والحق إن أصحاب هذه الرؤية يقرون بانقسام الدعاء إلى نوعين دعاء عبادة ودعاء مسألة ، فهو أمر واضح في تراثهم .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين : " الدعاء ينقسم إلى قسمين :
الأول : دعاء عبادة مثاله الصوم والصلاة ... وهذا القسم كله شرك ... .
الثاني : دعاء المسألة فهذا ليس كله شركا بل فيه تفصيل ، فإن كان المخلوق قادرا على ذلك فليس بشرك ...، وأما من دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله فإن دعوته شرك مخرج عن الملة " (1) .
وقال الشيخ صالح الفوزان : " أما الدعاء فهو أعم من الاستغاثة – كما سبق - هو نوعان : دعاء عبادة ودعاء مسألة ، دعاء العبادة هو الثناء على الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته ودعاء المسألة هو طلب الحاجات من الله سبحانه وتعالى " (2) .
والسؤال الكبير
المهم أنه يترتب على ذلك استفهام كبير وأساسي ، هل الآيات التي استعملت فيها عبارة يدعون من دون الله تتحدث عن دعاء العبادة أي النوع الأول أو دعاء المسألة وهو النوع الثاني أو عن كليهما أو بعضها عن الأول وبعضها الآخر عن الثاني ؟!
ومن الواضح أن المسلمين المتهمين بالشرك من قبل هؤلاء هم متهمون بدعاء غير الله دعاء المسألة لا دعاء العبادة قطعا .
وعليه الاستدلال بالآيات على شركية دعاء غير الله دعاء المسألة مرهون بأن يقصد منها دعاء المسألة ، وأما إن كان الحديث في الآيات عن دعاء العبادة لن يبقى دليل على شركية دعاء المسألة ، فالمطلوب منهم إثبات أن الآيات تتحدث عن دعاء المسألة حتى نقول بعدها أن القرآن حكم بكفر من يدعو غير الله دعاء مسألة .
والحصيلة عن أي المعنيين تتحدث الآيات ؟ هذا ما سنبحثه فيما يلي .
هل الآيات تتحدث عن دعاء العبادة أو دعاء المسألة ؟
بعد أن بينا المعاني المختلفة للفظة الدعاء في اللغة والقرآن بل في تراث أصحاب هذه الرؤية وانقسامه على نحو أساسي إلى دعاء عبادة ودعاء مسألة ، أصبح من الممكن فهم آيات القرآن الكريم التي تتكلم عن الدعاء أكثر ، فلننظر أتقصد الآيات دعاء المسألة أم دعاء العبادة ؟
وإليك تفسير أربعة نماذج أساسية من الآيات التي تتضمن كلمة الدعاء :
1) ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) (3) .
هذه الآية التي تنقل قول إبراهيم (ع) هي أوضح آية تدل على الترادف بين كلمتي ( يدعو ) و ( يعبد ) في القرآن ، فلا شك أن الآية حينما بدأت بقوله
( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) ثم أُعقِبَت بقوله ( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ... ) أثبتت الترادف بين يدعون من دون الله ويعبدون من دون الله على نحوٍ لم يلاحظ فيه معنى الطلب والمسألة .
قال البغوي : " ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) أي أعتزل ما تعبدون من دون الله ، قال مقاتل : كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من كوثى (4) ، فهاجر منها إلى الأرض المقدسة ( وَأَدْعُو رَبِّي ) أي أعبد ربي ( عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا ) أي عسى ألا أشقى بدعائه وعبادته كما أنتم تشقون بعبادة الأصنام " (5) .
وقال ابن الجوزي وديدنه استقصاء الآراء في تفسيره : " وفي معنى ( تَدْعُونَ ) قولان : أحدهما : تعبدون ، والثاني : أن المعنى وما تدعونه ربا ، ( وَأَدْعُو رَبِّي ) أي وأعبده ( عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا ) أي أرجو أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام " (6) ، فنلاحظ أنه لم يذكر الطلب كأحد الاحتمالات ، بل تردد المعنى عنده بين يعبدون ويسمون .
وقال ابن كثير : " وقوله ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي ) أي أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله ( وَأَدْعُو رَبِّي ) أي وأعبد ربي وحده لا شريك له " (7) .
2) ( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ) (8) .
وقد استعملت مفردة الدعاء في هذه الآية بمعنى العبادة ، والدليل على ذلك قوله تعالى ( وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ) فلا مجال لتفسير الآية إلا بعبادة الشيطان المذكورة في قوله تعالى ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) (9) ، إذ إن مشركي قريش لم يكونوا يدعون الشيطان دعاء المسألة ويطلبون منه شيئا بل الدعاء هنا هو العبادة التي حقيقتها بالنسبة للشيطان طاعته واتباعه .
قال البغوي : " قوله تعالى ( إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا ) نزلت في أهل مكة ، أي : ما يعبدون كقوله تعالى ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي ) بدليل قوله تعالى
( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) ، قوله ( مِن دُونِهِ ) من دون الله ... ... ( وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ) أي وما يعبدون إلا شيطانا مريدا ، لأنهم إذا عبدوا الأصنام فقد أطاعوا الشيطان " (10) .
3) ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (11) .
يدعي هؤلاء بأن هذه الآية واضحة في الحديث عن الدعاء بمعنى الطلب ( دعاء المسألة ) ، قالوا وذيلها ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) يدل على ذلك .
ولكن الذي نراه في كلمات اللغويين والمفسرين أنهم فسروا كلمة الدعاء هنا بالعبادة على أنها مرادفة لها ، لا أنها استعملت بمعنى الطلب والطلب من مصاديق العبادة كما تخيل هؤلاء استئناسا بذيلها ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ) أو بقوله ( أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، فالحق إن كلمة الدعاء في المقطع الأول من الآية قصد بها العبادة ، لا أن كلمة العبادة في المقطع الثاني يقصد بها الدعاء كمصداق للعبادة كما فهم هؤلاء .
فمفردة الدعاء في الآية فسرت بالعبادة في أثر صحيح مروي عن بعض الصحابة ، فقد روى الحاكم النيسابوري عن جرير بن عبد الله البجلي ( رض ) في قول الله عز وجل ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) قال : " اعبدوني استجب لكم " .
قال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه " ، قال الذهبي : " على شرط مسلم " (12) .
ونجد هذا صريحا في خبر آخر صحيح روي عن رسول الله (ص) فهم منه المفسرون ما نقوله هنا لا ما فهمه هؤلاء ، قال القرطبي : " قوله تعالى ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) الآية ، روى النعمان بن بشير قال : سمعت النبي (ص) يقول : الدعاء هو العبادة ، ثم قرأ ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) ، قال أبو عيسى (13) : " هذا حديث حسن صحيح ، فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة ، وكذا قال أكثر المفسرين ، وأن المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم " (14) .
قال الأزهري : " قال أبو إسحاق في قول الله جل وعز ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) البقرة : 186 يعني الدعاء لله على ثلاثة أضرب ، فضرب منها توحيده والثناء عليه كقولك : يا الله لا إله إلا أنت ، وكقولك : ربنا لك الحمد ، إذا قلته فقد دعوته بقولك ربنا ثم أتيت بالثناء والتوحيد ، ومثله قوله تعالى
( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ) " (15) .
فمن الواضح إذن أن الدعاء في الآية دعاء العبادة وليس دعاء المسألة ، فكيف يستدل بالآية على أن دعاء المسألة عبادة ؟!
ولا ينبغي ادعاء أن كلمة ( أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) في الآية قرينة واضحة على أن المقصود دعاء المسألة ، لأن من الواضح أن البشر مارسوا عباداتهم وطقوسهم - والتي عبر عنها في القرآن بالدعاء - كي يتقربوا إلى الآلهة ويكونوا محظوظين عندهم مستجابي الدعاء ، فلذا من الطبيعي أن يقال لهم اعبدوا الله وحده.
بمعنى اذكروه وصلوا له كي يستجيب لكم ويقضي حوائجكم ، فإنما يستجاب للمصلي الصائم المزكي .
وكذلك يقال في مثل قوله تعالى ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ) (16) فالمعنى ومن أضل ممن يعبد من دون الله من لا تحدث عبادته أي ردة فعل عند المعبود ،فلا يكون هذا العابد محظيا مستجاب الدعاء عند المعبود لأنه جماد غافل عن عبادته له .
وما روي عنه (ص) : " من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء " (17) يقرب ما نريده قوله هنا ، فهو يستجاب له في الشدائد أي عندما تضيق عليه الأمور وتشتد عليه الحاجة ولكن بشرط أن يكون في حال الرخاء منشغلا بعبادته الله في حال الرخاء وهو ما عبر عنه في الخبر فليكثر الدعاء حال الرخاء .
وبمعناه ما رواه الكافي عن الصادق (ع) : " من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة صوت معروف ولم يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة : إن هذا الصوت لا نعرفه " (18) .
4) ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) (19) .
ومفردة الدعاء في هذه الآية جاءت بمعنى العبادة لا الطلب والمسألة ، فالصراع بين رسول الله (ص) وقريش كان على وحدانية الله في العبادة ولم يُقصد من كلمة يدعو إلا ذلك ، ولذا انتهت الآيات بقوله تعالى ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) .
قال الطبري : " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد (ص) : ... ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا ) أيها الناس ( مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) ولا تشركوا به فيها شيئا ، ولكن أفردوا له التوحيد وأخلصوا له العبادة ... وقوله ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) يقول : وأنه لما قام محمد رسول الله (ص) يدعو الله يقول : لا إله إلا الله ( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) ...
عن ابن عباس قوله ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) يقول : لما سمعوا النبي (ص) يتلو القرآن ... ... عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قول الجن لقومهم ( لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) قال : لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ... " (20) .
قال البغوي : " ( لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ ) يعني النبي (ص) ( يَدْعُوهُ ) يعني يعبده ويقرأ القرآن ، وذلك حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن " (21) .
وخلاصة
يتضح من العرض السابق أن كلمة الدعاء في القرآن الكريم تأتي في كثير من الموارد بمعنى العبادة بل هي في أكثر الموارد بهذا المعنى كما في تقرير الشوكاني لاستدلال البعض " الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة " (22) ، ومن هنا يحق لنا أن نتساءل : كيف يُدّعى وضوح القرآن الكريم في اعتبار الدعاء عبادة بنحو مطلق في حين أن الآيات التي تتحدث عن الشرك تتحدث عن خصوص دعاء العبادة ولا تقصد دعاء المسألة بوجه ؟!
هل هناك تلازم بين دعاء المسألة والعبادة ؟
لمتابعة الموضوع اضغط على الصفحة التالية أدناه
___________
(1) القول المفيد على كتاب التوحيد ج 1 ص 120 – 121 .
(2) إعانة المستفيد ج 1 ص 267 .
(3) مريم : 48- 49 .
(4) كوثى : البلدة التي نشأ بها إبراهيم (ع) .
(5) تفسير البغوي ج 3 ص 166 .
(6) زاد المسير ج 5 ص 176 – 177 .
(7) تفسير ابن كثير ج 3 ص 130 .
(8) النساء : 117 .
(9) يس : 60 .
(10) تفسير البغوي ج 1 ص 383 – 384 .
(11) غافر : 60 .
(12) المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 301 .
(13) المقصود به الترمذي صاحب السنن .
(14) الأحقاف : 5 .
(15) المستدرك عل الصحيحين ج1 ص729 قال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي .
(16) الكافي ج2 ص 472 ، وصححه المجلسي في مرآة العقول ج12 ص 22 .
(17) الجامع لأحكام القرآن مج 8 ج 15 ص 292 ، قال محقق الطبعة : إسناده صحيح رواه الترمذي في التفسير ( 2969 ) .
(18) تهذيب اللغة ج3 ص 76
(19) الجن : 18 – 20 .
(20) تفسير الطبري مج 14 ج 29 ص 144 – 146 .
(21) تفسير البغوي ج 4 ص 373 .
(22) فتح القدير ج 4 ص 571 .