قبل الخوض في تفاصيل هذه الدراسة لابدّ من الوقوف عند كلام الشيخ الصدوق رحمهالله لأ نّه كلام صدر في القرن الرابع الهجري وعلى لسان شيخ المحدثين إذ قال رحمهالله في ( من لا يحضره الفقيه ) بعد أن ذكر حديث أبي بكر الحضـرمي وكليب الاسدي والذي ليس فيه الشهادة الثالثة :
هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه والمفوّضة لعنهم اللّه قد وضعوا أخبارا وزادوا في الأذان « محمد وآل محمد خير البرية » مرّتين وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمدا رسول اللّه « أشهد أنّ عليّا وليُّ اللّه » مرّتين ومنهم من روى بدل ذلك : « أشهد أن عليّا أمير المؤمنين حقّا » مرّتين ، ولا شك أنّ عليّا وليّ اللّه ، وأنّه أمير المؤمنين حقا وأنّ محمّدا وآله خير البرية ، ولكنّ ذلك ليس في أصل الأذان ، وإنّما ذكرت ذلك ليُعرف بهذه الزيادة المتّهمون بالتفويض المدلِّسون أنفسهم في جملتنا (١).
وهذا النص يحمل في طياته ثلاث دعاوى أساسية يجب الوقوف عندها وتوضيحها.
الأُولى : أنّ الشهادة الثالثة هي من فعل المفوّضة الملعونة ، لقوله : « والمفوّضة لعنهم اللّه ».
الثانية : أنّ المفوّضة « قد وضعوا أخبارا » في الشهادة الثالثة. ومن المعلوم أنّ الرواية الموضوعة غير الرواية الضعيفة.
الثالثة : قوله : « وزادوا » يَدُلُّ على أنّهم أتوا بتلك النصوص على نحو الجزئية ، والشـيخ لا يرتضيها لقوله : « ولكن ذلك ليس في اصل الأذان ».
إذن علينا توضيح مغزى كلام الصدوق ببعض البحوث التمهيدية لكي نرى هل أنّ كلامه رحمهالله صدر عن حِسٍّ حتى يلزمنا الأخذ به ، أم كان عن حدس يجوز تركه ، بل إلى أيّ مدى يمكن الاعتماد على قناعاته واجتهاداته رحمهالله ، وخصوصا أنّه كان يعيش في ظروف صعبة.
إنّ الواقف على مجريات الأحداث بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يعلم ما جرى على آل بيت الرسالة من مظالم من قِبَلِ الحكّام ، وأنَّ الرواة وحتّى الصحابة والتابعين والفقهاء كانوا يتّقون السلطة في نشر رواياتهم وبيان آرائهم ، فلا يمكن معرفة أبعاد صدور أيّ نص منهم ، خصوصا في العصر الأموي والعصر العباسي الأوّل أو الثاني ، إلاّ بعد معرفة الظروف المحيطة به ونحن نظرا لحساسية كلام الشيخ رحمهالله بدأنا الدراسة بثلاثة مواضيع أساسية كتمهيد لهذه الدراسة :
الأُولى : ارتباط الغلوّ والتفويض بالشهادة الثالثة وهل حقا أنّ ما يُؤتى به في الشهادة الثالثة فيه فكر تفويض أم لا؟ بل كيف نشأت فكرة الغلو والتفويض؟ وهل هما مختصان بالشيعة أم أنّهما ظاهرتان أصابتا البشريّة جمعاء وجميع الأديان والمذاهب؟ وما هو موقف أهل البيت منها؟ وهل حقا أنّ البغداديين غلاةٌ ، والقميّين مقصّرةٌ؟
الثانية : أشرنا إلى ثلاث نقاط أساسية كنموذج في منهج القميّين والبغداديين في العقائد والرجال مؤكّدين بأنّ بعض هذه النقاط أدّت إلى صدور مثل هذا الكلام عن الشيخ الصدوق رحمهالله.
الثالثة : مناقشة دعوى الزيادة من قبل القائلين بها ، وهل حقا أنّ هذه الزيادة من وضع المفوّضة ، وجاء ، على نحو الجزئية ، أم أنّها زيادة موجودة في الروايات
وتقال على نحو التفسـيرية وبقصد القربة المطلقة وأمثالها؟ والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن دعوى صدورها عن المفوِّضة وأنّهم وضعوا أخبارا على نحو الجزئية فيها دعوى مجملة إذ لا يستطيع أحد بالنظر البدوي الجزم بمقصود الشيخ الصدوق النهائي إلاّ بعد بحث وتمحيص ، وهذا ما يدعو الباحث الموضوعي إلى الوقوف عندها ودراستها بروح علمية نزيهة ، بعيدا عن التقديس ، لكي يرى مدى تطابقها مع الواقع أو بعدها عنه ، وهذا ما نريد توضيحه ضمن النقاط الثلاث اللاحقة ، مع الإشارة إلى غيرها من البحوث الدخيلة في فهم المسألة مؤكّدين على أنّ المنهج المتَّبع عند فقهاء ومتكلِّمي مدرسة أهل البيت هو مناقشة الأقوال ، فلا يصان أحد عندهم إلاّ المعصوم ، وليس لهم كتاب صحيح بالكامل إلاّ كتاب اللّه المنزل على رسوله ، فهم يناقشون أقوال علمائهم واجتهاداتهم وإن كان قد وُلِدَ بعضُهُم ـ كشيخنا الصدوق رحمهالله ـ بدعاء الإمام الحجة عليهالسلام ، مع اعتقادهم الكامل فيه بأ نّه الإمام الثقة ، والصدوق في القول والعمل ، والحامل إليهم علوم آل محمد ، لكنّ هذا كلَّهُ لا يمنعهم من الدخول معه في نقاش علميّ منطقيّ رزين ، لأ نّه رحمهالله لا يدّعي العصمة لنفسه كما أَنّا لا نقول بعصمته ، وبذلك يكون كلامه رحمهالله عرضةً للخطأ والصواب ، وهو كغيره من الفقهاء قد يعدل عمّا كان يقول به ويفتي بشيء آخر غير ما كان يذهب إليه وعليه فالشيخ رحمهالله لم يتّهم قائل الشهادة الثالثة بالتفويض بل قال : بأنّ المفوّضة وضعوا أخبارا وزادوا في الأذان ، وبين الامرين فرق واضح.
وهذا الكلام من الشيخ الصدوق لا ينفي وجود نصوصٍ صريحة عنده صدرت عن الإمام الباقر والصادق والكاظم عليهمالسلام دالّة على وجود معنى الولاية والإمامة في الأذان (2) لا على نحو الزيادة والجزئية ، بل على نحو التفسيرية كما جاء في تفسير معنى « حيّ على خير العمل » عن المعصومين ، إذ أراد الإمام الكاظم عليهالسلام حثّا عليها ودعوة إليها في الأذان ، غيرَ محدِّدٍ عليهالسلام لصيغها ، فقد تكون : « أشهد أنّ عليا ولي اللّه » وقد تكون : « محمد وعلي خير البشر » وقد تكون :« محمد وآل محمد خير البرية » وقد تكون شيئا آخر يرد عنهم عليهمالسلام أو يأذنون به لكنّها كلّها تتضمن معنى الولاية.
وعلى هذا كيف يُتَصَوَّرُ اتّهام شيخنا الصدوق رحمهالله القائلين بما يدلّ على الولاية في الأذان بالتفويض ، مع علمه بوجود فصل « حيّ على خير العمل » الدالّ على الولاية لعليّ ولزوم البرّ بفاطمة وولدها في الأذان؟!
وعليه فمع وجود نصٍّ صريح واضح من قبل الأئمّة بأنّ « حيّ على خير العمل » هي الولاية ووقوفِ الصدوق على ذلك النص وهو المحدّث المتتبّع يفهمنا بأنه رحمهالله يعني بكلامه القاصدين للجزئية على نحو الخصوص لقوله رحمهالله : « لكن ذلك ليس في أصل الأذان ».
فهل يعقل أن لا يسمح الشيخ للقائلين بها أن يفتحوها بعبارات دالّة عليها مع التأكيد على أنّها ليست جزءً دفعا لاتّهام المتَّهِمِين وافتراءات المُفتَرِين أو رفعا لمنزلة الإمام عليّ عند شيعته وعند غيرهم المحظور آنذاك ؟! إِنّ الجواب عن ذلك لا يمكن أن يُتَصَوَّرَ في هذا المجال إلاّ من خلال أحد دوافع ثلاثة دفعت الشيخ لهذا القول.
وهي إمّا ظروف التقية التي كان يعيشها الشيخ فإنه رحمهالله قد يكون قالها حقنا لدماء البقية الباقية من الشيعة خصوصاً وأنّ الشيخ كتب «من لا يحضره الفقيه» بقصبة بلخ من أرض ايلاق الواقع حالياً شمالي افغانستان أو أنّه قالها تبعا لمشايخه القميين أو أنّه قالها بعد أن وجد المفوِّضة الطائفة المنحرفة عن الأمة هم أكثر الناس تبنّيا علنِيّا لهذا الشعار ، وأنَّ قولهم لها كان على نحو الشطرية والجزئية لقوله رحمهالله « ولكن ذلك ليس في أصل الأذان » وهذا ممّا لا يسمح به الشرع وإليك الآن توضيح النقاط الثلاثة الآنفة.
**************
(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٨٩ / ح ٨٩٧ ، وسائل الشيعة ٥ : ٤٢٢.
(2) وهذا ما سنوضحه لاحقا ضمن كلامنا عن الدليل الكنائي في الشهادة الثالثة : ١٥٧.
توطئة
- الزيارات: 931