طباعة

الجاهليّة


الجاهليّة اصطلاحاً ، هي : نقيض الإسلام ، وتدلّ على الحالة التي كانت سائدة في جزيرة العرب قبل بعثة النّبي مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وعلى الوثنيّة وعلى الفترة السّابقة للإسلام ، وعلى أهل هذه الفترة .
وقد أوردت دائرة المعارف الإسلاميّة(1) ، بالإضافة إلى التعريف السّابق بعض آراء المستشرقين ، ومعظمها يتقارب في المعنى .
هذا ميخائيليس يَرى أنّها : زمن الجهل ، وهي عين ما نُعتت به الأزمنة السّابقة للنصرانيّة في الفقرة / 30 من الإصحاح السّابع عشر من سفر أعمال الرسل .
بينما يُعرّف جولد تسيهر , الجاهليّة : الهمجيّة ، لمّا كان يرى أنّ الجهل ضد الحلم لا العلم .
وقد أوردت الدائرة معنى آخر يتعلّق باقتصار النّظر على الدنيا ، وذلك في معتقد الدروز لمّا كانوا يَرون أنّ الجاهل هو رجل الدنيا لا الدين .
وقد وردت لفظة الجاهليّة تحديداً في أربعة مواضع في القرآن الكريم ، حيث تتكامل معانيها لتُغطي هذا المفهوم من جميع جوانبه : ( يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ )(2) .
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ )(3) . ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الْأُولَى ‏)(4) .( إِذْ جَعَلَ الذينَ كَفَرُوا فِي قُلوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ )(5) .
وبذلك فإنّ الجاهليّة مفهوم دالّ على وضعيّة أو بنية تتواجد بتواجد شروطها من غير ارتباط بزمان أو مكان ، وليست كما عرّفتها دائرة المعارف في التعريف السابق الذكر : ... وعلى أهل هذه الفترة . وربما كان تعريف ميخائيليس هو الأقرب . وقد مرّ بنا تشريح المجتمع الجاهلي ممّا نستطيع معه استخلاص أبعاد هذا المفهوم ، أو بتعبير آخر ، هويّة هذه البنية أو مقوّمات هذا النظام .
هذه المقوّمات نستطيع هاهنا أنْ نُجملها في الآتي :
1 ـ الخلط في مفهوم الأُلوهيّة ، وليس مجرّد الوثنيّة الفجّة .
2 ـ التماهي المادي .
3 ـ اللانتماء القِيمي مُنسحباً على كافة الانتماءات الاُخرى : القبليّة أو العرقيّة أو الإقليميّة أو المنفعيّة أو الطبقيّة ... .
كما أنّنا نرى سمةً غالبةً تسم هذه المقوّمات جميعاً ، وهي التناقض الذي يبرز على الأصعدة المتخلفة لممارسة المنتمين لهذا النظام ، كما فصّلنا من قبل .
فإذا كانت هذه هي مقوّمات النظام الجاهلي ، فأين هي إذاً من البنية الإسلاميّة ؟
لعلّ جوهر الدين الفكرة الأساسيّة القائمة على صحيح الاعتقاد بالواحد المُطلق ، ومن ثمّ الخضوع الطوعي والتسليم الكلّي له ، والرضا بما ارتضى من تدبير بما لا ترى لك معه تدبيراً ، يقول تعالى : ( إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الْإِسْلاَمُ )(6) . ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً ممّن أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ‏ِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )(7) . ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )(8) . (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ‏)(9) .
والإسلام بِناء متكامل متعدّد الأبعاد ، بحيث لا تستطيع الاقتصار في بحثه على بُعدٍ واحدٍ فقط ، مثلما حاول بعض الاجتماعيّين النظر للدين ـ بوجه عام ـ من خلال منظور أحادي حسب مدارسهم . فكانت هناك النظرة المتعلّقة بجوهر الدين من حيث هو اعتقاد فيما وراء الطبيعة ، والاُخرى المتعلّقة بكيفيّات وأساليب الممارسة ، أي : الطقوس والشعائر ، والثالثة المتعلّقة بآثاره باعتباره محقّقاً لإشباع حاجات فرديّة أو جماعيّة ، أي : وظيفيّة الدين .
ورغم تعدّد وجهات نظر دارسي الاجتماع البشري ، إلاّ أنّ البعض نظر نظرةً شاملةً للدين ، مثل دوركايم رغم علمانيّته ، بقوله(10) : الدين نسق موحّد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدّسة ، هذه الأشياء تتمثّل في مجموعة من الأوامر والنواهي .
والحقّ أنّ الدين ثلاثيّة متشابكة أشدّ التشابك لا تنفصم عُراها ، كاملة التأثير والتأثّر معاً ، وهي :
1 ـ نسق معتقدات .
2 ـ منظومة شعائر .
3 ـ أحزمة ضوابط وأحكام .
فإذا كانت هذه هي ماهيّة الدين على المستوى الجوهري ، فإنّه لا بدّ وأنّ يتلازم ، وهذه الماهيّة إطار تصوّري عام يربط هذه الأنساق والمنظومات في اتّساق منطقي ، يكشف عن المحاور الأساسيّة التي تتمحور حولها تلك الأنساق ، فما هي هذه المحاور ؟ وكيف تكتسب فاعليّتها في تحريك قوى المجتمع ؟ وكيف يُمكن من خلالها إحكام عمليّة التطوّر الاجتماعي ؟ وهل هناك حقّاً عوامل مستقلّة في الفعل الاجتماعي ؟
ثمّ ما هو اتّجاه آليات هذا النظام على مدرج نموّه ؟ أهو الثبات والاستقرار والتغير المتوازن ، أمْ هو الصراع ؟
الواقع إنّ دراسة النظام الإسلامي في إطاره التصوّري العام ، وعلى مستوييه النظري والتطبيقي المباشر في عهوده المُثلى ، تقودنا إلى القول : إنّ عمليّة التفاعل الاجتماعي(11) تصنّفها عوامل متعدّدة تتبادل محوريّتها وفقاً لظروفها النسبيّة والمكانيّة معاً ، كما أنّ البِناء الاجتماعي ذاته يحتاج إلى آليات التوازن والصراع المحكوم في آنٍ معاً وفقاً لطبيعة المرحلة البِنائيّة . ورغم هذا التبادل في الأولويّة والسبق لأهميّة المحاور ، إلاّ أنّها تظلّ محكومة دوماً في ظلّ النظام الإسلامي بمنظومة مفاهيم ثابتة مستقرّة لا تتبدّل ولا تتغيّر ، يُمكن إجمالها تحت مسمّى : مقوّمات التصوّر الإسلامي(12) .
إنّ كلّ القضايا التي تتفرع من أنساق البِناء الاجتماعي في ظلّ النظام الإسلامي يُمكن أنْ تردّ جميعاً إلى أصلين رئيسين ، هما : التوحيد والعدل .
والتوحيد في الإسلام : توحيد مُطلق لا شية فيه , وهو ليس مجرّد الإقرار بوجود الإله ، ولكنّه قضيّة تستوعب في الوقت ذاته جميع آمال وأحلام الإنسان ، وتستجيب لكلّ دواعي قلقه ، وتُجيبه عن كلّ تساؤلاته فيما يُشكّل منهج حياة متكامل .
وكما أسلفنا ، فإنّ كثيراً من الدراسات تناولت الدين بمناظير مختلفة ، وحدّدت بعضها عوامل متعدّدة تجعل الإنسان  يبتدع  الإله ـ رغم كونها فطرة ـ حتّى يجعل حياته محتملة , هذه العوامل كما رآها سلزنيك(13) :
1 ـ الخوف والقلق ( Fear and anxiety ) .
2 ـ البحث عن معنىً نهائي ( Search for ultimate meaning ) .
3 ـ البحث عن السموّ بالذات ( Search for self - transcendence ) .
4 ـ جعل العالم شيئاً ذا معنىً ( Making the world comprehensible ) .
وقضيّة التوحيد باستيعابها لكلّ ما سبق ضمن مدلولها ، تفكّ إسار الإنسان من مخاوفه ، وتطلق سراحه إلى حريّة غير محدودة بقيد عبادته لله الواحد ، واستبعاده من استعباده لأيٍّ ممّا عداه .
إنّ النتائج المنطقيّة المترتّبة على هذا المفهوم تؤدّي بالإنسان المسلم إلى الاعتقاد اليقيني في :

ـــــــــــــــ
 (1) دائرة المعارف الإسلاميّة 11 / 14 , القاهرة , دار الشعب  .
 (2) سورة آل عمران / 154
(3) سورة المائدة / 50 .
(4) سورة الأحزاب / 33 .
(5) سورة الفتح / 26 .
(6) سورة آل عمران / 19 .
(7) سورة النساء / 125 .
(8) سورة آل عمران / 83 .
(9) سورة لقمان / 22 .
(10) د. سامية الخشاب ، علم الاجتماع الديني / 23 , القاهرة ,  دار المعارف عام / 1988م .
(11) د . زينب رضوان ، النظريّة الاجتماعيّة في الفكر الإسلامي / 18 , القاهرة , دار المعارف / 1982م .
(12) سيّد قطب ، مقوّمات التصوّر الإسلامي , القاهرة , دار الشروق / 1986 م .
(13) د . سامية الخشاب ، علم الاجتماع الإسلامي / 14 , القاهرة ,  دار المعارف / 1987 م .