إنّ سيرة المسلمين حافلة باستخدام التقيّة في مواطن الخطر، والخوف على النفس والمال والعرض، من دون اختصاص بالتقيّة مع الكافرين، بل فيما بين المسلين أنفسهم أيضاً، كالتقيّة من الحكام وسلاطين الجوروالظلمة وولاتهم، وأمثلة ذلك كثيرة، فمضافاً إلى ما تقدم من تقيّة عمار بن ياسر وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان مع عثمان، نشير إلى جملة من الشواهد في هذا المجال:
1ـ تقيّة رجاء بن حيوة مع الوليد بن عبد الملك، وهو ما أخرجه القرطبي وغيره عن إدريس ابن يحيى، قال: "كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ويأتونه بالأخبار... فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه.
فقال: يا رجاء أُذكر بالسوء في مجلسك ولم تُغيّر؟!
فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال له الوليد: قل الله الذي لا إله إلا هو.
قال: الله الذي لا إله إلاّ الله.
فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء بك يستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري!!
فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك، خير لك من أن يقتل رجل مسلم"(1).
2ـ تقيّة واصل بن عطاء مع الخوارج، حيث أخرج ابن الجوزي وغيره عنه أنه خرج يريد سفراً في رهط، فاعترضهم جيش من الخوارج، فقال واصل: "لا ينطقنّ أحد ودعوني معهم، فقصدهم واصل، فلما قربوا بدأ الخوارج ليوقعوا، فقال: كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن، ولا لأي شيء جئنا؟ فقالوا: نعم، من أنتم؟ قال: قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله، قال: فكفّوا عنهم،وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن، فلما أمسك، قال واصل: قد سمعت كلام الله، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين، فقال: هذا واجب، سيروا، قال: فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه، فانصرفوا"(2).
3ـ تقيّة أبي حنيفة مع ابن أبي ليلى، حيث أخرج الخطيب البغدادي وغيره عن جابر قال: "بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة، فسأله عن القرآن.
فقال: مخلوق.
فقال: تتوب، وإلاّ أقدمت عليك!
قال: فتابعه.
فقال: القرآن كلام الله.
فقال: فدار به في الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله: القرآن مخلوق.
فقال أبي: فقلت لأبي حنيفة: كيف صرت إلى هذا وتابعته؟
قال: يا بني خفت أن يُقدم عليّ فأعطيته التقيّة"(3).
____________
(1) القرطبي، تفسير القرطبي: ج10 ص190.
(2) ابن الجوزي، كتاب الأذكياء: ص136.
(3) تاريخ بغداد: ج13 ص376ـ377.
التقيّة في سيرة المسلمين
- الزيارات: 574