره والتشنيع عليه، لا لشيء سوى أنّه خالف المألوف عندهم.
ولو أنّه كتب كتاباً في مدح البخاري وتقديسه لأصبح عالماً علاّمة، ولانهالت عليه التهاني والمدائح من كلّ حدب وصوب، ولتمسّح بأعتابه رجال لا تُلهيهم صلاةٌ ولا صوم عن التملّق وقول الزّور.
وأنت تفكّر في كلّ هذا والدّواعي التي توفّرتْ لانحراف أكثر العباد، والأسباب التي تجمّعت لسيّاقه أغلب النّاس إلى الضلالة، فإذا القرآن الكريم يُوقِفك على سرّها المكنون، من خلال الحوار الذي دار بين ربّ العزّة والجلالة واللّعين إبليس:
{قَالَ مَا مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قَالَ أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أجْمَعِينَ}(1).
{يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللّهَ لا يَأمُرُ بِالفَحْشَاءِ أتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}(2).
ولذلك أقول لكلّ إخواني من المسلمين عامّةً: إلعنوا الشيطان ولا تتركوا له سبيلا عليكم، وتعالوا إلى البحث العلمي الذي يقرّه القرآن والسنّة الصحيحة، تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نحتج إلاّ بما هو صحيح ثابتٌ عندنا وعندكم، وندع ما اختلفنا فيه جانباً.
ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تجتمع أُمّتي على خطأ"(3)، إذاً فالحقّ والصواب فيما اجتمعنا عليه سنَّة وشيعة، والخطأ والباطل فيما اختلفنا فيه، ولو أقمنا إلاّ هذا العمود لعمّ الصفاء والوفاق والهناء، ولاجتمع الشمل، ولجاء نصر الله والفتح، ولعمّت البركة من السّماء والأرض.
فالوقت قد حان، ولم يعد هناك مجالٌ للانتظار، قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، ونحن كلّنا في انتظار إمامنا المهدي (عليه السلام) شيعة وسنّة، وقد طفحت ببشارته كتبنا، أليس هذا دليل كاف على وحدة مصيرنا.
فليس الشيعة إلاّ إخوانكم، وليس أهل البيت حكرة عليهم، فمحمّد وأهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) هم أئمة المسلمين كافّة، فلقد اتفقنا سنّة وشيعة على صحة حديث الثّقلين، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) "تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبداً كتاب الله وعترتي"(4)، والمهدي من عترته، أليس هذا دليل آخر؟
والآن وقد ولّى عصر الظلمات، وعصر الظلم الذي لم يظلم أحداً بقدر ما ظلم أهل البيت عترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتّى لُعنوا على المنابر، وقتلوا، وسبيتْ نساؤهم وبناتهم على مرأى ومسمع من كلّ المسلمين.
فقد حان الوقت لرفع المظلمة عن أهل البيت النبوي، ورجوع الأُمّة إلى أحضانهم الدّافئة التي مُلئتْ رأْفة ورحمة، وإلى حضيرتهم المُترعة التي مُلئتْ علماً وعملا، وإلى ظلّ شجرتهم الباسقة التي حازتْ فضلا وشرفاً، فقد صلّى عليهم الله وملائكته، وأمر المسلمين بذلك في كلّ صلواتهم، كما أمرهم بمودّتهم وموالاتهم.
وإذا كان فضل أهل البيت لا ينكره مسلم، وقد تغنّى به الشعراء على مرّ العصور، قال الفرزدق فيهم:
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هُمُ
من معشر حبهم دين وبغضهم كفرٌ وقربهم ملجى ومعتصم
مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم في كلّ برّ ومختوم به الكلم(5)
وقال فيهم أبو فراس الشاعر المعروف يمدح أهل البيت، ويشنئ العبّاسيين في قصيدته المعروفة بالشافعية، اخترنا منها:
يا باعة الخمر كفّوا عن مفاخركم لمعشر بيعهم يوم الهياج دم
خلّوا الفخّار لعلاّمين إن سئلوا يوم السؤال وعمّالين إن عملوا
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا ولا يضيعون حكم الله إن حكموا
تنشى التلاوة في أبياتهم سحراً وفي بيوتكم الأوتار والنّغم
الركن والبيت والأستار منزلهم وزمزم والصّفى والحجر والحرم
وليس من قسم في الذكر نعرفه إلاّ وهم غير شكّ ذلك القسم(6)
وقد نقل الزمخشري، والبيهقي، والقسطلاني أبياتاً عن الإمام أبي عبد الله محمّد بن علي الأنصاري الشاطبي لزبينا بن إسحاق النصراني يقول فيها:
عدىّ وتيم لا أحاول ذكرها بسوء ولكنّي محبّ لهاشم
وما تعتريني في علىّ ورهطه إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون: ما بال النصارى تحبّهم وأهل النّهى من أعرب وأعاجم
فقلت لهم: إنّي لأحسب حبّهم سرى في قلوب الخلق حتّى البهائم(7)
وقد كتب بعض النّصارى عدّة كتب في مزايا وفضائل علي بن أبي طالب خاصّة، وفي أهل البيت عامّة، وهو ما أشار إليه الإمام الشاطبي بقوله: "يقولون ما بال النصارى تحبّهم" وهي من العجائب التي بقيت لغزاً، وإلاّ كيف يعترف النّصراني بحقيقة أهل البيت ولا يسلم؟ اللهم إلاّ إذا قدّرنا أنّهم أسلموا، ولم يعلنوا عن ذلك إمّا رهبةً أو رغبةً.
وقد نقل صاحب كتاب كشف الغمة في صفحة 20 قول بعض النّصارى في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
علىٌ أمير المؤمنين صريمة وما لسواه في الخلافة مطمعُ
له النّسب الأعلى وإسلامه الذي تقدّم فيه والفضائل أجمُعوا
بأن عليّاً أفضل النّاس كلّهم وأورعهم بعد النبىّ وأشجعُ
فلو كنتُ أهوى ملّةً غير ملّتي لما كنت إلاّ مسلماً أتشيّع
فالمسلمون أولى بحبّ وموالاة أهل بيت النبوّة، فأجر الرسالة كلّها موقوفاً على مودّتهم.
وعسى أن يلقى ندائي آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وعيوناً مبصرة، فأكون بذلك سعيداً في الدّنيا والآخرة، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، ويتقبّل منّي، ويعفو عنّي، ويغفر لي، ويجعلني خادماً لمحمّد وعترته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) في الدنيا والآخرة، فإنّ في خدمتهم فوزاً عظيماً، إن ربّي على صراط مستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
محمّد التيجاني السماوي
____________
1- الأعراف: 12 ـ 18.
2- الأعراف: 27 ـ 30.
3- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 25، المستصفى للغزالي: 138، وفي سنن ابن ماجة 2: 1303 ح3950 بلفظ: "إنّ اُمتي لا تجتمع على ضلالة".
4- وقد أوضحنا في بحث سابق بأنّ هذا الحديث لا يتعارض مع حديث كتاب الله وسنّتي; لأنّ كتاب الله وسنّة رسوله هو كلام صامت ولابدّ لهما من ترجمان ومن مبيّن، فالرسول يرشدنا بأنّ المفسّر والمبيّن للقرآن والسنّة هم عترته من أئمة أهل البيت الذين يشهد المسلمون كافة أنّهم مقدّمون على غيرهم في العلم والعمل. (المؤلّف).
5- الفصول المختارة للشيخ المفيد: 39، تاريخ دمشق 41: 402، تهذيب الكمال للمزي 20: 402، البداية والنهاية 9: 127.
6- راجع الغدير 3: 401.
7- المواهب اللدنية للقسطلاني 2: 532 الفصل الثالث في ذكر محبة أصحابه وآله، الغدير 3: 8 عن ربيع الأبرار للزمخشري والمحاسن والمساوئ للبيهقي.
خاتمة البحث
- الزيارات: 867