معلوم أنّ الإسلام جاء مساوياً بين الناس وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ، ونظر إليهم على أنّهم سواسية كأسنان المشط ، ولمْ يضع إلاّ معياراً وحيداً لتمايزهم ، وهو التقوى . فلمْ يعرف فضلاً لعربي على أعجمي ، ولا لأبيض على أحمر .
والإسلام أرسى قاعدة وحيدة أصيلة للانتماء بين الناس ، تسبق ما عداها من صلات وانتماءات ثانويّة . فليست القاعدة هي المواطنة ولا القوميّة ولا المصلحة المشتركة ، ولا الأصل العرقي ولا حتّى قرابة الدم ، وإنّما هي العقيدة . فإذا ما وُجد رباط العقيدة في الأساس ، أضحى لبعض الروابط الاُخرى دلالاتها الخاصّة النابعة من رباط العقيدة ذاته . وهذا بالطبع لا ينفي بل يؤكّد وجوب شمول العلاقات الإنسانيّة عامّةً بقواعد : العدل وحسن المعاملة وسماحة المعايشة . فتلك أيضاً منطوقات قواعد العقيدة ، ولكنّا نتحدّث تحديداً عن الانتماء .
وقد بيّن لنا القرآن حقيقة هذه القاعدة في كثير من آياته ، فيقول الله تعالى : ( إِنّ الذينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالذينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )(1) .
وضرب الله تعالى لنا الأمثلة على جميع صور القرابة القريبة ، وأنّها لا تُغني من العقيدة شيئاً : في البنوة ، وفي الأبوّة ، وفي الزوجية : ( وَنَادَى نُوحٌ رَبّهُ فَقَالَ رَبّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنّ وَعْدَكَ الحقّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )(1) . ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ)(2) .
( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلّا عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلما تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للّهِِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ )(3) . ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ )(4) .
وقد وعى المسلمون الأوائل هذه الحقيقة بما لمْ يدع في نفوسهم أدنى شكّ في فحواها , وإنّ نظرةً واحدةً في وقعة واحدة كوقعة بدر لكفيلة بإظهار هذه الحقيقة واضحةً لا لبس فيها , فهذا أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة يشهد مع الرسول (صلّى الله عليه وآله) مصارع أبيه عتبة ، وعمّه شيبة وأخيه الوليد , وهذا مصعب بن عمير يمرّ بأخيه أبي عزيز بن عمير ، وهو أسير في يد رجل من الأنصار ، فيقول : شد يديك به ؛ فإنّ اُمّه ذات متاع ، لعلّها أنْ تفتديه منك(5) .
ثمّ ألاَ تدلّنا هجرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من مكّة إلى مدينة إلى المعنى العميق لحقيقة الانتماء ، فقد آذاه قومه وفيهم عشيرته ، ومنهم بعض قرابته القريبة وتربّصوا به وأرصدوا له واستعدّوا عليه ، بينما انتصر بقوم غير القوم وقبائل غير القبيلة .
إذاً حارب الرسول (صلّى الله عليه وآله) قومه بغير قومه ، وأحلّت له دماء قومه وأموالهم ، بل إنّ بلده وهو الحرام أحلّ له يوم الفتح .
ولو أنّ مقاييس أخرى كالمواطنة وغيرها طُبّقت ، لاتّهم (صلّى الله عليه وآله) بأشنع التهم ، وهو ما تجده واضحاً في أقوال المشركين من قوم الرسول (صلّى الله عليه وآله) الأقربين ، الذين فزعوا من هذا الدين الجديد بمفاهيمه المستحدثة ، وأحدها مخالفة ما شبّوا عليه من اعتقاد جازم في الأواصر بينهم بالمفهوم القِبَلي . مثال ذلك ما حدث عندما تحيّر القوم في وصف القرآن ، فاجتمع نفر من قريش يتدارسون ما يفعلون كيداً لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ألاّ يتّصل بقبائل العرب في الموسم ، فقال الوليد بن المغيرة(1) : إنّ أقرب القول فيه لأنْ تقولوا : ساحر جاء بقول هو سحر يفرّق به بين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته . ومثاله كذلك قول عتبة بن ربيعة للرسول (صلّى الله عليه وآله) يوم وجده في المسجد(2) : يابن أخي ، إنّك منّا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم . وعندما التقى الجمعان يوم بدر ، استفتح أبو جهل على نفسه ، فقال(3) : اللهمّ ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة .
إذاً ليست الأرض ولا القوم ، ولا القرابة ، ولا الدم بمنتجة رباطاً إلاّ العقيدة أوّلاً ، وتلك هي نظرة الإسلام ، وغيرها من مفاهيم الجاهليّة ، فكيف كانت رؤية وسياسة بني اُميّة ؟
عمد معاوية منذ البدء ، وضمن خُطّته لإحكام الملك لنفسه ولتوريثه بنيه إلى إحياء القبلية ، واستنفارها بعد الجهد الهائل الذي بذله الرسول (صلّى الله عليه وآله) لإماتتها . وقد كانت خُطّته تلك متعدّدة المستويات وإنْ تلازمت معاً ، ونحن نستعرضها أوّلاً ثمّ نُقيم الأدلة التي قادتنا إليها ثانياً :
أ ـ تمييز قريش من سائر العرب .
ت ـ تمييز معاوية ورهطه من قريش .
ث ـ التفرقة بين قبائل العرب .
ج ـ التفرقة بين العرب بعامّة والعجم .
ـــــــــــــــ
(1) سورة الأنفال / 72 .
(2) سورة هود / 45 ـ 46 .
(3) سورة البقرة / 124 .
(4) سورة التوبة / 114 .
(5) سورة التحريم / 10 .
(6) الطبري ، مرجع سابق 2 / 460 .
(7) سيرة ابن هشام ، مرجع سابق 1 / 270 .
(8) المرجع السابق / 293 .
(9) تاريخ الطبري ، مرجع سابق 2 / 449 .
النظام الاُموي والعصبيّة القبليّة
- الزيارات: 907