قلتم في ص80: "القرآن الكريم تولى كشف المنافقين بذكر أعمالهم ومواقفهم حتى لكأن النبي(صلى الله عليه وآله) وأصحابه يرونهم، بل ويعرفونهم".
ثم أوردتم بعد ذلك مجموعة من الآيات التي زعمتم أنها دالة على أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يعرفهم، وأن الله تعالى هددهم إذا لم ينتهوا عن النفاق فسوف يغري رسول الله(صلى الله عليه وآله) بهم إما بإخراجهم أو قتلهم، بحيث لم يغره بذلك دل على انتهائهم.
قلت:
أولاً: إن ما زعمته من أن القرآن كشف المنافقين وأن النبي(صلى الله عليه وآله) وأصحابه كانوا يعرفونهم، يتنافى مع ما ذكره كبار مفسريكم في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}(1).
قال السمعاني: "هذا دليل على أن الرسول لم يعلم جميع المنافقين"(2).
وقال ابن كثير في تفسير الآية: "وقوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لا ينافي قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالفه من أهل المدينة نفاقاً"(3).
وفي كلام ابن كثير هذا جواب على ما أوردتموه في آيات قرآنية استظهرتم منها أن النبي(صلى الله عليه وآله) وبعض أصحابه كانوا يعلمون بالمنافقين كلهم، وهذا الاستظهار ليس في محله، إذ غاية ما تفيده الآيات المذكورة أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان يعلم رؤوس المنافقين فقط وذلك عن طريق صفاتهم وسيماهم.
ولذا قال ابن كثير في موضع آخر: "قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً في غزوة تبوك... فأطلع على ذلك حذيفة ـ إلى أن قال: فأما غير هؤلاء، فقد قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} الآية، وقال تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً}(4) ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كان تذكرله صفاتهم فيتوسمها في بعضهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(5).
وهناك روايات معتبرة وردت في مسانيدكم تصرح بأن النبي(صلى الله عليه وآله) لم يكن يعرف بعض المنافقين(6).
ثانياً: لو افترضنا أن النبي(صلى الله عليه وآله) كان مطلعاً على المنافقين كلهم بأعيانهم وأشخاصهم، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن النبي(صلى الله عليه وآله) أطلع أصحابه على جميع المنافقين، فلربما كانت هناك مصلحة وحكمة تقتضي إخفاء أسمائهم وأشخاصهم، كأن تكون هي الحفاظ على وحدة النظام الإسلامي وتجنب حصول الفتن في مجتمع المسلمين، والله ورسوله أعلم بملاكات الأحكام ومصالح الشريعة.
ولعل من الشواهد على عدم اطلاع ومعرفة الصحابة بالمنافقين أنهم كانوا يسألون حذيفة عنهم ويستعملون ذلك من تركه للصلاة عليهم، مع أن حذيفة لم يطلعه النبي(صلى الله عليه وآله) إلا على أربعة عشر منافقاً كما تقدم عن ابن كثير.
____________
(1) التوبة: 101.
(2) السمعاني، تفسير السمعاني: ج2 ص343.
(3) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: ج2 ص398.
(4) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: ج2 ص398.
(5) المصدر نفسه: ج1 ص52.
(6) أبو يعلى، مسند أبي يعلى: ج1 ص90، دار المأمون للتراث.
النبي(صلى الله عليه وآله) ومعرفة المنافقين
- الزيارات: 645