أوردتم في ص77 قولي: "فهل يصح أن يقال إن صحبة ساعات أو أيام قلعت ما في نفوسهم" وذلك في مقام التساؤل حول تفاوت زمن الصحبة للنبي(صلى الله عليه وآله)، ثم قلتم: "هل يعني أن الشيعة يقرّون بأن الذين صحبوه من أول أمره(صلى الله عليه وآله)قد قلعت ما في نفوسهم من جذور غير صالحة؟" وذكرتم بعد ذلك بعضاً من الصحابة الذين أسلموا في بدايات البعثة المباركة، وتساءلتم هل تهذبت نفوسهم عندكم أم لا؟
قلت:
أولاً: إنك حاولت الالتفاف على الجواب مرة أخرى، حيث لم تذكر المبرر الواقعي والعلمي للحكم بعدالة من لم يثبت من عدالته إلا أيام أو ساعات، ومشاطرته في مبدأ العدالة مع من أسلم في أوائل البعثة.
ثانياً: إننا لا نعني بقولنا: "فهل يصلح أن يقال: إن صحبة ساعات أو أيام قلعت ما في نفوسهم" أن من أسلم في أول البعثة قد قلع ما في نفوسهم من جذور غير صالحة وملكات رديئة مما لا ينجو منها أحد إلا من عصم الله تعالى، وإنما طول الصحبة قد تخلق له أجواءً وأرضية خصبة مهيأة لنمو بذور الخير والصلاح لا أنه يكون إنساناً صالحاً في مجمل أبعاد حياته بالضرورة.
ففي الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قال: "مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّة(1) قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ"(2).
ويشهد على ذلك الحوادث والفتن والاختلافات والمهاترات والتجاوزات التي وقعت من الصحابة والنبي(صلى الله عليه وآله) بين أظهرهم وعلى مرأى ومسمع منه(صلى الله عليه وآله).
ومن أمثلة ذلك ما جاء في البخاري عن ابن أبي مليكة، قال: "كاد الخيران أن يهلكا، أبو بكر وعمر"(3)، وذلك عندما تشاجرا وارتفعت أصواتهما عند النبي(صلى الله عليه وآله).
وفي صحيح البخاري أيضاً عن جابر بن عبد الله، قال: "كنا في غزاة، قال سفيان: مرة في جيش، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقال: ما بال دعوى جاهلية! فقالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها فتنة"(4).
وهذه الأمثلة تكشف وتدلّل بوضوح على أن رواسب الجاهلية لم تزل عالقة في قاع مجتمع الصحابة، ولم تقتلع ما في نفوسهم من جذور الملكات الرديئة.
ثالثاً: إن ما زعمتموه من أن الشيعة الاثني عشرية وبدون استثناء لا يرى في كتبهم إلا التكفير أو التفسيق للصحابة، مجازفة وإلقاء للكلام على عواهنه ولا يصدر من مثقف إسلامي فضلاً عن متخصص في مجال الفكر والعقيدة الإسلامية، إذ لا يوجد في كتبنا ما يدل على دعواك إلا بعض الروايات الضعيفة التي سيأتي استعراضها ومناقشتها لاحقاً.
رابعاً: إن الصحابة الذين ذكرتهم في حديثك لا شك إننا نعتقد بإسلامهم وسابقتهم في الإسلام إلا أن هذا لا يعني عصمتهم عن الزلل والانحراف، ولا يثبت حرمة التعرض لهم، ونقدهم واستعراض الأخطاء التي ارتكبوها في حياتهم والتي أثّرت سلباً على المسيرة الإسلامية، ومن أهم ما نعتقده من تلك الانحرافات هو إنكارهم لإمامة علي(عليه السلام) وخلافته، التي أوصاهم بها النبي(صلى الله عليه وآله) قبل وفاته.
خصوصاً وأن بعض الصحابة الذين أشرت لهم في كتابك قد خرج على إمام زمانه الذي عقدت له البيعة العامة من قبل المسلمين، وبعضهم الآخر قتله من أسلم قديماً من الصحابة، فأيّهم الذي أشرقت أنوار النبوة على قلبه؟!
ولكن مع ذلك كلّه نؤكد إسلام الصحابة إلا من أعلن ارتداده بإنكار الشهادتين.
قلتم في ص77: "قال الطوسي الإمامي: ودفع الإمامة وجحدها كدفع النبوة وجحدها سواء والصحابة الأوائل لم يعرفوا الإمامة، فضلاً عن أن يقال إنهم دفعوه عنها والشيعة يعتقدون أنهم دفعوه عنها، فما حكمهم إذن؟".
قلت: إنّ مراد الشيخ الطوسي من دفع الإمامة هو إنكارها، بدليل عطف الجحود في كلامه على دفع الإمامة وهو من عطف التفسير والبيان، وهذا ما تعتقده الشيعة عموماً، إذ أننا نعتقد بأن كل من عرف الإمامة وثبتت عنده بنصّ شرعي قاطع من قرآن أو سنة نبوية مباركة، ثم يجحدها وينكرها يكون كمنكر النبوة وجاحدها في الكفر والخروج عن الدين، وأما من لم يثبت له ذلك ولم يعرف الإمامة كما ادعيت ذلك للصحابة، فإنه يبقى على إسلامه وإن أنكر مسألة الإمامة والخلافة.
قلتم في ص78: "إن القرآن لم يقسم الأصحاب المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وإنما مدحهم جميعاً وأثنى عليهم".
قلت: تقدم الجواب عن هذه النقطة في الأبحاث السابقة، وذكرنا أن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي ذمت ووبخت جملة من الصحابة من غير المنافقين.
____________
(1) نقيّة: طيبة.
(2) البخاري، الجامع الصحيح: ج1 ص94، كتاب العلم، دار الفكر ـ بيروت.
(3) البخاري، صحيح البخاري: ج4 ص394، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، مكتبة الإيمان ـ المنصورة.
(4) البخاري، الجامع الصحيح: ج3 ص290، كتاب التفسير.
طول الصحبة لا يثبت العدالة
- الزيارات: 656