طباعة

ثانيا ـ استحواذ رجال السلطة على الأموال العامة :

 السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاة هي الاستئثار ببيت المال وتسخير الأموال العامة لخدمة مصالحهم الخاصة وحرمان الأغلبية الساحقة منه.
ولم يحدثنا التاريخ عن خلفاء أثروا كبني العباس والمحيطين بهم من ابناء البلاط والوزراء والكتاب الذين سجلوا أرقاماً فائقة في الثراء خلال القرنين الثاني والثالث.
فقد روي أن المعتصم خلف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار ، وثمانية عشر ألف ألف درهم ، وثمانين ألف فرس ، وثمانية آلاف مملوك ، وثمانية آلاف جارية ، وبنى ثمانية قصور. وقيل : بلغ مماليكه ثمانية عشر ألفاً (١).
ومن مظاهر استئثار رجال البلاط أن اُمّ شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت أموالاً لاتُحصر ، من ذلك خمسة آلاف ألف دينار من العين وحده (٢).
وفي أحداث سنة ٢٤٩ ذكروا أن المستعين أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال ، وأباحهم فعل ما أرادوا ، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة  وما يفضل من هؤلاء الثلاثة يأخذه أتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته (٣).
وذكروا أنه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة ٢٥٢ هـ خلّف في بيت المال بسامراء نحو خمس مئة ألف دينار ، وفي بيت مال أم المستعين ألف ألف دينار ، وفي بيت مال العباس ابنه ستمائة ألف دينار (٤).
وفي أحداث سنة ٢٥٥ هـ ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله ، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة ، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار ، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله ، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ، وفي سفط آخر مقدار كليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله ، فقُوّمت الأسفاط بألفي ألف دينار (5).
أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاة وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط ، فمما يخرج بنا عن الغرض ، ويكفي مثالاً على ذلك ما نقله المؤرخون في أحداث سنة ٢٢٦ أن الافشين حينما مات في الحبس واحتيط على أمواله وحواصله وجدوا فيها أصناماً مكللة بذهب وجواهر (6) ، وأن بغا الكبير حينما مات سنة ٢٤٨ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار ، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار (7).
وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم ... وحينما مات خلّف من العين عشرة آلاف ألف دينار ، وأربعة وعشرين ألف مملوك (8).
ويحدثنا التاريخ عن الاموال الطائلة التي يصادرها الخلفاء من كبار العمال والكتاب حينما يتعرضون للاقالة ، فحينما سخط المعتصم على وزيره أبي العباس الفضل بن مروان وبطش بجماعة من أصحابه  استصفى أموالهم ، فأخرجوا من داره مالاً عظيماً (9).
وسار الواثق على هذه السياسة ، ففي سنة ٢٢٩ بطش بالكتاب وأخذ منهم أموالاً عظيمة جداً ، وأمر بعقوبة أصحاب الدواوين وضربهم واستخلاص الأموال منهم ، لظهور خياناتهم وإسرافهم في أمورهم ، فمنهم من ضرب ألف سوط وأكثر من ذلك وأقل ، ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار ، وضرب أحمد ابن أبي إسرائيل ، وأخذ منه ثمان مئة ألف دينار ، ومن سليمان بن وهب أربع مئة ألف دينار ، وأخذ من أحمد بن الخصيب ألف ألف دينار (10). وكل ذلك وغيره يحكي عن مدى الاستئثار والفساد الذي تعاني منه السلطة وجهازها الاداري.
**************************
(١) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣٠٢.
(٢) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤١.
(٣) الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٦ : ١٥٤ ـ دار الكتب العلمية ـ ١٤١٥ هـ ، البداية والنهاية / ابن كثير ١١ : ٣ ـ مكتبة المعارف ـ ١٤١٤ هـ.
(٤) الكامل في التاريخ ٦ : ١٦٦ ، البداية والنهاية ١١ : ٧.
(5) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٥ بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ـ بيروت ، الكامل في التاريخ ٦ : ٢٠٢ ، البداية والنهاية ١١ : ١٧ ، تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٨٠.
(6) البداية والنهاية ١٠ : ٣٢٢.
(7) البداية والنهاية ١١ : ٢.
(8) سير أعلام النبلاء ١٢ : ٩٤ ـ ٩٥.
(9) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧٢.
(10) سير أعلام النبلاء ١٠ : ٣١٢ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨١ ، البداية والنهاية ١٠ : ٣٣٠.