• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

التفرقة بين العرب

 
لمْ يكن يعني معاوية من تمييز بني اُميّة وبني أبيه ونفسه ، إلاّ أنّها وسيلة من الوسائل يروم من ورائها غرضه الأقصى وهو السيادة والملك . ولمْ تكن له في تحصيل ذلك ثوابت يلتزمها ، كما لمْ يرهق نفسه بقيود تعوقه عن إدراكها ، وإنّما كلّ وسيلة تُؤدّي به إلى غرضه فهي الحقّ ، وما عداها فهي الباطل .
إلاّ أنّه التزم سياسة واحدة طوال حكمه لمْ يحدُ عنها ، وعنوانها : فرّقْ تسدْ . فكان يُغري القبائل بعضها ببعض ، ويأتي نفوس أفرادها من أضعف أركانها ، فيُباغتهم من ناحيّتها حتّى يأتوا له طائعين ، فيعود يُغري بعضهم ببعض بينما هو جالس في مأمن من اجتماعهم .
واقرأ ما يقوله العقّاد الذي استخرج من درس سيرة معاوية تلك السياسة(1) : كانت له حيلته التي كرّرها وأتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة ، العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه ، بإلقاء الشبهات بينهم وإثارة الإحن فيهم ، ومنهم من كانوا من أهل بيته وذوي قرباه ، كان لا يطيق أنْ يرى رجلين ذوي خطر على وفاق ، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار ممّا يَعينه على الإيقاع بينهم .
وقد مرّ بنا كيف كان يُعاقب على المدينة بين ولاته : مروان بن الحكم ، والوليد بن عتبة .
ثمّ ألمْ ترَ كيف أنّه لمْ يطقْ ميل أهل الشام إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، الذي كان صاحب لوائه الأعظم يوم صفّين ، فدسّ له مَن قتله بالسُّم . يروي الطبري(2) : خافه معاوية وخشي على نفسه منه ، لميل الناس إليه ، فأمر ابن أثال النصراني أنْ يحتال في قتله ، وضمن له إنْ هو فعل ذلك أنْ يضعَ عنه خراجه ما عاش ، وأنْ يولّيه جباية خراج حمص .
وكان من شأن معاوية كذلك أنْ أثار الإحن بين أهل العراق وأهل الشام ، وعمد إلى تجهيل أهل الشام وإغرائهم بأهل العراق ، وتعميق أسباب البغض بينهم . حدث أنّ عليّاً (ع) بعث بجرير إلى معاوية يدعوه إلى الدخول في الطاعة وعدم شقّ عصا المسلمين ، فإذا بمعاوية يأبى الجماعة ، ويرسل إلى عليّ (ع) بأبيات كعب بن جعيل(3) :
أرى الشام تكرهُ ملكَ العراق      وأهـل  العراقِ لهم كارهونا
وكـلّ لـصاحبه مـبغضٌ       يرى كلّ ما كان من ذاك دينا
وقـالوا  عـليٌّ إمـام لـنا      فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وكذلك أشعل معاوية النار بين العرب المضريّة والعرب اليمانيّة بالشام ، لمّا حابى الكلبيّة اليمانيّة واتّخذهم ردءه ، وأقسي عنه القيسيّة(4) ، حتّى إنّه تزوّج من ميسون الكلبيّة اُمّ زيد ، وزوّج يزيد كلبيّة اُخرى ، وكذلك كان يفرض العطاء للكلبيّة دون القيسيّة .
على أنّ معاوية لمْ يكن يَعنيه هؤلاء كلبيّة هم أو قيسيّة ، أو بمعنى آخر يمانيّة أو مضريّة ، إلاّ بالقدر الذي يتيح له جمع كلّ الخيوط في يده ، يحرّكها كيف شاء ومتى شاء .
وآية ذلك استئجاره الأخطل النصراني ـ كما مرّ بنا ـ لهجاء الأنصار بالمدينة ، وهم يمانيّة .
وآية ذلك أيضاً ، صلته بمضريّة العراق لمّا كانت اليمانيّة هناك تشايع عليّاً (ع) ؛ وأنّه عند إرساله ابن الحضرمي إلى العراق ليفسد على عليّ (ع) أمره ، أنزل ابن الحضرمي منازل بني تميم المضريّة ، وبهم استجار .
وآية ذلك ثالثاً ، أنّ معاوية لمّا شعر أنّ اليمانيّة بالشام قد قاربوا الحدّ الذي رسمه لهم ألاّ يتعدّوه ، فرض من فوره عطاء لأربعة آلاف من قيس سوى خندف(5) ، ثمّ جعل يغزي اليمن في البحر ، ويغزي قيساً في البرّ ، فقال شاعر اليمن :
ألا  أيـها الـقوم الـذين تـجمعوا      بـعـكّا أنـاس أنـتم أم أبـاعر ؟
أتـتـرك قـيس آمـنين بـدارهم      ونركب ظهر البحر والبحر زاخر ؟
وهكذا أعاد معاوية العصبيّة جذعة تفتّ في عضد الاُمّة ، وتنخر في جسدها طيلة سنين حكمه ، ولمْ تنقضِ بموته ، وإنّما استفحل أمرها حتّى صارت عنواناً للصراع بين العرب في كلّ البقاع , وتكرّست بذلك الفرقة بين المسلمين ، فالعجب إذاً ـ نردّدها مع عجب الجاحظ ـ ممّن سمّى عام غلبة معاوية على الخلافة : عام الجماعة !
يقول أحمد أمين(6) : ولمّا ولي الاُمويّون الخلافة عادت العصبيّة إلى حالها كما كانت في الجاهليّة , وعاد النزاع في الإسلام بين القحطانيّة والعدنانيّة , فكان في كلّ قطر عداء وحروب بين النوعين ، واتّخذوا في كلّ صقع أسامي مختلفة ، ففي خراسان كانت الحرب بين الأزد وتميم ، والأوّلون يمنيون والآخرون عدنانيون ، ومثل ذلك في الأندلس ، ومثل ذلك في العراق .
استردّت إذاً الجاهليّة بناءها على جميع مستوياتها على يد معاوية وصحبه ، ولمْ تزل تُمكّن لنفسها تمكيناً بمضيّ الزمن . وقد جرى أمر الدنيا على أنّ العطب إذا أصاب جسماً ـ ولو في جزء منه ـ استفحلّ ما لمْ يتدارك بالعلاج في حينه ، وكلّما مضى الزمن استعصى العلاج ، بينما الجسم الصحيح يحتاج إلى الجهد الدائب لصيانته ، أي : أنّ المرض يتفاقم بينما الصحّة تتآكل .
وهذا ما حدث في أمر الجاهليّة التي عادت بمعاوية مستخفيةً أوّل الأمر ، ثمّ ما لبست أنْ أعلنت سفورها بجلاء وبلا حياء ، وبلا مبالاة لأمر هذه الاُمّة ، حتّى ابتعثت العداوات القديمة ، كتلك التي كانت بين الأوس والخزرج بغرض تفريق وحدة كلمة الأنصار . يذكر الأصفهاني(7) : كان طويس(8) ولعاً بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم ، وكان يُريد بذلك الإغراء ، فكلّ مجلس اجتمع فيه هذان الحيان ، فغنّى فيه طويس إلاّ وقع فيه شيء ، فكان يُبدي السرائر ويُخرج الضغائن .
وكان من سنّة معاوية تلك ، أنْ صار للفخار بين النزاريّة واليمانيّة مجاله الواسع ، كلّ يهجو الآخر ويفاخر بقومه ، واُستبدلت أغراض الشعر من إيمان وحماسة للجهاد إلى المجون وتعصّب القبليّات حتّى لتتعقّب الأجيال قول كلّ فيزداد رسوخاً . حدث أنْ زاد الكميت ـ توفّي عام 126 هـ  ـ عن النزاريّة معرّضاً باليمانيّة :
وجـدتُ الله إذ سمّى نزاراً       وأسـكنهم  بـمكّة قـاطنينا
لـنا جعل المكارم خالصات      ولـلناس الـقفا ولنا الجبينا
وما  وجدت نساء بني نزار      حلائل أسودين وأحمرين(9)
فلمْ يزل الأمر مهتاجاً حتّى يرد دعبل الخزاعي ـ توفّي عام 246 هـ ـ هجاء الكميت بهجاء(10) :
فـإن  يك آل إسرائيل منكم       وكـنتم بـالأعاجم فـاخرينا
فـلا  تنس الخنازير اللواتي      مـسخن مع القرود الخاسئينا
بـأيـلة  والـخليج رسـوم      وآثـار  قـدمن ومـا محينا
وما طلب الكميت طلاب وَتر      ولـكـنا لـنصرتنا هـجينا
لـقد  علمت نزار أن قومي       إلـى  نـصر النبوة فاخرينا
ويذكر ابن عبد ربّه(11) في المفاخرة بين يمن ومضر : أنّ هشام بن عبد الملك بن مروان طلب من خالد بن صفوان ، أنْ يقول في اليمانيّة ، فقال : وما أقول لقوم يا أمير المؤمنين ، هم بين حائك برد ، وسائس قرد ، ودابغ جلد ، دلّ عليهم هدهد ، وملكتهم امرأة ، وغرقتهم فأرة ، فلمْ يثبت لهم بعدها قائمة .

ـــــــــــــــ
(1) عبّاس محمود العقّاد ، معاوية في الميزان / 64 .
(2) الطبري ، مرجع سابق 5 / 227 .
(3) الدينوري ، الأخبار الطوال / 160 ، تحقيق عبد المنعم عامر ـ بغداد ـ  مكتبة المثنى ، ب . ت  .
(4) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، مرجع سابق / 130 .
(5) الأغاني ، مرجع سابق 20 / 224 .
(6) فجر الإسلام ، مرجع سابق / 79 .
(7) الأغاني ، مرجع سابق 3 / 40 .
(8) طويس : مغنّي مخنّث بالمدينة في العهد الاُموي .
(9) يعرّض باليمانيّة لتتابع الحبش والفرس عليهم .
(10) المسعودي ، مروج الذهب ، مرجع سابق 3 / 245 .
(11) العقد الفريد ، مرجع سابق 3 / 78 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page