• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ولادته

كانت ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجزيرة العربية بالحجاز في (مكة المكرمة)، وكما يذكر أكثر المؤرخين فإنها كانت في السابع عشر من ربيع الأول لعام الفيل (الواقعة المشهورة) أو ما يقارب سنة (570 م) (1).
وولد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتيم الأب إذ أن أباه توفي قبل ولادته، أو بعدها بشهرين، وقد ذكر المؤرخون في الكتب التاريخية وقوع حوادث عجيبة عند ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منها: ارتجاس إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة منه، وانخماد نار فارس التي كانت تعبد، وجفاف بحيرة ساوة، وتساقط الأصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، وخرج نور معه (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ولادته، وغيرها من الحوادث العجيبة المذكورة في كتب التاريخ (2).
وأما تسميته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن له أسماء كثيرة أشهرها اسمان أحدهما (أحمد) إذ سمته أمه بذلك كما أمرت في المنام، وسماه جده عبد المطلب في اليوم السابع
(عندما عق عنه بكبش واحتفل بميلاده) (محمد) وعندما سئل عن سبب تسمية المولود بهذا الاسم أجاب أردت أن يحمده الله في السماء وتحمده الناس في الأرض (3) وقد اشتهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذين الاسمين منذ صغره ونرى ذلك واضحا في أشعار عمه أبي طالب.

رضاعه

كان المشهور من عادة العرب أن يدفعوا أولادهم الرضع إلى النساء اللاتي يعشن في البادية، لينشأ الطفل في تلك البيئة (المعروفة بحسن مناخها وعذوبة مائها، وفصاحتها) وهو ذو بنية قوية، فصيح اللسان، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرضع من أمه إلا ثلاثة أيام، ثم نالت شرف إرضاعه امرأتان:
أولا: ثويبة: مولاة (أبي لهب) فقد أرضعته لفترة أربعة أشهر فقط، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقدر عملها هذا حتى آخر لحظات حياتها، فكان يكرمها كثيرا لعملها هذا.
ثانيا: حليمة السعدية التي كانت من قبيلة سعد بن بكر بن هوازن، وكانت مراضع بني سعد مشهورات بهذا الأمر بين العرب، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تجاوز شهره الرابع لما قدمت نساء من بني سعد إلى مكة، وكانت هذه القبيلة تسكن أطراف مكة، وكانت نساء هذه القبيلة يأتين كل عام في موسم خاص يلتمسن الرضعاء ويذهبن بهن إلى البادية، وقد دفع جد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (عبد المطلب) حفيده إلى حليمة السعدية، وبقي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بني سعد خمس سنوات وفي بعض الكتب أربع سنوات، ثم أرجعته إلى أمه آمنة بنت وهب، ويذكر المؤرخون بعض المعاجز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الفترة أيضا (4).
وتذكر حليمة أن الخير والبركة حلا بحلول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دارها، وكان يشب (صلى الله عليه وآله وسلم) لا كما يشب الأطفال حيث تقول إنه حين بلغ تسعة أشهر كان يتكلم بالكلام الفصيح، وقد نقل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد بعثته أنه كان يقول لأصحابه أنا أعربكم أي أفصحكم عربية، أنا قرشي واسترضعت في بني سعد (5).

طفولته

بعد فترة من رجوعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من البادية إلى أحضان والدته آمنة بنت وهب، أخذته أمه لزيارة قبر والده (عبد الله) الذي توفي في يثرب على أثر مرض ألم به، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رآه قط، وهي الزيارة الأولى التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قبر والده، وعند العودة من هذا السفر، شاءت الأقدار الإلهية أن يفقد هذا اليتيم أمه أيضا، قبل وصوله إلى مكة، في منطقة يقال لها الأبواء وله من العمر ست سنين، وقيل أكثر من ذلك قليلا (6).
فذاق هذا الطفل الحرمان منذ طفولته، و قد تكفل به جده عبد المطلب سيد قريش، وكان يحبه كثيرا، وشديد الرعاية له، فإنه كان يفضله على جميع ولده، وكانت ملامح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والبركات والمعجزات التي رافقته منذ ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم) تدفع جده إلى التنبؤ بمستقبل عظيم لهذا اليتيم، حيث ينقل المؤرخون عنه أنه كان يقول:
أن لابني هذا شأنا، ولكن طواغيت وجبابرة مكة لم تكن تعلم يومئذ ما تخبئه الأيام القادمة من أمر يتيم عبد المطلب هذا...
ولم يدم هذا الحنان والعطف الذي أحاطه به جده (عبد المطلب) كثيرا، إذ أن الموت، سنة الله في خلقه، نزل به ولم يكمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الثامنة من عمره، واعتصر قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألما وحزنا على فراق جده العطوف، الذي كان بلسما لجراحات يتمه، وأوصى به جده حين وفاته ابنه (أبا طالب) عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان أخا لعبد الله والد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أم واحدة، فتكفله أبو طالب، وشمله برعايته وعطفه، فكان خير كفيل له في صغره، وخير ناصر ومعين عندما أحتاج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأنصار لنشر دعوته، وكان أبو طالب معروفا بين أهل مكة بجوده وكرمه، فهو سيد بني هاشم، ومع أنه كان فقيرا فقد خضع له القريب والبعيد.
وقد جاء عن وصي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: إن أبي ساد الناس فقيرا، وما ساد فقير قبله (7)، وكانت زوجة أبي طالب أيضا تشمله برعايتها الخاصة، وتحرص عليه أكثر من أولادها، ويمكن القول بأن أبا طالب وزوجته فاطمة بنت أسد استطاعا أن ينسيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرارة اليتم، بالرعاية التي أحاطاه بها، وتنقل كتب التاريخ أن فاطمة بنت أسد كانت في سني الجدب والقحط التي مات الناس فيها جوعا تحرم أولادها القوت وتطعمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الثانية عشرة من عمره الشريف، اصطحبه معه أبو طالب في سفره التجاري إلى الشام، ولما وصل إلى منطقة تدعى بصرى، وقعت حادثة أدت إلى أن يرجع أبو طالب إلى مكة مع ابن أخيه قبل أن يصلا إلى الشام، وتلك الحادثة تنقلها كتب التاريخ بتفصيل، ونحن ننقلها هنا باختصار:
لما نزل الركب (بصرى) من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية، وينقل أنه كان قد انتهى علم الكتاب إليه، إذ توارثه كابر عن كابر، عن أوصياء عيسى (عليه السلام) فلما نزلوا، وكانت القوافل التجارية لقريش كثيرا ما تمر من هذا المكان فلا يكلمهم الراهب بشئ، ولكنه في هذه المرة، عندما رأى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه غمامة تظله من بين القوم، صنع لهم طعاما ودعاهم إليه، فقال رجل منهم للراهب أن اليوم لك شأنا، ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا، فقال الراهب: صدقت ولكنكم ضيف وأحببت أن أكرمكم، ولما جاءوا إلى الصومعة، جعل بحيرا الراهب يلحظ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها عنده من صفته، فلما تفرقوا، أنفرد الراهب بالنبي (صلى الله عليه و آله وسلم) وسأله عن أشياء في حاله، في يقظته ونومه، فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، فسأل الراهب عن وليه فقالوا هو أبو طالب، فقال له بحيرا: إنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، نجده في كتبنا وما أخذناه عن آبائنا، هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين احذر عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت يبغونه شرا فلما سمع أبو طالب كلام الراهب، رجع به إلى مكة (8).

شبابه

لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما يتصف به من الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة، قدوة بين قومه و عشيرته منذ شبابه، ومثالا للنبل والشرف والشجاعة والصدق والأمانة، فكانوا يلقبونه (بالصادق الأمين)، فقد حضر (صلى الله عليه وآله وسلم) (في حلف الفضول) (9) وهو لم يبلغ العشرين من عمره.
وينقل التاريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشتغل في فترة شبابه في رعي الغنم، وقضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شطرا من عمره في هذا المجال، وبسبب الوضع المعيشي الصعب الذي كان يواجهه، اقترح عليه عمه أبو طالب العمل في التجارة وكانت في مكة امرأة ذات مال كثير، وذات شرف عظيم، تستثمر أموالها في التجارة وهي خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها)، كانت تضارب الرجال بشئ تجعله لهم من أرباح التجارة، وكانت تبحث عن رجل أمين لإدارة تجارتها، وبما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشتهرا بين الناس بأمانته وصدقه كما ذكرنا، لذا بعثت إليه خديجة وعرضت عليه العمل معها قائلة له أني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك وأبعث معك غلامين يأتمران بأمرك في السفر، فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه بذلك فقال له: أن هذا رزق ساقه الله إليك (10).
فقبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك العرض، وخرج بمال خديجة ذلك العام قاصدا الشام للتجارة، ووصل إلى الشام وباع البضاعة، وربح ربحا كبيرا، كما أنه اشترى بضاعة لبيعها في مكة، وأقبل راجعا إلى مكة ومعه الربح الكثير، وأخبر أحد الغلامين واسمه (ميسرة) خديجة عند رجوعه إلى مكة، بحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض الكرامات التي لمسها منه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك عن أخلاقه وخصاله الكريمة، وأبلغها بالربح الكبير الذي أصابهم من تجارتهم هذه فينقل عنه أنه قال لقد ربحنا في هذه الرحلة ما لم نربحه من أربعين سنة ببركة محمد (11).
ففرحت خديجة (رضي الله عنها) عندما سمعت ذلك من الغلام، وكانت خديجة من خيرة نساء قريش شرفا، وأكثرهن مالا، وأحسنهن جمالا، وأقواهن عقلا وفهما، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة لشدة عفتها، ولمكانتها الرفيعة كان أشراف قريش كلهم حريصين على الاقتران بها (إذ أنها لم يكن لها زوج وقد بلغت الأربعين من عمرها كما تذكر كتب التاريخ) وكانوا يقدمون لها العروض المغرية، ولكنها كانت ترفضهم الواحد بعد الآخر، ولكن بعد ما سمعت ورأت من صفات وأخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثت إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت له: يا بن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، وعرضت عليه الزواج منها، فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه أبا طالب وأخبره بأنه يريد الزواج من خديجة، ففرح عمه بذلك، فقصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع نفر من أعمامه يتقدمهم أبو طالب طالبا خديجة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان والدها قد توفي، فخطبها عمه أبو طالب من عمها (عمر بن أسد) وخطب أبو طالب خطبته وقال:
الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم (عليه السلام) وذرية إسماعيل (عليه السلام) وجعل لنا بيتا محجوبا، وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، وأن ابن أخي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يوازن برجل من قريش إلا رجح عليه، ولا يقاس بأحد إلا كان أعظم منه، وإن كان في المال قل، فإن المال رزق حائل وظل زائل وله في خديجة رغبة، ولها فيه رغبة، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع (1). فتزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة وهو ابن الخامسة والعشرين من عمره الشريف، وكانت خديجة خير سند ومعين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل دعوته وبعدها، فإنها قدمت كل ما تملك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت له بيتي بيتك وأنا جاريتك، ويتضح من خلال سيرتها أنها كان قمة في الأخلاق والوفاء والتضحية، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يجل قدرها، ويعظم منزلتها، إذ أنه لم يتزوج عليها غيرها حتى رحلت إلى الرفيق الأعلى وفاء واحتراما لها، والأحاديث في فضلها ومنزلتها التي تنقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرة.
وقد أنجبت له (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة أولاد: ولدان، وأربع بنات وهم:
القاسم (وقد كني به (صلى الله عليه وآله وسلم)) و عبد الله اللذان كان يدعيان أيضا ب‍ الطاهر والطيب وأربع بنات هن: رقية، زينب، أم كلثوم، وفاطمة (عليها السلام)، وأما الذكور من أولاده (صلى الله عليه وآله وسلم) فماتوا قبل البعثة، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام (12).
ومما تذكره كتب التاريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعبد صنما قط طوال حياته، وأما سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ زواجه من خديجة وحتى بعثته، فالمشهور عنه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشتغل باللعب واللهو أبدا كما كان يفعل الرجال، بل كان يعيش كالحكماء والأنبياء حتى قبل بعثته، فبالرغم من الأموال الطائلة التي وضعتها خديجة تحت تصرفه، كان يعيش الحياة البسيطة الخالية من كل ترف وبذخ، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقضي معظم أوقاته في التفكر والتأمل، وكثيرا ما كان يلجأ إلى سفوح الجبال المغارات للخلوة مع ربه، والاشتغال بعبادته جل وعلا، وكان إذا تأخر (صلى الله عليه وآله وسلم) عن خديجة علمت أنه يتعبد خارج مكة.
ومن الأحداث المشهورة في كتب التاريخ والتي تشير إلى حكمته (صلى الله عليه وآله وسلم) هي حادثة هدم الكعبة وبنائها من جديد، فينقل المؤرخون أنه تم هدم الكعبة وبناؤها من جديد لأنها تصدعت من أثر السيل الذي أصابها، ولما تكامل البناء إلى موضع الركن، وقعت الخصومة بينهم فيمن يرفع الحجر الأسود ليضعه في مكانه، وكاد أن ينشب القتال بينهم، لأنهم يرون أن من يضع الحجر الأسود في مكانه يكون له الفضل والسيادة والفخر، ثم تشاور شيوخهم واتفقوا أن يكون أول وافد عليهم هو الذي يضع الحجر الأسود مكانه، وكان أول من وفد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رأوه استبشروا بقدومه، وقالوا لقد جاءكم الصادق الأمين، وأخبروه بما اتفقوا عليه، فقال لهم هلموا إلي ثوبا كبيرا فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده، ثم ألتفت إلى شيوخهم وقال لهم لتأخذ كل قبيلة بطرف منه ثم ارفعوه جميعا، فانبهر الجميع لحكمته (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو بعمله هذا حفظ حقوق الجميع، ولم يعط لأحد امتيازا على الآخرين.

بعثته

لقد كانت مسألة ظهور نبي في آخر الزمان من الأمور الرائجة في تلك المنطقة في ذلك الزمان، وقد اتفق المؤرخون على أنه قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ظهرت بوادر التنكر للوثنية بين العرب في شبه الجزيرة العربية فكان هناك من يترقب ظهور نبي ينقلهم من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الإله الواحد، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل، ورقة بن نوفل، عبيد الله بن جحش وآخرون غيرهم، ينقل عن زيد بن عمرو بن نفيل وهو يوصي ابنه قائلا:
أنا ننتظر نبيا من ولد إسماعيل ولا أراني أدركه، بين كتفيه خاتم النبوة، اسمه أحمد، يولد ويبعث في هذا البلد (مكة) فإياك أن تخدع عنه، فأني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من اسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه بمثل ما نعته لك، ويقولون يبق نبي غيره (14).
وكما ذكرت فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان غالبا ما يلجأ إلى الجبال لفترة من أجل الخلوة والعبادة والتفكر، وكان يقضي أكثر الأوقات في (غار حرا) (15). فكان يقضي شهر رمضان كله من كل عام في غار حراء مكتفيا بالقليل من القوت تحمله إليه زوجته الوفية خديجة، وفي غير شهر رمضان أيضا كان يقضي أوقاتا طويلة في هذا الغار مستغرقا ومنقطعا عن الدنيا، ومهيئا نفسه لأمر عظيم ينتظره.
وفي ذلك الغار تجلى الكلام الإلهي على لسان الروح الأمين (جبرئيل)، موحيا ببداية آخر الرسالات الإلهية وأعظمها، وفيه اختار الله سبحانه عبده ورسوله (محمدا) (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصدع بالدين الخاتم، وفيه نزلت أول آيات القرآن الكريم الكتاب الإلهي كتاب الهداية والسعادة.
نعم في غار حراء كانت البداية، فبعد أن قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فترة طويلة في العبادة والانقطاع إلى خالقه، جاءه رسول ربه - جبرئيل الأمين - يناديه بصوت لا ينفذ لغير قلبه قائلا اقرأ يا محمد فيصغي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجيب ما أنا بقارئ حيث أنه كان لم يدرس عند أحد، ويردد عليه جبرئيل القول، ويكرر النبي
 (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أنا بقارئ وفي المرة الثالثة أمره أن أقرأ، فوجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه القدرة على القراءة بإذن الله، فقرأ عليه الأمين جبرئيل (عليه السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ معه أول آيات كتاب الهداية للبشرية: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) * (16). وسمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل، وبعدها توجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيت خديجة، وحدثها بكل ما سمع ورأى من أمر جبرئيل (عليه السلام)، فعظمت خديجة أمره وآمنت به.. وكانت بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السابع من شهر رجب، وقد بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأربعين من عمره الشريف.

الدعوة إلى الإسلام

بدأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته سرا، فكان يدعو الناس إلى الإسلام بالخفاء، من خلال اتصاله الشخصي بمن يراه مؤهلا وصالحا للدعوة ومستعدا لقبول النور الإلهي، وأول من آمن به من النساء زوجته خديجة، ومن الرجال ابن عمه ووصيه (علي بن أبي طالب (عليه السلام))، واستمرت دعوته السرية (صلى الله عليه وآله وسلم) مدة ثلاث سنوات، استطاع خلالها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجذب إليه جماعة من الناس، قبلوا دعوته وآمنوا بالله الواحد وكفروا باللات والعزى (صنمي قريش)، ولكنهم حاولوا قدر الإمكان أخفاء أيمانهم خوفا من بطش طواغيت قريش.
ولكن سرعان ما وصلت أخبار دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أسماع مشركي قريش، ولكنهم سخروا منها لأنهم لم يشعروا بخطر يهددهم، ولا سيما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتعرض لأصنامهم بسوء بصورة علنية خلال دعوته السرية..
وبعد هذه الفترة، جاء الأمر الإلهي ببدء الدعوة العلنية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل سبحانه * (واصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) * (17). فأعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يدعو إليه سرا، وأمره الله سبحانه أولا بعشيرته وأقربائه * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (18).
فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سادة عبد المطلب وشيوخهم إلى مأدبة، ولما فرغوا من الطعام تلكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا: أن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو أني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون وإنها الجنة أبدا والنار أبدا، ثم أضاف يا بني عبد المطلب أني والله لا أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، أني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فسكت القوم جميعا. وقام (علي بن أبي طالب عليه السلام) وقال أنا يا رسول الله، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.. فقام القوم يضحكون مستهزئين به (190).
وبعدها تسربت أخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته في مكة وخارجها، ولم يعد أمرها خافيا على أهل مكة والقرى المجاورة، وشرع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنشر تعاليم ربه بين الناس، يأمرهم بعبادة الله وحده ونبذ الأوثان والأصنام، ويدعو إلى العدل والمحبة ويؤكد على كرامة الإنسان وحريته، وينهاهم عن الظلم والفسق والفواحش، عندها أحس طواغيت قريش بالتهديد والخطر الذي يواجههم، فرأوا في دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحديا لدينهم وإساءة لآلهتهم وأصنامهم، وتهديدا لمصالحهم، فتشاوروا وأجمعوا على القضاء على دعوته قبل استفحالها فاستخدموا شتى الوسائل من تهديد وترغيب وتعذيب، فكانوا يعذبون كل من آمن بدعوته عذابا شديدا قد يصل في بعض الأحيان إلى الموت، ولكن بالرغم من كل هذا، كان الناس يرون أن تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقرب إلى فطرتهم، فيدخلون في الدين الجديد ويتحملون الأذى والصعاب في سبيل الله.
وحاولت قريش التعرض للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن وجود عمه أبي طالب كان يحول دون ذلك، إذ أنه كان سيد بني هاشم وأمره مطاع بينهم، وكانت عشيرة بني هاشم وبني عبد المطلب يحسب لها حسابا خاصا في مكة، ولذلك لم يجرؤوا على التعرض للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة وأنهم يعلمون شدة العلاقة والمحبة بين أبي طالب والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
واستمر انتشار الإسلام وتعاليمه في مكة، واعتنق هذا الدين أناس من مختلف القبائل، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستغل فرصة حج القبائل إلى مكة في كل عام، فيعرض الدين على القبائل المختلفة التي تقصد مكة، ولرفعة تعاليم الإسلام وجاذبيتها، ونزول القرآن الكريم ببيانه الإعجازي، وخلق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعامله وفصاحته، كانت الناس تندفع إلى قبول هذا الدين الجديد، فأصبح له أنصار وأتباع في مكة وخارجها.
فأحس طواغيت قريش أن دينهم وآلهتهم وأصنامهم في خطر كبير، فجاءوا إلى أبي طالب كفيل الرسول وحاميه وأبلغوا تهديدهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطته وقالوا: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وأنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب ألهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
فجاء أبو طالب وأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قاله زعماء قريش، فكإن الرد النبوي بأنه لن يترك دعوته لأنها أمر إلهي، فلما علموا ذلك احتالوا أن يسلكوا طريق الترغيب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعرضوا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون أكثرهم مالا، وأن يجعلوه ملكا وسيدا عليهم ويعطوه كل ما يريد شرط أن يتخلى عن دعوته ويرجع إلى ملتهم، فجاء رد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدوي عبر التاريخ يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي (يساري)، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته (20)، ليعلن موقفه الثابت.
مما دفع بالمشركين إلى تصعيد حملات التعذيب للمسلمين، ونشر الإشاعات والكذب عن شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشتمه وقذفه.

الهجرة إلى الحبشة

لما رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن حملات التعذيب اشتدت على المسلمين، وليس له القدرة على دفع الأذى عنهم أمرهم بالخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة، وقال لهم أن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد.
حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، وهي الهجرة الأولى للمسلمين.
وكان بالحبشة ملك نصراني يدعى (النجاشي) معروف بعدالته، وبعد ما وصل بعض المسلمين إلى الحبشة ورأوا حسن المعاملة هناك، بدأت الهجرة الثانية للمسلمين إليها، وكان عددهم أكبر بكثير من المهاجرين الأوائل للحبشة، وقد وجد المسلمون بلاد الحبشة كما وصفها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلاد آمنة، فلم يتعرضوا فيها إلى مضايقة. ولما
وصلت أخبارهم إلى المشركين في مكة، امتلأوا غيظا وأصابهم الذعر خشية نفوذ تعاليم الإسلام بين أهل الحبشة، لذا أسرعوا في أرسال وفد إلى النجاشي، مع هدايا كثيرة طالبين منه إعادة الذين هاجروا من مكة، فلما وصل الوفد قالوا للملك:
أن الذين هاجروا إليك هم سفهاء فارقوا دين قومهم وجاءوا بدين جديد، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم لتردهم إليهم فدعا الملك المهاجرين وأحضرهم عنده يسألهم عن أمرهم، وكان متكلمهم (جعفر بن أبي طالب) فسأله النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟
فأجابه جعفر قائلا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا في ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا بين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فأثر حديث جعفر بالملك، فقال له: هل معك مما جاء به عن الله من شئ؟ فقال جعفر نعم، فقرأ جعفر مطلع سورة (مريم) والتي تبين طهارة وعفة مريم (عليها السلام) وقدسيتها وعظمة مقام المسيح (عليه السلام) وعلو شأنه، فلما سمع النجاشي ذلك بكى حتى اخضلت لحيته بالدموع وبكت الأساقفة و قال النجاشي: أن هذا والذي جاء به عيسى (عليه السلام) ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى موفدي قريش وقال، انطلقا فلا والله فلا أسلمهم إليكما، ورد إليهم هداياهم (21).
وتنقل الكتب التاريخية أنه أسلم بعد ذلك، ولما رجع الوفد إلى مكة خائبا، عمد المشركون وطواغيت مكة هذه المرة إلى الحصار الاقتصادي والاجتماعي.

الحصار الاقتصادي والاجتماعي

وبعد كل هذه المحاولات البائسة من قبل طواغيت قريش اجتمعوا وقرروا في هذه المرة على فرض الحصار الاقتصادي والاجتماعي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعشيرته لإجبارهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتخلي عن موقفه ودعوته، فكتبوا صحيفة و علقوها في جوف الكعبة وتعاقدوا فيها على أن لا ينكحوا من بني هاشم و بني المطلب ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم (22).
فلما فعلت قريش ذلك انحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فأمرهم أبو طالب بالخروج من مكة ودخول وادي بين جبال مكة يعرف ب‍ (شعب أبي طالب) وقد أستمر هذا الحصار مدة ثلاث سنين، وكان شديدا وقاسيا كما ينقل المؤرخون وكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم فيأتون إلى مكة فيشترون ويبيعون رغم مضايقة قريش لهم في هذه الفرصة أيضا، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتهز هذه الفرصة لنشر دعوته بين القبائل التي تقصد مكة عادة في هذه الفترة.
واستمر الحال كذلك إلى أن أوحى الله سبحانه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن (الأرضة) (23) قد أتلفت صحيفتهم ولم يبق فيها إلا جملة (باسمك اللهم) فأخبر النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) عمه أبو طالب بذلك، فجاء أبا طالب مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مشركي قريش قال لهم: أن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله سبحانه أوحى إليه أنه بعث على صحيفتكم الدابة فأكلت جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم الله فقط، فهلم صحيفتكم فإن كان حقا فاتقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه، وإن كان باطلا دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه.
فرضوا بذلك وتعاقدوا عليه ثم أنزلوا الصحيفة من الكعبة وإذا ليس فيها حرف إلا جملة (باسمك اللهم) كما أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن رغم ذلك بم يوفوا بعهدهم وازدادوا تكبرا وتعندا، ولكن بعض المشركين ندموا على فعلتهم ونقصوا المقاطعة فرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعشيرته إلى مكة ثانية (24).
ولكن و بعد فترة من رجوعهم أصاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حادث مؤلم وهو رحيل زوجته الوفية خديجة التي عاضدته طوال فترة دعوته بكل وجودها، فتألم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا لهذا المصاب، ولم ينقضي حزن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أصيب بنكسة أعظم وهي وفاة كفيله وحاميه والمدافع عنه عمه أبي طالب، الذي عانى وأهله الكثير وعرض نفسه للموت و الحرمان من أجل نشر الدعوة الإلهية، فعظمت المصيبة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ينقل عنه أنه ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب وذلك لأن قريش شددت بعد ذلك من آذاها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا.

هجرته (ص)

بعد أن فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه أبا طالب وزوجته، واجه ظروفا صعبة للغاية، وأحدقت به الأخطار وأصبحت تهدد حياته، فعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الخروج من مكة لأنه أحس أن تبليغ الدعوة في مكة لم يعد ممكنا، فاتجه نحو الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام، فأبوا ذلك ورفضوه، و لم يكتفوا بالرفض بل قذفوه بالحجارة حتى سالت دماؤه، فرجع إلى مكة.
ورغم الاضطهاد الذي واجهه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، استمر في نشر الرسالة الإلهية بين القبائل الوافدة إلى مكة في موسم الحج والاتصال بأشرافها، وكان العرب من أهل يثرب من قبيلة الأوس والخزرج ممن يأتون إلى مكة في كل موسم فيعرض عليهم الإسلام، فكانوا عندما يعودون إلى يثرب ينقلون أخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هناك فانتشرت أخباره في يثرب، ولكن لم يؤمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته.
وفي أحد الأيام التقى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجماعة من قبيلة الخزرج ودعاهم إلى الإسلام فأمنوا وكانوا ستة أشخاص، ومما ساعد على أيمان هؤلاء أن اليهود كانوا مجاورين لهم في يثرب، وكانوا إذا وقع بينهم نزاع، توعدهم اليهود بأن نبيا سيبعث، وقد أطل زمانه سنتبعه ونقتلكم قتل عاد وأرم، ولما التقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا إنه النبي الذي كان اليهود يتوعدوننا به، فلا يسبقونكم إليه، فآمنوا به واتبعوه، وعادوا إلى يثرب واستطاعوا من نشر هذه الدعوة هناك، فأعتنق عدد من أهل يثرب الإسلام، فلما كان العام الثاني جاء من يثرب اثنا عشر رجلا والتقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعقبة فبايعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وآمنوا به.
وبدأ الإسلام ينتشر شيئا فشيئا في يثرب، وفي العام المقبل جاء أناس كثير من أهل يثرب لأداء مناسك الحج وللاستماع إلى دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمن الكثير منهم وكانت البيعة الثانية، وبهذا بنيت أول قاعدة للإسلام في يثرب فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين في مكة بالهجرة إلى يثرب، ولم يبق في مكة سوى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيه علي بن أبي طالب وبعض المسلمين، ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أيضا تاركا مكة إلى يثرب سنة 14 من البعثة، واستقبل في يثرب استقبالا رائعا و بهذا انتهت المعاناة والشدائد الذي واجهها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة من قبل المشركين.
ولكن المشركين لم يقفوا مكتوفي الأيدي وقد تجرعوا كأس الذلة والهوان، فاستمروا في محاربتهم للدعوة الإلهية من خلال الدسائس والتآمر على المسلمين، ووقعت معارك بين المسلمين والمشركين، كمعركة بدر وأحد وغيرها، وبين المسلمين واليهود كمعركة خيبر وغيرها. واستطاع المسلمون خلال فترة قصيرة من تقوية شوكتهم، فأصبحوا قوة لا يستهان بها واستطاع النبي من تأسيس الدولة الإسلامية في يثرب ومنها تم نشر دعوته إلى العالم كله.

فتح مكة

في السنة السادسة للهجرة قصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة لأداء فريضة الحج مع أنصاره وأتباعه، فخرج إلى مكة مع ألف وستمائة رجل وهو لا يحمل سلاحا سوى ما يحمله المسافر عادة، ولما علمت قريش بذلك اتفقت على منع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من دخول مكة، ولما وصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منطقة قريبة من مكة يقال لها (حديبية) بعثت قريش من يفاوض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعقد معه صلحا سمي (صلح الحديبية) واتفقوا على أن لا يدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة في هذه السنة ويسمحوا بالعام القادم من دخولها، وإيقاف الحرب بينهم لمدة عشر سنوات وغيرها من البنود فوافق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع إلى يثرب مركز حكومته.
وهي هذه الفترة بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسائله إلى الملوك والأمراء في مختلف نقاط العالم يدعوهم إلى التوحيد والإسلام، فبعث إلى قيصر ملك الروم، وإلى ملك الفرس، وإلى ملك الحبشة، وإلى أمير الغساسنة في الشام وإلى مصر واليمن وغيرهم.
وفي السنة القادمة دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة حسب الاتفاق مع الفين من المسلمين لأداء مناسك الحج وإظهار العبودية لله سبحانه وحدة لا شريك له وتركت زيارته هذه الأثر الكبير في نفوس بعض المشركين فاعتنقوا الإسلام، فلما أحس زعماء قريش بهذا الأمر، طلبوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مغادرة مكة بعد أداء مناسك الحج مباشرة، فقبل النبي ورجع إلى يثرب بعد أداء مناسك الحج.
وبعد مدة من الزمن نقضت قريش الاتفاق والصلح الذي عقدته مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلح الحديبية، بغارتها على حلفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين جاءوا واستنجدوا به، فأمر النبي (صلى عليه وآله وسلم) بتجهيز جيش ضخم قوامه عشرة آلاف رجل ليدخل مكة فاتحا، ولما سمعت قريش بذلك أصابها الرعب، فجاء زعيم المشركين (أبو سفيان) معتذرا ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصر على دخول مكة فاتحا فاستسلم المشركون ودخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة فاتحا من دون قتال...
وكان النصر الإلهي العظيم... فها هو يتيم عبد المطلب الذي قاسى وعانى من طواغيت قريش الذين شتموه واستضعفوه وعذبوه واستهزؤا به، يدخل مكة قائدا لجيش يرعب القلوب فاتحا منتصرا ناشرا لدعوته رغم أنف المشركين ومحطم أصنامهم وأحلامهم، ليظهر الله سبحانه دينه، فانتشرت أنوار التوحيد في ربوع مكة وأسلم أغلب أهلها، وعاد المهاجرون إلى وطنهم وأهلهم منتصرين...
واستمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر دعوته حتى لبى نداء ربه في السنة الحادية عشرة للهجرة. وعمره الشريف ثلاث وستون سنة، وبذلك تنتهي الحياة الأرضية لنبي آخر الزمان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أرسل بالدين الكامل والخالد إلى أبد الدهور وحتى تقوم الساعة.






____________
(1) بحار الأنوار 15 / 248.
(2) سيد المرسلين 1 / 202، تاريخ اليعقوبي 2 / 5، السيرة الحلبية 1 / 67، وغيرها.
(3) السيرة الحلبية 1 / 78.
(4) راجع السيرة الحلبية 1 / 90، سيرة المصطفى (هاشم معروف الحسني):
ص 43، وغيرها.
(5) السيرة الحلبية 1 / 89.
(6) سيد المرسلين: ص 227.
(7) سيرة المصطفى 49.
(8) تاريخ الطبري 1 / 519، السيرة الحلبية 1 / 231، وغيرها من الكتب التاريخية.
(9) وكان الهدف من هذا الحلف هو الدفاع عن حقوق المظلومين والوقوف بوجه العدوان وجاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد بعثته لقد حضرت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ولو دعيت إلى مثله لأجبت.
(10) سيد المرسلين 1 / 254.
(11) بحار الأنوار 16 / 5.
(12) سيرة المصطفى: ص 59.
(13) سيد المرسلين 1 / 278، وغيره من الكتب التاريخية.
(14) الفضائل الخمس من الصحاح الستة ج 1 / ص 31، سيرة المصطفى: ص 91.
(15) يقع جبل حراء في شمال مكة المكرمة ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمن، وهو من الأماكن المقدسة عند المسلمين يقصدونه للزيارة والتبرك.
(16) العلق: 1 - 5.
(17) الحجر: 94.
(18) الشعراء: 214.
(19) تاريخ الطبري 1 / 542.
(20) سيد المرسلين: 1 / 404.
(21) السيرة النبوية (أحمد بن دخلان) 1 / 213 وغيرها.
(22) تاريخ الطبري ج 1 ص 549، السيرة النبوية ج 1 ص 213.
(23) حشرة معروفة تنخر في الأخشاب والأوراق.
(24) حياة النبي وسيرته، الشيخ محمد قوام الوشنوي ص 161، سيد المرسلين ج 1 ص 503.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page