• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الشجاعة الحسينيّة

تُبحث الشجاعة في جملة القوى الغضبيّة لدى الإنسان من الرذائل والفضائل ؛ فمن الرذائل في القوَّةِ الغضبيّة التهوّر , وهو الإقدام على ما لاينبغي , والخوض في ما يمنعه العقل والشرع من المهالك والمخاوف , ولا ريب أنّه من المهلكات في الدنيا والآخرة(1) .
ومن الرذائل أيضاً الجبن , وهو سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام أو غيره مع كونها أَولى . ويلزمه من الأعراض الذميمة مهانة النفس , والذلّة , وسوء العيش , وطمع الناس فيما يملكه , وقلّة ثباته في الاُمور , والكسل , وحبُّ الراحة .
وهو يوجب الحرمان من السعادات بأسرها , وتمكين الظالمين من الظلم عليه , وتحمّله للفضائح في نفسه وأهله , واستماع القبائح من الشتم والقذف , وعدم مبالاته بما يوجب الفضيحة والعار , وتعطيل مقاصده ومهمّاته ؛ ولذلك ورد في ذمّه من الشريعة ما ورد .
قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( لا ينبغي للمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً ))(2) .
والتهوّر والجبن كلاهما متطرّفان متضادّان بين الإفراط والتفريط , ووسطهما الشجاعة , ولكن ما هي الشجاعة في نظر علماء الأخلاق ؟
يقول الشيخ محمّد مهدي النراقيّ : إنّ الشجاعة هي طاعة قوّة الغضب العاقلة في الإقدام على الاُمور الهائلة , وعدم اضطرابها بالخوض في ما يقتضيها رأيها . ولا ريب في أنّها أشرف الملكات النفسيّة , وأفضل الصفات الكماليّة . وقد وصف اللّه خيار الصحابةِ بها في قوله : (أشدّاءُ على الكفّار)(3) , وأمر اللّه نبيَّه بها بقوله : (واغلُظ عليهم)(4) ؛ إذ الشدّة من لوازمها وآثارها , والأخبار مصرّحةٌ باتّصاف المؤمن بها(5) .
قال الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( إنّ المؤمن أشدُّ من زبرِ الحديد ؛ إنَّ زبُرَ الحديد إذا دخل النار تغيّر , وإنَّ المؤمن لو قُتل ثمّ نُشر ثمّ قُتل لم يتغيّر قلبه ))(6) .
وقال الإمام الكاظم (عليه السّلام) : (( إنَّ المؤمن أعزُّ من الجبل ؛ الجبل يُستفلّ بالمعاول , والمؤمن لا يُستفلُّ دينه بشيء ))(7) .
فالشجاعة إذاً من القوى الغضبيّة العاقلة التي تترفّع من جهة عن الجُبن والخوف المذموم , وعن الذلّةِ والدناءةِ والضَّعة , ومِن جهة اُخرى تتريّث من التهوّر والموقف المتعجّل والكلمة التي لا تمرُّ بتحليل الفكر الناضج .
قال الإمام الحسن العسكريّ (عليه السّلام) : (( إنّ للسخاء مقداراً , فإنْ زاد عليه فهو سرف , وللحزم مقدار , فإن زاد عليه فهو جبن , وللاقتصاد مقدار , فإن زاد عليه فهو بخل , وللشجاعة مقدار , فإن زاد عليه فهو تهوّر ))(8) .
فإذا اعتدلت القوّة الغضبيّة واتّسمتْ بالعقل كانتْ شجاعة , وكانت صفةً شريفة , وطاقةً نافعة . قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( السخاء والشجاعة غرائز شريفة يضعها اللّه سبحانه فيمَنْ أحبّه وامتحنه ))(9) . وقال (سلام الله عليه) أيضاً : (( الشجاعة نصرةٌ حاضرة , وقبيلةٌ ظاهرة ))(10) .
ومثْل هذه الخصلة النبيلة ضروريٌّ أن يتحلّى بها الأنبياء (صلوات اللّه عليهم) ؛ فهي من الكمالات الشريفة , والفاقد لها مجرّدٌ عن الرجولة . والنبيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) هو سيّدُ الأنبياء والمرسلين , فالشجاعة فيه أعلى وأظهر , ولقد وُصف بها فقال أنَسُ بن مالك : كان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أشجعَ الناس , وأحسن الناس , وأجود الناس .
قال : لقد فزع أهل المدينة ليلةً , فانطلق الناس قِبَلَ الصوت , فتلقّاهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) وقد سبقهم , وهو يقول : (( لم تراعوا )) , وهو على فرس لأبي طلحة وفي عنقه السيف , قال : فجعل يقول للناس : (( لم تراعوا , وجدناه بحراً أو إنّه لبحر ))(11) .
وعن الإمام عليٍّ (عليه السّلام) أيضاً قال : (( رأيتني يوم بدر ونحن نلوذُ بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو أقربنا إلى العدوّ , وكان من أشدّ الناس يومئذ بأساً )) .
وعنه (عليه السّلام) قال : (( كنّا إذا أحمرَّ البأس , ولقيَ القوم القوم , اتّقينا برسول اللّه , فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدوّ منه ))(12) .
وعن الإمام الصادق (عليه السّلام) قال : (( إنّ اللّه تبارك وتعالى خصَّ رسوله بمكارم الأخلاق , فامتحنوا أنفسكم ؛ فإنْ كانت فيكم فاحمدوا اللّه (عزّ وجلّ) , وارغبوا إليه في الزيادة منها )) . فذكرها عشرة : اليقين , والقناعة , والصبر , والشكر , والحلم , وحسن الخلق , والسخاء , والغيرة , والشجاعة , والمروّة(13) .
والأَولى برسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أهل بيته , أوصياؤه وخلفاؤه من بعده ؛ عليٌّ والحسن والحسين والتسعة المعصومون من ذرّيّة الحسين (صلوات اللّه عليهم) . وإذا كان الأئمة (سلام الله عليهم) كلُّهم معروفين بالشجاعة , فإنَّ هذه الصفة الشريفة ظهرت في الإمام الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء بما يناسب الموقف .
يقول الشيخ التستريّ في معرض بيانه للخصائص الحسينيّة : الشجاعة , ولها كيفيّة خاصّة بالحسين (عليه السّلام) ؛ ولذا قيل : الشجاعة الحسينيّة . فقد ظهرت منه في يوم الطفّ في حالته شجاعةٌ ما ظهرت مِن أحد أبداً(14) .
وإذا أردنا معرفة بعض السرّ في ذلك علينا أن نقف عند هذه الرواية : عن إبراهيم بن عليٍّ الرافعيّ , عن أبيه , عن جدّته بنت أبي رافع قالت : أتتْ فاطمة بنت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بابنَيها الحسنِ والحسين (عليهما السّلام) إلى رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) في شكواه الذي تُوفّي فيه , فقالت : (( يا رسول اللّه , هذانِ ابناك فورّثْهما شيئاً )) .
قال : (( أمّا الحسن فإنَّ له هيبتي وسؤدي , وأمّا الحسين فإنَّ له جرأتي وجودي ))(15) .
وفي رواية اُخرى قريبة منها , رَوَتْ زينب بنت أبي رافع , عن اُمّها قالت : قالت فاطمة (عليه السّلام) : (( يارسول اللّه , هذان ابناك فانحلْهما )) .
فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( أمّا الحسن فنحلتُه هيبتي وسؤددي , وأمّا الحسين فنحلتُه سخائي وشجاعتي ))(16) .
فالمهمّة الإلهيّةُ التي كُلّف بها الإمام الحسين (سلام الله عليه) اقتضتْ أن تظهر فيه الشجاعة بأجلى صورها , وبشكل مبكّر , وخاتمة جليلة ؛ فقد تواجد الإمام الحسين (عليه السّلام) في ساحة الفروسيّة منذ نعومة أظفاره وحداثة سنّه , ومارس فنون استعمال السلاح , وكان متهيّئاً للدفاع عن رسالة الإسلام والحفاظ على بيضة الدين , وصدّ العدوان عن المسلمين .
ثمّ ما إن شبّ قليلاً حتّى شهدت له ثلاث معارك بأنّه الفتى الشجاع الذي يغوص وسط الاشتباك , وهُنّ : الجمل , وصفّين , والنهروان . وقد اشترك (سلام الله عليه) في فتح طبرستان , ثمّ شهدت له الحياة السياسيّة في عهد معاوية ومن بعده يزيد أنّه صاحب المواقف الشجاعة , والكلمة الثابتة , والمنطق الحقّ في وجوه الطغاة , فما كان من التاريخ إلاّ أن سجّل له ذلك باعتزاز وافتخار .
قال الشيخ الإربليّ : وشجاعة الحسين (عليه السّلام) يُضرب بها المثَل , وصبره في مأقط الحراب(17) أعجز الأواخر والاُوَل , وثباته إذا دعيت نزال
ثبات الجبل , وإقدامه إذا ضاق المجال إقدام الأجل , ومقامه في مقابلة هؤلاء الفجرة عادَلَ مقام جدّه (صلّى الله عليه وآله) ببدر فاعتدل , وصبره على كثرة أعدائه وقلّة أنصاره صبر أبيه (عليه السّلام) في صفّين والجمل(18) .
وقال الاُستاذ عبد الحفيظ أبو السعود في الحسين (عليه السّلام) : عنوان النضال الحرّ , والجهاد المستميت , والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة , وعدم الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين(19) .
والحقيقة أنّ الشجاعة لا تعدّ من الأخلاق الفاضلة , ولا يثاب عليها إلاّ إذا تحلّت بالصفات التالية :
1 ـ الوعي والبصيرة
فالشجاع قبل كلّ شيء عليه أن يعرف أحكام الجهاد في سبيل اللّه , متى يكون , وكيف شرائطه , وما هي حدوده ؟ وإلى غير ذلك من الاُمور الشرعيّة ؛ لكي يعرف متى يحمل السلاح , ومَنْ يقابل به , وإلى مَنْ يوجّهه , ومتى يضعه ؟ وهذه الاُمور لا تخفى على سيّدنا الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ حيث هو ربيب بيت الوحي , ووريث رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) .
عن الحكم بن عتيبة قال : لقيَ رجلٌ الحسين بن عليّ (عليه السّلام) بالثعلبيّة وهو يريد كربلاء , فدخل عليه فسلّم عليه , فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( من أيّ البلدان أنت ؟ )) .
فقال : من أهل الكوفة .
قال : (( يا أخا أهل الكوفة , أما واللّه لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا , ونزوله على جدّي بالوحي . يا أخا أهل الكوفة , مستقى العلم من عندن , أفعلموا وجهلنا ؟! هذا ما لا يكون ))(20) .
فالإمام الحسين (سلام الله عليه) اتّصفتْ شجاعته بالعلم واقترنتْ به ؛ فهو يعرف متى يتكلّم , ومتى يتحرّك , وإلى أين يتّجه , وماذا يقول , ويعرف تكليف نفسه وتكليف الناس .
وقد سُئل يوماً عن الجهاد ؛ سنّة أو فريضة , فقال (عليه السّلام) : (( الجهادُ على أربعة أوجه ؛ فجهادان فرض , وجهاد سنّة لا يقام إلاّ مع فرض , وجهاد سنّة . فأمّا أحد الفرضين فجهاد الرجل نفسَه عن معاصي اللّه , وهو مِنْ أعظم الجهاد , ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض .
وأمّا الجهاد الذي هو سنّةٌ لا يقام إلاّ مع فرض فإنّ مجاهدة العدوّ فرضٌ على جميع الاُمّة , لو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب , وهذا هو من عذاب الاُمّة , وهو سنّةٌ على الإمام , وحدُّه أن يأتي العدوَّ مع الاُمّة فيجاهدهم .
وأمّا الجهاد الذي هو سنّة فكلُّ سنّة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال ؛ لأنها إحياء سنّة , وقد قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : مَنْ سنَّ سنّةً حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمِل بها إلى يوم القيامة , من غير أن يُنقص من أجورهم شيئاً ))(21) .
وهذا البيان المفصّل يكشف لنا عن علم محيط بالشريعة , فإذا انطلق الجهاد من هذا العلم كان جهاداً نيّراً , وإذا قامت به الشجاعة كانت شجاعةً واعية , وكان الإقدام على هدىً وبصيرة .
وقد رأى الإمام الحسين (صلوات اللّه عليه) أنَّ الظرف الذي عاشه آخر أيّامه المباركة قد استدعى حكم الجهاد في سبيل اللّه تعالى , حيث تمّت شروطه , واقتضى الحال نهوضاً لا تقيّة معه , فلا بدَّ أن تُقدَّم الدماء والأنفس دون الدين .
2 ـ الهدفيّة
فالشجاعة ما لم تحمل هدفاً مقدّساً وغايةً نبيلة فإنّها تهوّرٌ وإلقاءٌ بالنفس إلى التهلكة , في حين إذا جاءت عن نيّة مخلصة للّه تعالى , وشخّصت الهدف الإلهيّ , آتتْ ثوابها , وختمت لصاحبها بالشرف الرفيع , وقبول العمل , أو بكلتيهما مع التوفيق للشهادة في سبيل اللّه (عزّ وجلّ) .
والنيّة ـ كما يقول الفقهاء وعلماء الأخلاق ـ شرطٌ في العبادات كلّها ؛ فلا يصحُّ شيءٌ من الأفعال بدون النيّة . قال النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّما الأعمال بالنيّات ))(22) . فإذا ما نوى المرءُ الرياءَ فقد حبط عمله , وصارتْ طاعته معصية .
ومنْ يشكّ في نيّة الإمام الحسين (عليه السّلام) وهو يعلم أنه قادمٌ على معركة يُقتل فيها ليحيا الإسلام , وأرض يغدر فيها به لتفيق الاُمّة ؟! وقد صرّح بذلك مرّات ومرات , من ذلك أنه (سلام الله عليه) كتب إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة كتاباً هذا نصُّه : (( بسم اللّه الرحمن الرحيم , من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم . أمّا بعد , فإنَّ مَن لَحِق بي استُشهد , ومن تخلّف لم يدرك الفتح . والسّلام ))(23) .
وخطب (عليه السّلام) في مكة قبل سفره إلى كربلاء , فقال : (( كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء , فيملأن منّي أكراشاً جوفا , وأجربةً سغبا , لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ))(24) .
أمّا الهدف الذي خرج من أجله الإمام الحسين (عليه السّلام) فهو طاعة اللّه تعالى وطلب مرضاته , ثمّ ما يتحقّق بتوفيق اللّه (عزّ وجلّ) من :
أ ـ إقامة للعدل
ب ـ دَمْغ للظلم
ج ـ تحصين للدين
د ـ إيقاظ للمسلمين
هـ ـ إعلاء لكلمة الحقّ , وتنكيس لكلمة الباطل
و ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ز ـ فضح الظالمين والمنحرفين
وقد عبّر الإمام الحسين (سلام الله عليه) عن هذا الهدف الشريف بشجاعة ثابتة , ولمرّات عديدة . وقف عند قبر رسول اللّه يناجي ربَّه قائلاً : (( اللّهمّ إنَّ هذا قبر نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله) , وأنا ابن بنت نبيّك , وقد حضرني من الأمر ما قد علمت . اللهمَّ إنّي اُحبُّ المعروف , وأنكر المنكر , وأسألك يا ذا الجلال والإكرام , بحقّ القبر ومَنْ فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضاً , ولرسولك رضاً ))(25) . فالنيّة واضحة , والدعاء مفصحٌ عنه , والهدف بيّن , وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد عبّر عن ذلك أيضاً في وصيّة إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة , حيث كتب له فيها : (( ... وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً , ولا مفسداً ولا ظالماً , وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله) ؛ اُريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ... ))(26) .
أجل , فمثْلُ الإمام الحسين (عليه السّلام) لا يقْدم إلاّ على مثْل هذا ؛ فهو الذي خلصت نيّته للّه (جَلّ وعلا) , وعرف ماذا أمر اللّه تعالى في شريعته , وانشدّ قلبه إلى طاعة اللّه (عزّ وجلّ) وحده ؛ فلا يقوم إلاّ للّه سبحانه , و لِمَ لا وهو الذي قال النبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) فيه وفي أخيه الحسن (عليهما السّلام) :

(( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ))(27) .
وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( الحسن والحسين إمامان , إنْ قاما وإنْ قعدا ))(28) .
وأخرج ابن تيمية (فقيه الحنابلة) قال : قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) , وقد أشار إلى الحسين : (( هذا إمام , ابن إمام , أخو إمام , أبو أئمّة تسعة ))(29).
وقد مرّ علينا أنّ من صفات الإمام ـ كما ذكرها عليّ بن موسى الرضا (عليه السّلام) ـ : (( أمين اللّه في خلقه , وحجّتُه على عباده , وخليفته في بلاده , والداعي إلى اللّه , والذابّ عن حُرُم اللّه ... ))(30) .
فيتعيّن بذلك أنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) يعلم ما ينبغي , ويعني ما يقوله وما يُقْدم عليه , وهدفه هو إرادة اللّه تبارك وتعالى التي دعت إلى إقامة العدل وإزاحة الجور , وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل .
وقد عاش الإمام الحسين (عليه السّلام) في ظلّ أوضاع أزرتْ بالمسلمين , وهدّدتْ شريعة سيّد المرسلين ؛ حيث حكم بنو اُميّة , وما أدرانا ما بنو اُميّة !
أخرج الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطيّ الحافظ في تفسيره (الدرّ المنثور) قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة قال : قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( اُريت بني اُميّة على منابر الأرض , وسيملكونكم , فتجدونهم أرباب سوء )) .
واهتمّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) لذلك , فأنزل اللّه : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)(31) .
وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن عليّ أنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أصبح وهو مهموم , فقيل : ما لك يا رسول اللّه ؟ فقال : (( إنّي اُريت في المنام كأنَّ بني اُميّة يتعاورون منبري هذا )) . فقيل : يا رسول اللّه , لا تهتّم ؛ فإنّها دنيا تنالهم . فأنزل اللّه : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ...) ـ الآية .
وأخرج البيهقيّ في الدلائل , وابن عساكر في تاريخه , عن سعيد بن المسيِّب قال : رأى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بني اُميّة على المنابر فساءه ذلك , فأوحى اللّه إليه إنّما هذه دنيا اُعطوها , فقرّت عينه , وهي قوله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ...) يعني بلاءً للناس(32) .
وجاء في (تفسير القرآن العظيم)(33) لابن كثير : المراد بالشجرة الملعونة بنو اُميّة . وفي (التفسير الكبير)(34) للفخر الرازيّ قال : قال ابن عبّاس : الشجرة بنو اُميّة . وجاء بمعناه في تفسير (النيسابوريّ) المسمّى بـ (غرائب القرآن ورغائب الفرقان)(35) .
وأخرج إمام المعتزلة ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة)(36) , عن المدائنيّ أنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) رُفع له مُلْك بني اُميّة , فنظر إليهم يعلون منبره واحدٌ واحد , فشقَّ ذلك عليه , فأنزل اللّه تعالى في ذلك قرآناً قال له : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) .
قال الآلوسي : والشجرة الملعونة في عبارة بعض المفسّرين هي بنو اُميّة . إلى أن قال : وفيه من المبالغة في ذمّهم ما فيه , وجعل ضمير (نُخوِّفُهم) على هذا لما كان له أو لا(37) , أو للشجرة باعتبار أنَّ المراد بها بنو اُميّة , (ولعنهم) لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة , والفروج المحصنة , وأخذ الأموال من غير حلّها , ومنع الحقوق عن أهلها , وتبديل الأحكام , والحكم بغير ما أنزل اللّه تعالى على نبيّه (عليه الصلاة والسّلام) , إلى غير ذلك من القبائح العظام , والمخازي الجسام التي لا تكاد تُنسى ما دامت الليالي والأيّام . وجاء لعنهم في القرآن على الخصوص وعلى العموم(38) .
وأخرج المؤرّخ والمحدّث (المتّقي الهنديّ)(39) في كتابه الشهير (كنز العمّال)(40) , عن عمر بن الخطّاب في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) , قال عمر : هما الأفجرانِ من قريش ؛ بنو المغيرة وبنو اُميّة .
ولكنَّ الغريب حقّاً أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي ولّى بني اُميّة على الشام ! حتّى إذا جاء عثمان بن عفّان ثبّتهم على الحكم , وأطلق يدهم في الأموال , ووسّع لهم في السلطة على غير الشام , ومدّ لهم في الصلاحيّات .
وأخرج المؤرّخ المعروف (الخطيب البغداديّ) في تاريخه(41) , عن علقمة والأسود قالا : أتينا أبا أيّوب الأنصاريّ عند منصرفه من صفّين , فقلنا له : يا أبا أيّوب , إنّ اللّه أكرمك بنزول محمّد (صلّى الله عليه وآله) وبمجيء ناقته ؛ تفضّلاً من اللّه وإكراماً لك أناخت ببابِكَ دون الناس , ثمّ جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلاّ اللّه .
فقال : يا هذا , إنَّ الرائد لا يكذبُ أهله , وإنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أمرنا بقتال ثلاثة مع عليٍّ (كرّم اللّه وجهه) ؛ بقتال الناكثين , والقاسطين , والمارقين ... إلى أن قال أبو أيّوب الأنصاريّ : وأمّا القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم . يعني معاوية وعمْراً .
ولم تأتِ روايةٌ تلوم هذا الصحابيَّ الجليل المتفقّه أبا أيّوب الأنصاريّ لأنه حارب بني اُميّة باعتبارهم القاسطين المنحرفين , ولكنَّ الأقلام الحاقدة حملت اللائمّة على الإمام الحسين (سلام الله عليه) حينما حمل سيفه وزحف إلى كربلاء , وأخذت تطبّق على الواقعة آية التهلكة , مع أنّ الإقدام على الشهادة ليس إعانةً على إزهاق النفوس , لا سيّما وأنّ الجهاد بأحكامه الإلهيّة دعا إلى إنقاذ الرسالة , وبثّ روح العزّة في المسلمين إذا خنعوا لسلاطين الجور والفساد ,
وحمل السلاح في وجه المحاربين , ولقد قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب , ورجلٌ تكلّم بكلمة حقٍّ عند سلطان جائر فقتله ))(42) .
وأخرج الحاكم(43) في (المستدرك على الصحيحين)(44) , عن أبي برزة الأسلميّ قال : كان أبغض الأحياء إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) بنو اُميّة .
وأخرج أيضاً عن أبي سعيد الخدريّ , قال : قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( إنَّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من اُمتي قتلاً وتشريداً , وإنَّ أشدَّ قومنا لنا بغضاً بنو اُميّة ))(45)(46) .
وجاء في صحيح الترمذيّ ج 2 , ومستدرك الصحيحين 3 / 170 , وتفسير ابن جرير 30 / 167 , وتفسير الفخر الرازيّ , والدرّ المنثور للسيوطيّ , وجامع البيان للطبريّ 30 / 167 , وغيرها في تفسير الآية الشريفة (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أنها مؤوّلةٌ بملْك بني اُميّة , وقد دام ألف شهر .
وأبرز حكّام بني اُميّة معاوية بن أبي سفيان الذي مال الناس إليه بالترغيب والترهيب ؛ فنسوا دينهم , وتخلّفوا عن أئمّة الحقّ والهدى , وهو الذي نقل لنا التاريخ عنه فسقه وفجوره , وقتله للصحابة ...
قال ابن حجر العسقلانيّ : تواترت الأحاديث عن النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) أنَّ عمّاراً تقتله الفئة الباغية , وأجمعوا على أنّه قُتل مع عليٍّ بصفّين(47) .
وأخرج إمام الحنابلة (أحمد بن حنبل) في مسنده عن عبد اللّه بن بريدة , قال : دخلت أنا وأبي على معاوية , فأجلسنا على الفرش , ثمّ أتانا بالطعام فأكلنا , ثمّ أتانا بالشراب فشرب معاوية , ثمّ ناوله أبي فقال أبي : ما شربته منذ حرّمه رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) .
وطالما حذّر منه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , وأشار إليه بإصبع الإنذار , وقد نقل الرُّواة في ذلك الكثيرَ الكثير , منه على سبيل المثال لا الحصر : أخرج ابن حجر الهيتميّ في كتابه (مجمع الزوائد)(48) , عن عمرو بن الحمق الخزاعيّ قال : إنّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) قال لي ذات يوم : (( يا عمرو , هل لك أن اُريك آية النار تأكل الطعام وتشرب الشراب وتمشي في الأسواق ؟ )) .
قلت : بلى بأبي أنت واُمّي !
قال : (( هذا وقومه آية النار )) , وأشار إلى معاوية .
وروى البلاذريّ في (أنساب الأشراف) الجزء الأوّل , قال عبد الله بن عمرو بن العاص : كنت جالساً عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , فقال : (( يطلع عليكم من هذا الفجّ رجلٌ يموت ـ يوم يموت ـ على غير ملّتي )) .
قال عبد اللّه : وتركت أبي يلبس ثيابه , فخشيت أن يطلع , فطلع معاوية(49) .
وفي كتاب (صفّين) لابن مزاحم / 244 , قال البراء بن عازب : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية , فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( اللّهمّ العن التابع والمتبوع , اللّهمّ عليك بالاُقيعس )) .
فقال ابن البراء لأبيه : مَن الاُقيعس ؟
قال : معاوية .
والاُقيعس في اللغة : الرجل أخرج صدره , كناية عن التكبّر , أو لأنّه كان كبير البطن حتّى صار يُضرب بكبره المثل . وقد ذكر المؤرّخون أنَّ معاوية إذا جلس افترش كرشه على فخذيه فسترهما , ولم يبد منه سوى عيني ركبتيه .
وإذا كان هذا لا يكفي المسلمين أن يعرفوا من هو معاوية , وما ينبغي عليهم من التكليف تجاهه , فتعالوا نقف عند هذا الخبر . في (ميزان الاعتدال) للذهبيّ 2  / 7 , روى عبّاد بن يعقوب , عن شريك عن عاصم , عن زرّ , عن عبد اللّه , قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) : (( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه )) . وقد صحّح الذهبيُّ الحديث , ثمّ رواه في الكتاب نفسه 2 / 129 عن أبي سعيد الخدريّ , وذكر نحوه عن أبي جذعان .
ورواه أيضاً ابن حجر في تهذيب التهذيب 5 / 110 , و7 / 324 بنصّ قريب : (( إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه )) , و8 / 74 أنَّ عمراً روى عن الحسن أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال : (( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه )) .
ثمّ جاء المناويّ(50) فقال في كتابه المعروف بـ (كنوز الحقائق) / 9 : أقول : يُحتمل قويّاً أن يكون المراد من المنبر في قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : (( إذا رأيتم معاوية على منبري ... )) هو مطلق المنبر ؛ بدعوى أنّ كلّ منبر يُصعَد عليه في الإسلام ويُخطَبُ عليه فهو منبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , ويُحتمل أن يكون المراد منه هو خصوص منبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في المدينة كما يؤيّده بل يدلُّ عليه ما تقدّم في حديث أبي سعيد : (( إذا رأيتم معاوية على‏ هذه الأعواد ... )) .
وعلى‏ كلّ حال فإنَّ معاوية حسب الأحاديث المتقدّمة ممّن يجب قتله بحكم النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , وقد تسامح فيه المسلمون ؛ أمّا وجوب قتله على‏ الاحتمال الأوّل فواضح , وأمّا على‏ الثاني فلِما رواه ابن سعد في الطبقات (4 / 136 ـ القسم الأوّل) من مجي‏ء معاوية إلى‏ المدينة , وصعوده على‏ منبر النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسديّ , عن أيّوب , عن نافع قال : لمّا قدم معاوية المدينة حلف على‏ منبرِ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ليقتلنَّ ابن عمر .
هكذا أمر رسولُ ‏الله (صلّى‏ الله عليه وآله) بياناً منه لانحراف معاوية , ولكنَّ معاوية هذا تولّى‏ ولاية الشام في عهد «عمر بن الخطاّب» بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان , ولاّه عمر وهو الذي عُرف بشدّته في محاسبته للولاة , وصرامتُه نُقلتْ مع أبي هريرة بعد أن عزله من ولاية البحرين واتّهمه بسرقة بيت مال المسلمين , لكنّه لم يرد عن «عمر» أنّه حاسب معاوية ! ثمّ لا ندري كيف فات خليفةَ المسلمين أنَّ الطلقاء لا يحقُّ لهم أن يتولَّوا(51) ؟!
في ترجمة (معاوية بن أبي سفيان) ذكر ابن الأثير : وروى‏ عبد الرحمن‏ بن أبزي , عن عمر أنّه قال : هذا الأمر من أهل بدر ما بقي منهم أحد , ثمّ في أهل اُحد ما بقي منهم أحد , ثمّ في كذا وكذا , وليس فيها لطليق , ولا لولدِ طليق , ولا لمسلمة الفتح شي‏ء(52) .
وفي ترجمة (عبد الرحمن بن غُنْم الأشعريّ) قال ابن عبد البرّ : ويُعرف بصاحب معاذ ؛ لملازمته له , وسمع من عمر بن الخطّاب , وكان من أفقه أهل الشام , وهو الذي فقّه عامّة التابعين بالشام , وكانت له جلالة وقدْر , وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند عليٍّ (عليه السّلام) رسولين لمعاوية .
وكان ممّا قال لهما (عبد الرحمن بن غُنم الأشعريّ) : عجباً منكما ! كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوان عليّاً أن يجعلها شورى‏ وقد علمتما أنّه ـ أي عليّ (عليه السّلام) ـ قد بايعه المهاجرون والأنصار , وأهل الحجاز وأهل العراق , وأنّ من رضيه خيرٌ ممّن كرهه , ومَنْ بايعه خيرٌ ممّن لم‏ يبايعه ؟! وأيُّ مدخلٍ لمعاوية في الشورى‏ وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة , هو وأبوه من رؤوس الأحزاب ؟!
قال : فندما (أبو هريرة وأبو الدرداء) على مسيرهما ...(53) .
وقد أسّس معاوية لنفسه فترة خلافة عثمان استعداداً للوثبة على‏ الخلافة , فلمّا قُتل عثمان أحدث الفتن , وأراق دماء ثمانين ألفاً من المسلمين في حرب صفّين , وبعد صفّين أرسل السرايا والجيوش إلى‏ أطراف البلاد لإيجاد الفوضى‏ والبلبلة بين المسلمين . واختلق الأحاديث لتثبيت سلطته , وتبرير قمعه للناس , كما اختلق فِرَقاً (سياسيّةً ـ دينيّة) باسم الإسلام تتّخذ اسم المرجئة مرّة , والجبريّة اُخرى‏ ؛ لتحريم الثورة ضدَّه(54) .
وقد أراد الإمام الحسن (سلام الله عليه) أن يقتل معاوية ؛ ائتماراً بأمر رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , لكنَّ الناس خذلوه ونكثوا عهدهم معه , فاضطُرّ إلى‏ الصلح . بعده دخل معاوية الكوفة وقد وقّع على‏ وثيقة الصلح أن يتقيّد بشرع الإسلام , فأطبق جيشه على‏ الكوفة , وخاطب أهلها قائلاً : يا أهل الكوفة , أتروني اُقاتلكم على‏ الصلاة والزكاة والحجّ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ؟! ولكنّني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وعلى‏ رقابكم , وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون . ألاَ إنّ كلَّ مالٍ أو دمٍ اُصيبَ في هذه الفتنة فمطلول , وكلّ شرطٍ شرطته فتحت قدمَيَّ هاتين(55) .
وكان ذلك إلغاءً صريحاً ونقضاً فاضحاً لبنود وثيقة الصلح , وقد شفع ذلك بتدبير مؤامرة اغتيال الإمام الحسن (عليه ‏السّلام) ؛ فأغرى‏ به زوجته (جعدة بنت الأشعث) فقتلته بالسمّ , وقد منّاها أن يزوّجها ابنه يزيد فلم يفِ لها بذلك بعد جريمتها .
وقد استطاع الإمام الحسن (سلام الله عليه) بوثيقة الصلح أن يفضح معاوية ؛ لعلمه (عليه السّلام) أنَّ معاوية لا يتقيّد بشرط . وقد خدع معاويةُ الناسَ بادّعاءاته , فجاءتْ وثيقة الصلح فأبانت للناس غدره ؛ حيث توّج ابنه (يزيد) خليفةً له وملِكاً على‏ الاُمّة من بعده , مع أنَّ الوثيقة التي وقّعها معاوية تقضي أن يكون الإمام الحسن (عليه السّلام) خليفة المسلمين بعد موت معاوية , فإن تُوفّي الحسن (سلام الله عليه) قبل معاوية فالإمام الحسين (عليه السّلام) هو وليُّ الأمر .
حتّى‏ إذا استتبّت الاُمور لمعاوية أظهر ما استبطنه من الأحقاد ؛ فأشاع الإرهابَ , وأثار الفتن العرقيّة , والتعصبّات الجاهليّة , والعنعنات القبليّة , وأعمل القتلَ في موالي عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ؛ فكتب إلى‏ قائدٍ من قوّاد جيوشه : فاقتل كلَّ مَن لقيتَه ممّن ليس هو على‏ مثْل رأيك , واضرب كلَّ ما مررت به من القرى‏ , واحرِبِ الأموال ؛ فإنَّ حربَ الأموال شبيهٌ بالقتل , وهو أوجع للقلب(56) .
وكتب إلى‏ ولاته في جميع الأمصار : انظروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان , وأسقطوا عطاءه ورزقه(57) . ثمّ أمر أن يُلعَن أولياء الله على‏ المنابر ؛ فشُتم الإمام عليٌّ (عليه السّلام) على‏ منابر بني اُميّة ألف شهر , أكثر من ثمانين سنة(58) ؛ ولذا اُوّلت الآية (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ذلك التأويل الذي ذكرناه .
أمّا حقده على‏ النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , ونعرته الجاهليّة , فيكفي في ذلك بياناً هذه الرواية : روى‏ مطرف بن مغيرة بن شعبة قال : وفدت مع أبي على‏ معاوية , فكان أبي يتحدّث عنده ثمّ ينصرف إليَّ وهو يذكر معاوية وعقله , ويعجب بما يرى‏ منه .
وأقبل ذات ليلةٍ ـ أي المغيرة بن شعبة ـ وهو غضبان , فأمسك عن العشاء , فانتظرته ساعةً وقد ظننت أنّه لشي‏ءٍ حدث فينا أو في عملنا , فقلت له : ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة ؟
قال : يا بنيّ , جئتك من عند أخبث الناس !
قلت : ما ذاك ؟
قال : خلوت بمعاوية فقلت له : إنّك بلغت مناك يا أمير المؤمنين , فلو أظهرت عدلاً , وبسطت خيراً ؛ فإنّك كبرت , ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم , فوالله ما عندهم اليوم شي‏ءٌ تخافه .
فثار معاوية واندفع يقول : هيهات , هيهات ! ملك أخو تيمٍ فعدل , وفعل ما فعل , فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره , إلاّ أن يقول قائل : قال أبو بكر . ثمّ ملك أخو عديٍّ فاجتهد وشمّر عشر سنين , فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره , إلاّ أن يقول قائل : عمر . ثمّ ملك أخونا عثمان , فملك رجلٌ لم يكن أحدٌ في مثل نسبه , فعُمل به ما عُمل , فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره .
وإنَّ أخا هاشم ـ يعني رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ـ يُصرخ به في كلّ يومٍ خمس مرّات : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله , فأيُّ عملٍ يبقى‏ بعد هذا لا اُمَّ لك ! والله سحقاً سحقاً , والله دفناً دفناً(59) !
ثمّ ما أن استقرّت الأحوال لمعاوية حتّى‏ كانت له اجتهاداتٌ ـ يطول بيانها ـ في تغيير الأحكام الإسلاميّة , بدّل منها ما بدّل حتّى‏ سُمّي بعضها بأوّليّات معاوية(60) .
ثمّ جاء من بعده يزيد , وما أدراك ما يزيد ! جاء في كتاب (صحيح البخاريّ) ج 9 كتاب الفتن ـ باب قول النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( هلاك اُمّتي على‏ يدي اُغيلمةٍ سفهاء )) , حدّثنا موسى‏ بن إسماعيل , حدّثنا عمرو بن يحيى‏ بن سعيد بن عمر بن سعيد , قال : أخبرني جدّي قال : كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) بالمدينة ومعنا مروان , قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدوق يقول : (( هلكةُ اُمّتي على‏ يدي غلمةٍ من قريش )) .
يقول شارح صحيح البخاريّ ابنُ حجرالعسقلانيّ في (فتح الباري) 13 / 7 و 8 : إنَّ أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول : اللَّهمَّ لا تدركني سنة ستّين , ولا إفادة الصبيان .
قال ابن حجر : وفي هذا إشارةٌ إلى‏ أنَّ أوّل الاُغيلمة كان في سنة ستّين , وهو كذلك ؛ فإنّ يزيد بن معاوية استُخلف فيها وبقي إلى‏ سنة 64 هـ فمات , ثمّ وُلّيَ ولده معاوية ومات بعد أشهر .
وقال الشارح أيضاً : إنَّ أوّل هؤلاء الغلمان يزيد كما دلّ عليه قول أبي هريرة سنة ستّين وإمارة الصبيان .
وروى‏ ابن حجر العسقلانيّ في كتابه : (مجمع الزوائد 5 / 241) عن مُسند أبي يعلى‏ , والبزّاز , وابن حجر الهيتميّ في (الصواعق المحرقة / 132) عن مسند الرويانيّ , عن أبي الدرداء قال : سمعت النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول : (( أوّل من يبدّل سنّتي رجلٌ من بني اُميّة يُقال له : يزيد )) .
أمّا أبو يعلى‏ والبزّاز فقد رويا أنَّ النبيَّ (صلّى‏ الله عليه وآله) قال : (( لا يزال أمر اُمّتي قائماً بالقسط حتّى‏ يكون أوّل من يثلمه رجلٌ من بني اُميّة يقال له : يزيد )) .
وأخرج القاضي نعمان المصريّ في كتابه (المناقب والمثالب / 71) , عن النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) أنّه نظر يوماً إلى‏ معاوية يتبختر في حبره , وينظر إلى‏ عطفيه , فقال مخاطباً إيّاه : (( أيّ يومٍ لاُمّتي منك ! وأيّ يوم لذرّيّتي منك من جُروٍ يخرج من صلبك , يتّخذ آيات الله هزواً , ويستحلُّ من حرمتي ما حرّم الله (عزّ وجلّ) )) .
وفي كنز العمّال للمتّقي الهنديّ 6 / 39 هذا الحديث : (( يزيد ! لا بارك الله في يزيد ؛ نُعِيَ إليَّ الحسين واُوتيت بتربته , واُخبرت بقاتله ... واهاً لفراخ آل محمّد من خليفةٍ مستخلفٍ مترف يقتل خلَفي وخلَف الخلَف ! )) .
أخرجه الطبرانيٌّ عن معاذ , وذكره‏ ابن حجر الهيثميّ في (مجمع الزوائد 9 / 189) عن معاذ بن جبل , إلاّ أنّه قال : قال النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( يزيد ! لا بارك الله في يزيد )) . ثمّ ذرفت عيناه , ثمّ قال : (( نُعِيَ إليَّ حسين )) . وذكره المناويّ في (فيض القدير) وقال : أخرجه ابن عساكر عن سلمة بن الأكوع , ورواه عنه ابن نعيم والديلميّ .
وفي (كنز العمّال 6 / 223) أيضاً : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( لا بارك الله في يزيد الطعّان اللّعّان , أما إنّه نُعي إليّ حبيبي حسين , واُوتيتُ بتربته , ورأيتُ قاتله , أما إنّه لا يُقتل بين ظهرانَي قومٍ فلا ينصروه إلاّ [عمّهم الله] بعقاب )) . أخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن عمر بن الخطّاب .
ومَن لم يسمع بهذه الأحاديث النبويّة الصريحة فلا بدَّ أنّه سمِع بسيرة يزيد , وقد سار بها الركبان , وشاعت بين البلدان ؛ فقد نشأ يزيد نشأةً بعيدةً عن أجواء الإسلام ؛ فمنطقة (حوّارين) التي عاشتْ فيها اُمّه وأهلها كانت ذات جوّ مسيحيّ , وظلّ يزيد بعد نشأته هناك يحنّ إلى‏ (حوّارين) ويتردّد عليها بين الحين والآخَر(61) .
وقد آل الأمر إلى‏ يزيد بعد أن هلك معاوية وهو هناك , ومات يزيد نفسه وهو هناك في (حوّارين) متشاغلاً بالخمور والفجور , ولم يَعُدْ إلاّ بعد عشرة أيّام من هلاك أبيه , فصلّى‏ على‏ قبره إذ كان مدفوناً(62) .
يقول الاُستاذ (عبد الله العلايليّ) في كتابه حول الإمام الحسين (عليه السّلام) (سموّ المعنى‏ في سموّ الذات) / 59 : إذا كان يقيناً أو يشبه اليقين أنَّ تربية يزيد لم تكن إسلاميّةً خالصة , أو بعبارة اُخرى : كانت مسيحيّةً خالصة فلم ‏يبقَ ما يُستغرب معه أن يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما عليه الجماعة الإسلاميّة , لا يحسب لتقاليدهما واعتقاداتها أيَّ حساب , ولا يقيم لها وزناً , بل الذي نستغرب أن يكون على‏ غير ذلك .
ويقول الاُستاذ عمر أبو النصر : أمّا اُستاذ يزيد أو أساتذته إذا كانوا غير واحد , فإنّهم مجهولون , وقد أسف «لامنس» المستشرق اليسوعيّ لهذا النقص التاريخيّ(63) ؛ لأنّه يعتقد أنّ اُستاذ يزيد لا يبعد أن يكون مسيحيّاً من‏ مشارقة النصارى‏ , خصوصاً ويزيد نفسه قد كلّف كاهناً مسيحيّاً بتثقيف ولده خالد .
 لقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحيّة قبل الإسلام , وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين , فتأثّر بسلوكهم إلى‏ حدٍّ بعيد ؛ فكان يشرب الخمر معهم ويلعب بالكلاب(64) .
ويصفه السيّد مير علي الهنديّ مقارناً إيّاه بأبيه , فيقول : كان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه , ولكنّه ليس بداهيةٍ مثله , كانت تنقصه القدرة على‏ تغليف تصرّفاته القاسية بستارٍ من اللباقة الدبلوماسيّة الناعمة , وكانت طبيعته المنحلّة وخلقه المنحطّ لا تتسرّب إليهما شفقةٌ ولا عدل , وكان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذّة التي يشعر بها وهو ينظر إلى‏ آلام الآخرين , وكان بؤرةً لأبشع الرذائل , وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهدٍ على‏ ذلك , لقد كانوا من حثالة المجتمع(65) .
وروى‏ الطبريّ في تاريخه 7 / 43 من شعر ابن عرادة , أنّ يزيد كان شرّيباً للخمر طوال حياته حتّى‏ الموت , وقد مات بين كأس الخمر وزقّ الخمر , والمغنّية وآلة الطرب , قال :

 أبنَي اُميّة إنّ آخِرَ ملكِكمْ    جَسَدٌ بحوّارين ثَمَّ مُقيمُ‏
 طرقتْ منيّتُه وعند وسادِهِ    كوبٌ وزقٌّ راعف مرثومُ‏
 [ومرنة] تبكي على‏ نشوانه    بالصنج تقعد تارةً وتقومُ‏

وقد عُرف عنه الإدمان , حتّى‏ إنَّ بعض المصادر تعزو سبب هلاكه إلى‏ أنّه شرب مقداراً كبيراً من الخمرة فأصابه انفجار .
وكان قد اصطفى‏ جماعةً من الخلعاء والماجنين , فكان يقضي معهم لياليه بين الشراب والغناء , وفي طليعة ندمائه الأخطل , الشاعر المسيحيّ الخليع ؛ فكانا يشربان ويسمعان الغناء , وإذا أراد السفر صحبه معه , ولمّا هلك يزيد وآلَ السلطان إلى‏ عبد الملك ‏بن مروان قرّب الأخطل ؛ فكان يدخل عليه بغير استئذان , وعليه جُبّة خزّ , وفي عنقه سلسلةٌ من ذهب , والخمر يقطر من لحيته(66) .
وفي تاريخ ابن كثير 8 / 228 : كان يزيد صاحب شراب , فأحبّ معاوية أن يعظه في رفق , فقال : يا بُنيّ , ما أقدرك على‏ أن تصل حاجتك من غير تهتّكٍ يذهب بمروءتك وقدْرِك , ويشمت بك عدوّك , ويسي‏ء بك صديقك .
ثمّ قال : يابُنيّ , إنّي منشدك أبياتاً فتأدّب بها واحفظها .
فأنشده :

انصبْ نهارَك في طِلابِ العُل    واصبر على‏ هجر الحبيب القريبْ‏
 حتّى‏ إذا الليل أتى‏ بالدُّجى    واكتحلت بالغمض عينُ الرقيبْ‏
 فباشرِ الليل بما تشتهي    فإنَّما الليلُ نهار الأريبْ‏
 كم فاسقٍ تحسبه ناسك    قد باشر الليل بأمرٍ عجيبْ‏
 غطّى‏ عليه الليلُ أستارَه    فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيبْ‏
 ولذّة الأحمق مكشوفةٌ    يسعى‏ بها كلُّ عدوٍّ مريبْ‏

وأضاف ابن كثير على‏ الصفحة (230) قائلاً : وكان في يزيد أيضاً إقبالٌ على‏ الشهوات , وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات .
أمّا اليعقوبي فقد أورد في تاريخه 2 / 220 أنّ معاوية لمّا أراد أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس طلب من زياد بن أبيه أن يأخذ بيعة المسلمين في البصرة , فكان جواب زياد له : ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى‏ بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود , ويلبس المصبّغات , ويُدمن الشراب , ويمشي على‏ الدفوف , وبحضرتهم الحسين بن عليّ , وعبد الله بن عبّاس , وعبد الله بن الزبير , وعبدالله‏ بن عمر ؟! ولكن تأمره يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ؛ [فعسانا] أن نُمَوِّهَ على‏ الناس .
وأرسل معاويةُ يزيدَ إلى‏ الحجّ , وقيل : بل أخذه معه , فجلس يزيد بالمدينة على‏ شراب , فاستأذن عليه عبد الله بن عبّاس والحسين بن عليّ , فأمر يزيد بشرابه فرُفع , وقيل له : إنّ ابن عبّاس إن وجد ريح شرابك عرفه . فحجبه وأذِنَ للحسين , فلمّا دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب , فقال : (( ما هذا يابن معاوية ؟ )) .
فقال : يا أبا عبد الله , هذا طيبٌ يصنع لنا بالشام .
ثمّ دعا بقدحٍ فشربه , ثمّ دعا بقدحٍ آخر فقال : اسقِ أبا عبد الله يا غلام .
فقال الحسين : (( عليك شرابك أيّها المرء )) .
فقال يزيد :

 ألا يا صاحِ للعجبِ    دعوتُك ثمَّ لم تُجبِ‏
 إلى‏ القيناتِ واللذّ    تِ ‏والصهباء والطربِ‏
 وباطيةٍ مكللّةٍ    عليها سادةُ العربِ‏
 وفيهنّ التي تبلتْ    فؤادَك ثمّ لم تَتُبِ‏

فوثب الحسين عليه وقال : (( بل فؤادَك يابن معاوية تبلتْ ))(67) .
وذكر اليعقوبي أنّ معاوية حجّ وحاول أن يأخذ البيعة من أهل مكّة والمدينة , فأبى‏ عبد الله بن عمر وقال : نبايع من يلعب بالقرود والكلاب , ويشرب الخمر ويُظهر الفِسْق ؟! ما حجّتنا عند الله ؟!
وقال عبد الله بن الزبير : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق , وقد أفسد علينا ديننا(68) .
وفي رواية أنّ الحسين (عليه السّلام) قال لمعاوية : (( كأنّك‏ تصف محجوب , أو تنعت غائب , أو تُخبر عمّا كان احتويته لعلمٍ خاصّ . وقد دلّ يزيد من نفسه على‏ موقع رأيه ؛ فخذ ليزيد في ما أخذ من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش , والحمام السبق لأترابهنّ , والقينات ذوات المعازف , وضروب الملاهي تجده ناصراً , ودَعْ عنك ما تحاول ))(69) .
وكان يزيد شاعر , وقد أكثر من نظم الشعر في الخمر والغناء , ومنه :

 معشرَ الندمانِ قُومو    واسمعوا صوتََ الأغاني‏
 واشربوا كأسَ مدامٍ    واتركوا ذكْرَ المثاني(70)
شغلتْني نغمة العي    ـدانِ عن صوت الأذانِ‏
 وتعوّضت من الحو    ر عجوزاً في الدنانِ(71)

وروى‏ صاحب الأغاني قائلاً : كان يزيد بن معاوية أوّلَ مَن سنّ الملاهي في الإسلام من الخلفاء , وآوى‏ المغنّين , وأظهر الفتك , وشرب الخمر , وكان ينادم عليها سرجون النصرانيّ مولاه , والأخطل ـ الشاعر النصرانيّ ـ , وكان يأتيه من المغنّين سائب خائر فيقيم عنده , فيخلع عليه(72) .
وجاء في أنساب الأشراف للبلاذريّ : كان يزيد بن معاوية أوّلَ مَن أظهر شرب الشراب , والاستهتار بالغناء والصيد , واتّخاذ القيان والغلمان , والتفكّه بما يضحك منه المترفون من القرود , والمعافرة بالكلاب والديكة(73) .
ثمّ روى‏ البلاذريّ عن شيخٍ من أهل الشام أنّ سبب وفاة يزيد أنّه حمل قردةً على‏ الأتان وهو سكران , ثمَّ ركض خلفها فسقط فاندقّتْ عنقه , أو انقطع في جوفه شي‏ء .
كما روى‏ عن ابن عيّاش أنّه قال : خرج يزيد يتصيّد بحوّارين وهو سكران , فركب وبين يديه أتان وحشيّة قد حمل عليها قرداً ,وجعل يركض الأتان ويقول :
 أبا خلَفٍ احْتَلْ لنفسِك حِيلةً    فليس عليها إن هلكتَ ضمانُ‏ فسقط واندقّتْ عنقه(74) .
وقال ابن كثير في تاريخه 8 / 436 : اشتهر يزيد بالمعازف وشرب الخمور , والغناء والصيد , واتّخاذ القيان والكلاب والنطاح بين الأكباش , والدباب والقرود . وما من يوم إلاّ ويصبح فيه مخموراً , وكان يشدُّ القرد على‏ فرسٍ مسرجة بحبال ويسوق به , ويُلبس القردَ قلانسَ الذهب وكذلك الغلمان , وكان يسابق بين الخيل , وكان إذا مات القرد حزن عليه .
وقيل : إنّ سبب موته أنّه حمل قردة وجعلها ينقّزها فعضّتْه .
نعم , هذا يزيد , وقد كان اتّخذ لمشورته رجلاً من النصارى‏ اسمه (سرجون) الذي كان من ذي قبل مستودَعَ أسرار معاوية , فإذا تحيّر في أمر أتى‏ هذا النصرانيَّ فأخذ برأيه .
وكان يزيد يأمر بقطع الرؤوس وإرسالها إليه لينظر إليها بعين التشفّي وينشو , ويشبع نهمه الذي لا يشبع في سفك الدماء , وما أشبهه بجدّته (هند) آكلة الأكباد التي مثّلت بجسد حمزة بن عبد المطلب سيّد الشهداء في (اُحد) , ولاكتْ كبدَه الشريف تشفّياً لحقدها العجيب على‏ أولياء الله !
 ثمّ كان ما كان من الإرهاب والقتل , والتشديد والتعذيب , وكثرة السجون والمفاسد والمظالم في عهد يزيد حتّى‏ أقرَّ عليه المقرّبون , وخشي على‏ أنفسهم الأتقياء .
ذكر مَعقِلُ بن سنان يزيدَ بن معاوية لمسرف (وهو مسلم بن عقبة) , فقال : إنّي خرجت كرهاً لبيعة هذا الرجل , وقد كان من القضاء والقدر خروجي إليه ؛ هو رجلٌ يشرب الخمر , ويزني بالحرم . ثمّ نال منه , وذكر خصالاً كانتْ في يزيد(75) .
وأخرج الطبريّ(76) عن المنذر بن الزبير أنَّ يزيد بعث إليه بمئة ألف ليشتري منه دينه ويبايعه لأجلها , فأخذ المنذرُ بن الزبير المال وخطب في أهل المدينة , وقال فيما قال : إنّه ـ أي يزيد ـ قد أجازني بمئة ألف , ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره ؛ والله إنّه ليشرب الخمر , واللهِ إنّه ليسكر حتّى‏ يدع الصلاة .
 في حين ذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة / 132) : أخرج الواقديّ من طرق أنّ عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال : والله , ما خرجنا على‏ يزيد حتّى‏ خفنا أن نرمى‏ بالحجارة من السماء ؛ إنّه رجلٌ ينكح اُمّهات الأولاد , والبنات والأخوات , ويشرب الخمر , ويدع الصلاة .
وأورد ابن سعد في طبقاته 5 / 47 قريباً إلى‏ هذا النصّ , وهو أنَّ عبد الله بن ‏حنظلة قال : يا قوم , اتّقوا الله وحده لا شريك له , فوالله ما خرجنا على‏ يزيد حتّى‏ خفنا أن نُرمى‏ بالحجارة من السماء . إنّ رجلاً ينكح الاُمّهات والبنات والأخوات , ويشرب الخمر , ويدع الصلاة . والله لو لم يكن معي أحدٌ من الناس لأبليت الله فيه بلاءً حسناً . فتواثب الناس يومئذٍ يبايعون من كلّ النواحي .
فأين هذا مِن قول مَن يقول : لا يجوز لعنُ يزيد ؛ لأنّه مسلم , وسبّ المسلم فسق ؟! ولا يجوز قتال يزيد ؛ لأنّ قتال المسلم كفر ؟!
تعالوا نقرأ ما كتبه العالم السُّنِّي المشهور (الآلوسي) في تفسيره :
مَن يقول : إنّ يزيد لم يعصِ بذلك ولا يجوز لعنه فينبغي أن ينتظم في سلسلة أنصار يزيد . وأنا أقول : إنَّ الخبيث لم يكن مصدِّقاً بالرسالة للنبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , وإنَّ مجموع ما فعله مع أهل حرم الله وأهل حرم نبيّه (صلّى‏ الله عليه وآله) وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات , وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالةً على‏ عدم تصديقه من إلقاء ورقةٍ من المصحف الشريف في قذَرٍ .
ولا أظنُّ أنّ أمره كان خافياً على‏ أجلّة المسلمين إذ ذاك , ولكن كانوا مغلوبين ... ولو سُلّم أنَّ الخبيث كان مسلماً فهو مسلمٌ جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان , وأنا أذهب إلى‏ جواز لعن مثله على‏ التعيين ولو لم يُتَصوَّرْ أن يكون له مثْلٌ من الفاسقين .
والظاهر أنّه لم يتب , واحتمال توبته أضعف من إيمانه . ويعجبني قول شاعر العصر , ذي الفضل الجلي , عبد الباقي أفندي العمريّ الموصلي , وقد سُئل عن لعن يزيد فقال :

 يزيد على‏ لعني عريضٌ جنابُه    فأغدو به طولَ المدى‏ ألعن اللعنا

 ومَن يخشى‏ القيل والقال من التصريح بلعن ذلك الضلّيل فليقل : لعن الله (عزّ وجلّ) مَن رضيَ بقتل الحسين (عليه السّلام) , ومن آذى‏ عترة النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) بغير حقّ , ومن غصبهم حقّهم ؛ فإنّه يكون لاعناً له ؛ لدخوله تحت العموم دخولاً أوّليّاً في نفس الأمر .
ثمّ قال الآلوسي : نقل البرزنجيّ في (الإشاعة) ... أنَّ الإمام أحمد بن حنبل لمّا سأله ابنه عبد الله عن لعن يزيد قال : كيف لا يُلعن مَن لعنه الله في كتابه !
فقال عبد الله : قرأت كتاب الله (عزّ وجلّ) فلم أجد فيه لعن يزيد !
فقال الإمام : إنّ الله يقول : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ...)(سورة محمّد (صلّى‏ الله عليه وآله) / 22 ـ 23) . وأيُّ فسادٍ وقطيعةٍ أشدُّ ممّا فعله يزيد ؟!
وقد جزم بكفره وصرّح بلعنه جماعةٌ من العلماء , منهم القاضي أبو يعلى‏ , والحافظ ابن الجوزيّ , وجلال الدين السيوطيّ . وقال التفتازانيّ : لا نتوقّف في شأنه , بل في إيمانه (لعنة الله عليه وعلى‏ أعوانه وأنصاره) .
وفي تاريخ ابن الورديّ , وكتاب (الوافي بالوفيّات) : لمّا ورد على‏ يزيد نساء الحسين وأطفاله , والرؤوس على‏ الرماح , وقد أشرف على‏ ثنية جيرون , ونعب الغراب , قال :

لما بدتْ تلك الحمول وأشرقت    تلك الشموسُ على‏ رُبى‏ جيرونِ‏
 نعب الغراب فقلتُ قُل أو لا تقل    فلقد قضيتُ من النبيِّ ديوني‏

 يعني أنّه قتل بمَنْ قتله رسول الله يومَ بدر ؛ كجدّه عتبة وخاله ولَدِ عتبة وغيرهما , وهذا كفرٌ صريح , فإذا صحَّ عنه فقد كفر به . ومثْله تمثّله بقولِ عبد الله بن الزبعرى‏ قبل إسلامه : ليت أشياخي ... ـ الأبيات(77) .
فـ (يزيد) غير سويّ فضلاً عن عدم لياقته للخلافة , وقد أقرّ عليه ولده (معاوية الثاني) بذلك . جاء في الصواعق المحرقة / 134 : ومن صلاحه الظاهر (أي معاوية بن يزيد بن معاوية) أنّه لمّا وُلّي صعد المنبر فقال : إنَّ هذه الخلافة حبل الله , وإنّ جدّي معاوية نازع الأمرَ أهلَه ومَن هو أحقُّ به منه عليَ ‏بن أبي طالب (عليه السّلام) , وركب بكم ما تعلمون حتّى‏ أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه , ثمّ قُلّد أبي الأمر وكان غيرَ أهلٍ له , ونازع ابن بنت رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) فقُصف عمره , وانبتر عقِبُه , وصار في قبره رهيناً بذنوبه .
ثمّ بكى‏ وقال : مِن أعظم الاُمور علينا علمنا بسوء مصرعه , وبؤس منقلبه , وقد قتل عترةَ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , وأباح الخمر , وخرّب الكعبة , ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلّد مرارتها , فشأنكم أمركم . والله لئنْ كانت الدنيا خيراً فقد نلْنا منها حظّاً , ولئن كانت شرّاً فكفى‏ ذرّيّةَ أبي سفيان ما أصابوا منها .
قال ابن حجر : ثمّ تغيّب في منزله حتّى‏ مات بعد أربعين يوماً كما مرّ , عن إحدى‏ وعشرين سنة , وقيل : عشرين , فرحمه الله أنصف من أبيه , وعرف الأمر لأهله .
وقيل : إنّه قُتل كما قُتل معلّمه ؛ لاتّهامه بتعليمه الزهدَ بالدنيا .
وهنا بعد هذه الرحلة التاريخيّة الطويلة نقول : إنّ الأخلاق الشرعيّة والسياسيّة , والاجتماعيّة والإنسانيّة كلّها تستدعي لأنْ ينهض الحسين (سلام الله عليه) ليصرخ صرخته التاريخيّة المدوّية في وجه الظلم الذي استفحل فهدّد الدين بالتحريف , وهدّد المسلمين بالقتل المعنويّ , فناموا على‏ قبول الضيم , وانزوَوْا خانعين , وماتت الغيرة والهمّة والشهامة والمروءة والكرامة فيهم حتّى‏ أقرّوا على‏ حكم يزيد , ولم تُسمع منهم كلمة حقّ في وجه سلطانٍ جائر , ولم ‏يُرَ منهم سيفٌ يسلط في وجه أميرٍ ظالم ؛ فغضُّوا الأبصار عن جرائم بني اُميّة , وأصمّوا الأسماع عمّا شاع من يزيد وزمرته من الانتهاكات وهتك الحرمات .
فكان لا بدّ أن يقوم الإمام الحسين (عليه السّلام) لله , وعلى‏ حبّ الله , وطاعة الله , وفي سبيل الله ولو كلّفه ذلك الدماء الزكيّة , والأنفس القدسيّة , وآلام الأسر , وهو يعلم أنّ يزيد هذا لا يتورّع عن انتهاك أيّ حرمة , وارتكاب أيّ جريمة , فبذلك يُثبت للناس أنَّ يزيد كافر , وأنّ الاُمّة متخلّفةٌ عن تكاليفها الشرعيّة , وهذا لم يكن للإمام الحسين (عليه السّلام) أن يثبته إلاّ بالدم النبويّ الشريف ؛ فعرّضَ بدنه للسيوف والرماح والسهام , وعرّض اُسرته للقتل والسبي ليسلم الدين , ويستفيق المسلمون من أسر الغفلة وحبّ الدنيا والخوف .
وفعلاً افتضح أمر (يزيد) بعد واقعة الطفّ , وبعد تلك المواقف الشجاعة التي ظهرت من الإمام الحسين (عليه السّلام) , حتّى‏ إذا استتبّ له الأمر هجم على‏ المدينة في واقعة الحَرَّة فهتك حُرمة حرَمِ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ؛ حيث أباح دماءها وأعراضها ثلاثة أيّام ؛ فقتل جيشه ألفاً وسبعمئةٍ من الأنصار والمهاجرين , وأصحاب رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ووجوه الناس , ومن العوامّ عشرة آلاف سوى‏ النساء والصبيان .
هذا ما ذكره ابن قتيبة في الإمامة والسياسة , أضف إلى‏ ذلك النهب والإفساد وأسر المسلمين , وانتُهكتْ ألفُ بنت في هذه المأساة , وحملت (من الزنا) سبعمئةِ امرأة بأولاد الزنا . ثمّ ماج يزيد على‏ الكعبة فهدمها سنة 64هـ بالمنجنيق كما يذكر ابن الأثير في تاريخه (الكامل) 4 / 124 .
 إنّ الموقف يومذاك قد تطلّب معرفة أمرِ الله وحكْمِه , والحسين (سلام ‏الله عليه) من أهل بيت الوحي , ومستقى‏ العلم . وكذا تطلّب الموقف شجاعةً عالية لا يرقى‏ إليها إلاّ الحسين , ولا يطالها إلاّ سيّدُ شباب أهل الجنّة , ولا يفوز بها إلاّ سيّد الشهداء من الأوّلين والآخرين .
وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) أمام مروان بن الحكم وقد دعاه إلى‏ بيعة يزيد , فقال : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون , وعلى‏ الإسلام السلام إذا بُليتِ الاُمّة براعٍ مثلِ يزيد . ولقد سمعت جدّي رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) يقول : الخلافة محرّمةٌ على‏ آل أبي سفيان , فإذا رأيتم معاوية على‏ منبري فابقروا بطنة . وقد رآه أهل المدينة فلم يبقروا , فابتلاهم الله بيزيد الفاسق ))(78) .
يقول ابن طاووس بعد هذا : والذي تحقّقناه أنّ الحسين (عليه السّلام) كان عالِماً بما انتهت حاله إليه , و كان تكليفه ما اعتمد عليه .
ولهذا ندِم مَن تخلّف عن الإمام الحسين (سلام الله عليه) , فقام سليمان ‏بن صرَد الخزاعيّ بثورة التوّابين سنة 65 هـ , وقام بثورة المدينة عبد الله بن حنظلة
(غسيل الملائكة) , وقام المختار الثقفيّ (رضوان الله عليه) بثورة في الكوفة سنة 66 هـ , وفي سنة 77 هـ ثار مطرف‏ بن المغيرة بن شعبة على‏ الحجّاج بن يوسف وخلع عبدَ الملك بن مروان , وثار سنة 81 هـ عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجّاج أيضاً , ثمّ نهض زيد بن عليّ‏ بن الحسين (سلام الله عليهم) بثورةٍ شامخة سنة 122 هـ .
ولم يستقرّ لبني اُميّة قرار حتّى‏ آل سلطانهم إلى‏ الانهيار , فانتصر الإمام الحسين (عليه السّلام) نصرين , ونال كلتا الحُسنيين ؛ غلبة السيف على‏ الظلم , وغلبة الدم على‏ السيف الظالم , وفاز هو وأنصاره بالشهادة العليا .
ثمّ يعود التاريخ فينحني إجلالاً وإكباراً للشجاعة الحسينيّة التي غيّرت
الظاهر (أي معاوية بن يزيد بن معاوية) أنّه لمّا وُلّي صعد المنبر فقال : إنَّ هذه الخلافة حبل الله , وإنّ جدّي معاوية نازع الأمرَ أهلَه ومَن هو أحقُّ به منه عليَ ‏بن أبي طالب (عليه السّلام) , وركب بكم ما تعلمون حتّى‏ أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه , ثمّ قُلّد أبي الأمر وكان غيرَ أهلٍ له , ونازع ابن بنت رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) فقُصف عمره , وانبتر عقِبُه , وصار في قبره رهيناً بذنوبه .
ثمّ بكى‏ وقال : مِن أعظم الاُمور علينا علمنا بسوء مصرعه , وبؤس منقلبه , وقد قتل عترةَ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , وأباح الخمر , وخرّب الكعبة , ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلّد مرارتها , فشأنكم أمركم . والله لئنْ كانت الدنيا خيراً فقد نلْنا منها حظّاً , ولئن كانت شرّاً فكفى‏ ذرّيّةَ أبي سفيان ما أصابوا منها .
قال ابن حجر : ثمّ تغيّب في منزله حتّى‏ مات بعد أربعين يوماً كما مرّ , عن إحدى‏ وعشرين سنة , وقيل : عشرين , فرحمه الله أنصف من أبيه , وعرف الأمر لأهله .
وقيل : إنّه قُتل كما قُتل معلّمه ؛ لاتّهامه بتعليمه الزهدَ بالدنيا .
وهنا بعد هذه الرحلة التاريخيّة الطويلة نقول : إنّ الأخلاق الشرعيّة والسياسيّة , والاجتماعيّة والإنسانيّة كلّها تستدعي لأنْ ينهض الحسين (سلام الله عليه) ليصرخ صرخته التاريخيّة المدوّية في وجه الظلم الذي استفحل فهدّد الدين بالتحريف , وهدّد المسلمين بالقتل المعنويّ , فناموا على‏ قبول الضيم , وانزوَوْا خانعين , وماتت الغيرة والهمّة والشهامة والمروءة والكرامة فيهم حتّى‏ أقرّوا على‏ حكم يزيد , ولم تُسمع منهم كلمة حقّ في وجه سلطانٍ جائر , ولم ‏يُرَ منهم سيفٌ يسلط في وجه أميرٍ ظالم ؛ فغضُّوا الأبصار عن جرائم بني اُميّة , وأصمّوا الأسماع عمّا شاع من يزيد وزمرته من الانتهاكات وهتك الحرمات .
فكان لا بدّ أن يقوم الإمام الحسين (عليه السّلام) لله , وعلى‏ حبّ الله , وطاعة الله , وفي سبيل الله ولو كلّفه ذلك الدماء الزكيّة , والأنفس القدسيّة , وآلام الأسر , وهو يعلم أنّ يزيد هذا لا يتورّع عن انتهاك أيّ حرمة , وارتكاب أيّ جريمة , فبذلك يُثبت للناس أنَّ يزيد كافر , وأنّ الاُمّة متخلّفةٌ عن تكاليفها الشرعيّة , وهذا لم يكن للإمام الحسين (عليه السّلام) أن يثبته إلاّ بالدم النبويّ الشريف ؛ فعرّضَ بدنه للسيوف والرماح والسهام , وعرّض اُسرته للقتل والسبي ليسلم الدين , ويستفيق المسلمون من أسر الغفلة وحبّ الدنيا والخوف .
وفعلاً افتضح أمر (يزيد) بعد واقعة الطفّ , وبعد تلك المواقف الشجاعة التي ظهرت من الإمام الحسين (عليه السّلام) , حتّى‏ إذا استتبّ له الأمر هجم على‏ المدينة في واقعة الحَرَّة فهتك حُرمة حرَمِ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ؛ حيث أباح دماءها وأعراضها ثلاثة أيّام ؛ فقتل جيشه ألفاً وسبعمئةٍ من الأنصار والمهاجرين , وأصحاب رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ووجوه الناس , ومن العوامّ عشرة آلاف سوى‏ النساء والصبيان .
هذا ما ذكره ابن قتيبة في الإمامة والسياسة , أضف إلى‏ ذلك النهب والإفساد وأسر المسلمين , وانتُهكتْ ألفُ بنت في هذه المأساة , وحملت (من الزنا) سبعمئةِ امرأة بأولاد الزنا . ثمّ ماج يزيد على‏ الكعبة فهدمها سنة 64هـ بالمنجنيق كما يذكر ابن الأثير في تاريخه (الكامل) 4 / 124 .
 إنّ الموقف يومذاك قد تطلّب معرفة أمرِ الله وحكْمِه , والحسين (سلام ‏الله عليه) من أهل بيت الوحي , ومستقى‏ العلم . وكذا تطلّب الموقف شجاعةً عالية لا يرقى‏ إليها إلاّ الحسين , ولا يطالها إلاّ سيّدُ شباب أهل الجنّة , ولا يفوز بها إلاّ سيّد الشهداء من الأوّلين والآخرين .
وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) أمام مروان بن الحكم وقد دعاه إلى‏ بيعة يزيد , فقال : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون , وعلى‏ الإسلام السلام إذا بُليتِ الاُمّة براعٍ مثلِ يزيد . ولقد سمعت جدّي رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) يقول : الخلافة محرّمةٌ على‏ آل أبي سفيان , فإذا رأيتم معاوية على‏ منبري فابقروا بطنة . وقد رآه أهل المدينة فلم يبقروا , فابتلاهم الله بيزيد الفاسق ))(79) .
يقول ابن طاووس بعد هذا : والذي تحقّقناه أنّ الحسين (عليه السّلام) كان عالِماً بما انتهت حاله إليه , و كان تكليفه ما اعتمد عليه .
ولهذا ندِم مَن تخلّف عن الإمام الحسين (سلام الله عليه) , فقام سليمان ‏بن صرَد الخزاعيّ بثورة التوّابين سنة 65 هـ , وقام بثورة المدينة عبد الله بن حنظلة (غسيل الملائكة) , وقام المختار الثقفيّ (رضوان الله عليه) بثورة في الكوفة سنة 66 هـ , وفي سنة 77 هـ ثار مطرف‏ بن المغيرة بن شعبة على‏ الحجّاج بن يوسف وخلع عبدَ الملك بن مروان , وثار سنة 81 هـ عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجّاج أيضاً , ثمّ نهض زيد بن عليّ‏ بن الحسين (سلام الله عليهم) بثورةٍ شامخة سنة 122 هـ .
ولم يستقرّ لبني اُميّة قرار حتّى‏ آل سلطانهم إلى‏ الانهيار , فانتصر الإمام الحسين (عليه السّلام) نصرين , ونال كلتا الحُسنيين ؛ غلبة السيف على‏ الظلم , وغلبة الدم على‏ السيف الظالم , وفاز هو وأنصاره بالشهادة العليا .
ثمّ يعود التاريخ فينحني إجلالاً وإكباراً للشجاعة الحسينيّة التي غيّرت
عوالم في هذا الوجود , وطبّقت شريعة الله على‏ الأرض بأغلى‏ التضحيات , وصرعت رموز الكفر والضّلال والفساد .
قال ابن خلدون : غلط القاضي أبو بكر ابن العربي الأندلسيّ المالكيّ إذ قال في كتابه (العواصم والقواصم)(80) : إنّ الحسين قُتل بسيف شرعه . غفلةً عن اشتراطِ الإمام العادل في الخلافة الإسلاميّة , ومَن أعدل من الحسين في زمانه وإمامته وعدالته في قتال أهل الآراء(81) ؟!
ثمّ ذكر الإجماع على‏ فسق‏ يزيد , ومعه لا يكون صالحاً للإمامة ؛ ومِن أجله كان الحسين (عليه السّلام) يرى‏ من المتعيَّن الخروج عليه . وقعود الصحابة والتابعين عن نصرة الحسين لا لعدم تصويب فعله ؛ لأنّهم يرون أن لا يجوز نصرة يزيد بقتال الحسين , بل قَتْلُه من فعلات يزيد المؤكِّدة لفسقه , والحسين فيها شهيد .
وقال ابن مفلح الحنبليّ : جوّز ابن عقيل وابن الجوزيّ الخروج على‏ الإمام غير العادل , بدليل خروج الحسين على‏ يزيد لإقامة الحقّ . وذكره ابن الجوزيّ في كتابه (السرّ المصون) من الاعتقادات العامّيّة التي غلبت على‏ جماعةٍ من المنتسبين إلى‏ السُّنَّة . ثمّ لو قدّرنا صحّة خلافة يزيد فقد بدرت منه بوادر , وظهرت منه اُمور كلٌّ منها يوجب فسخ ذلك العقد(82) .
وقال الشيخ محمّد عبده : إذا وُجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع , وحكومة جائرة تعطّله , وجب على‏ كلّ مسلم نصر الاُولى ... ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول (صلّى‏ الله عليه وآله) على‏ إمام الجور والبغي الذي وُلّي أمر المسلمين بالقوّة والمكر (يزيد بن معاوية) , خذله الله وخذل من انتصر له من الكراميّة والنواصب(83) .
وهذا أثبته الإقدام الحسينيُّ المبارك , والشجاعة الحسينيّة الباصرة الداعية على‏ هدىً إلى‏ الجهاد في سبيل الله , والقيام لله , وإحياء الدين , وإماتة البدع , وقطع أيدي الظلمة , ودفع الظالم عن حوزة الدين ومجتمع المسلمين , وإنقاذ عباد الله عن الضلالة والحيرة . وقد بذل (سلام الله عليه) من أجل ذلك الخيرة من أصحابه , والخُلّص من أهل بيته , وفلذات كبده , وكلَّ عزيزٍ عليه , ثمّ نفسه القدسيّة الطاهرة .
وهذه في الحقيقة هي الشجاعة الفذّة الفريدة التي تقع موضع الرضوان الإلهيّ , والقبول الربّانيّ ؛ إذ جمعت إلى‏ العلم والمعرفة الهمّةَ والإقدام , وصلاحَ النيّة , وبصيرة الهدف , والجهاد في سبيل الله , ولله .
3 ـ الدعوة الحقّة
لا نستطيع أن نسمّي الهجوم المباغت على‏ المخالف المخاصم شجاعة , ولا نستطيع أن نسمّي المقابلة الفضّة الغليظة الجافّة للناس شجاعة , كذلك لا نستطيع أن نسمّي تعبئة الأنصار بلا بيان , ودعوة الناس إلى‏ القتال بلا حجّة شجاعة .
 إنّما الشجاعة الكاملة ما جمعت إلى‏ الوعي التوعية , وإلى‏ الشهادة بالحقّ إشهاد الملأ عليه , وإلى‏ بلوغ ساحة الحرب إبلاغ الاُمّة بواقعها وتكاليفها . والشجاعة الحقيقيّة ما اتّصفت بالكلمة الموقِظة المنبِّهة المرشدة , المبيِّنة للتكليف الشرعيّ , والرافعة للهمم والعزائم إلى‏ مستوى‏ الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى‏ .
والشجاعة الحقّة ما كانت جهاداً باللسان والقلم , فإن تعذّر الإصلاح إلاّ بالسيف فبه . قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( ردّوا الحجر من حيث جاء ؛ فإنّ الشرّ لا يدفعه إلا الشرّ ))(84) . فكنّى‏ (عليه السّلام) بالحجر عن الشرّ , وبردّه من حيث جاء عن مقابلة الشرّ بمِثْله , وهو مخصوصٌ بشرٍّ لا يندفع إلاّ بالشرّ(85) .
فالكلمة المرشدة , الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر تدفع الكثير من الشرّ , وتترك الناس على‏ المحجّة البيضاء والحجّة البالغة , وتسقط عن الجاهل والغافل , والمتجاهل والمتغافل , وعن كلّ مُدَّعٍ كلَّ عذر . وهي من الشجاعة ؛ إذ يتحلّى‏ المؤمن بالروح الإنسانيّة الداعية إلى‏ الخير والإصلاح باللسان , ويتحلّى‏ بالدليل الواضح والبرهان القاطع الذي يدعوه إلى‏ الإقدام , ويردّ على‏ كلّ شبهةٍ وتردّدٍ وتشكيك .
فالكلمة أوّلاً ؛ لأنَّ الهدف ليس انتقاماً , ولا قصداً للقتل مجرّد القتل , ولا نشراً للرعب وفتكاً حاقداً بالمخالفين والضعفاء والأبرياء , إنّما القصد إحقاق الحقّ وإبطال الباطل , فلا بدّ من الحجّة المقنعة . وهكذا بدأ نبيُّ الهدى‏ والرحمة (صلّى‏ الله عليه وآله) دعوتَه المباركة ؛ فبلّغ الناسَ الحقّ , ودعا إلى‏ الخير , ونشَرَ الحكمة , وخاطب الملأ بالحكمة والموعظة الحسنة , حتّى‏ إذا رأى‏ سيوف الشرك والكفر والجاهليّة تُشهر في وجه الإسلام سلّ سيف الدفاع , وقطع رؤوس الفتنة , وهدّد قلاع الأحزاب وفرّقهم عن قصدهمُ الشيطانيّ .
ومن بعد المصطفى‏ (صلّى‏ الله عليه وآله) حارب أهلُ البيت (عليهم السّلام) على‏ التأويل كما حارب رسول الهدى‏ على‏ التنزيل ؛ فدعوا قومهم ما استطاعوا وما وجدوا إلى‏ طاعة الله سبيلاً , حتّى‏ اضطُرّ الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) إلى‏ دفع المارقين والقاسطين والناكثين بالاحتجاجات الطويلة , فلمّا رأى‏ سيوفهم سُلّت على‏ الإسلام جرّد سيفه ذا الفقار فدفعهم في الجمل وصفّين والنهروان , لا يجد عن ذلك بُدّاً ؛ لأنَّ شريعة الله وحال دولة الإسلام أصبحا في خطر , وكذا أنذر وضع الاُمّة بالانحراف .
 وجاء الإمام الحسن (سلام الله عليه) فخطب وخاطب , ودعا واستدعى‏ , وبلّغ وبالغ في النصيحة ؛ فتخلّف الناس عنه , واتّجهت قلوبهم إلى‏ الدنيا وعيونهم إلى‏ دنانير معاوية . فلمّا دعاهم إلى‏ قتال المنحرفين تململوا وتعلّلوا وتثاقلوا , ثمّ غدروا به وخذلوه وكادوا يقتلونه , حتّى‏ استطاع (معاوية) أن يدسّ له السمَّ القاتل على‏ يد الآثمة (جعدة) فقتله , وأصبحت الاُمّة في محنةٍ حقيقيّة .
وجاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فلم يشرع أمرَه بالسيف , ولم‏ يبدأ الناس بالدعوة إلى‏ الحرب , بل تقدّم لهم بالكلمة المرشدة المدعومة بالدليل العقليّ , والدليل الشرعيّ النقليّ ؛ فخاطب العقول والضمائر , وعالج النفوس المنكمشة والقلوب المتحيّرة , وصدع بالحقّ والحقيقة بشجاعةٍ عاقلةٍ هادفة حملها ذلك القائد الهمام بين جنبيه مع حبّ الخير للناس ؛ فجمع إلى‏ الوعي التوعية . ومَن أفقه من الإمام الحسين (عليه السّلام) , ومَن أوضح منه بياناً إذا خطب أو خاطب ؟ !
وكانت كلماته (سلام الله عليه) تبثّ همّة الجهاد , وتبعث روح الشجاعة في النفوس المخذولة المنهزمة ؛ لأنَّ معاوية أنفق بيت مال المسلمين على‏ شراء الضمائر والذمم , وجرَّ الناس إليه بالترغيب والترهيب , وجنّد لذلك وعّاظ السلاطين , والمحدّثين الوضّاعين , والدنانيرَ الثقيلة التي يسيل لها لعاب كلِّ طمّاعٍ حبّابٍ للدنيا , ضعيف التقوى‏ , متخلخل الإيمان , مستعار الشخصيّة . وليس‏ أدلّ على‏ ذلك من إرسال معاوية إلى‏ (مالك بن الهبيرة السكونيّ) ألف درهم حين بلغه استياؤه من قتل معاوية للصحابيّ الجليل حِجْر بن عدِيّ وأصحابه (رضوان الله عليهم) , فما كان من السكونيّ إلاّ أن أخذ ثمن ضميره وتخلّى‏ عن عزمه على‏ التحرّك بوجه الظلم والفساد(86) .
وأرسل معاوية أموالاً إلى‏ بعض قوّاد جيش الإمام الحسن (عليه السّلام) , فما أسرع أن ركبوا الليل سرجاً للفرار , وتبعهم إلى‏ ذلك آلافٌ من الجند .
ودسَّ معاوية إلى‏ عمرو بن حريث , والأشعث بن قيس , وإلى‏ حجر بن الحجر , وشبث‏ بن ربعيّ دسيساً أفرد كلَّ واحدٍ منهم بعينٍ من عيونه أنّك إذا قتلت الحسن‏ بن عليّ فلك مئتا ألف درهم , وجندٌ من أجنادِ الشام , وبنتٌ من بناتي .
فبلغ الحسنَ (عليه السّلام) ذلك , فاستلام(87) ولبس درعاً وكفرها(88) , وكان‏ يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك , فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم ‏يلبث فيه ؛ لما عليه من اللاّمة , فلمّا صار في مظلم (ساباط) ضربه أحدهم بخنجر مسموم فعمِل فيه الخنجر , فأمر (عليه السّلام) أن يُعدَلَ به إلى‏ بطن (جريحى)(89) .
لقد ظهرت على‏ الناس بوادرُ الميل الدنيويّ الحادّ بشكلٍ شرهٍ ومفضوح ؛ فتسابق أصحاب التيّار النفعيّ ليستحوذوا على‏ الإمارات , أو يحصلوا على‏ دريهمات السلطان بعد طول وقوفٍ ذليلٍ على‏ بابه , ولم يَعُدْ هناك مجتمعٌ مستعدٌّ لرفض الباطل أو التصريح بالحقّ , فضلاً عن مواجهة الطغاة .
استأذن زهيرُ بن مظاهر الأسديّ (رضوان الله عليه) الإمام الحسين (عليه السّلام) ليدعو عشيرته بني أسد للالتحاق , فأذِنَ له , فكانت نتيجةَ مفاتحته أن غادرتْ عشيرته المنطقةَ بأجمعها , وانسحبت انسحاباً جماعيّاً في تلك الليلة ذاتها(90) , في حين جنّد عبيد الله‏ بن زياد الآلاف من أهل الكوفة ليضعهم في خطّ بني اُميّة , ويقتل بهم الحسين (عليه السّلام) وأنصاره .
وقصّة مسلم بن عقيل (عليه السّلام) معروفة مشهورة , وهي تحكي عن روح الهزيمة , وقد كان مع مسلم أربعة آلاف رجل أخذوا يطوفون قصر الإمارة , وابن زياد في قصره ليس معه إلاّ عدد قليلٌ من الشرطة لا يتجاوزون الثلاثين , فهرب أنصار مسلم جميعاً بالدعاية , فأسرع ابن زياد في قتل مسلم وهانئ ‏بن عروة بعد أن خذلته عشيرته ولم تنقذه من السجن , واقتنعت بالمكيدة القائلة : إنَّ هانئاً حيٌّ لم يُقتل .
ومن هنا نعرف مدى‏ حاجة الناس إلى‏ التوعية العقليّة والروحيّة قبل التقدّم إلى‏ ساحة المعركة , وقد كان للإمام الحسين (سلام الله عليه) في كلّ موقع تذكير ودعوة , وتنبيه وإيقاظ , وتعريف وبيان وتبيين وتفصيل , وإذا تطلّب الأمر خلاف ذلك سمعناه (سلام الله عليه) يوخز الضمائر , ويهتف بالهمم , ويثير العزائم , أو يؤنُّب الجبناء , ويوبّخ المنحرفين , ويعاتب المقصّرين , ويلوم المتخلّفين ...
وهذا ما يقرأه التاريخ عنه من خلال وثائقه التي جمعها لنا في بطون المؤلّفات , تعالوا نطالعها :
من كلامه (عليه السّلام‏) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(( اعتبروا أيُّها الناس بما وعظ اللهُ به أولياءَه من سوء ثنائه على‏ الأحبار , إذ يقول : (لَوْلاَ يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ)(91) , وقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ـ إلى‏ قوله ـ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(92) . وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلَمة الذين بين أظهُرِهمُ المنكَر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك ؛ رغبةً فيما كانوا ينالون منهم , ورهبةً ممّا يحذرون , والله يقول : (فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي)(93) , وقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)(94) .
فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه ؛ لعلمه بأنّها إذا اُدِّيَت واُقيمت استقامت الفرائض كلّها ؛ هيّنها وصعبها ؛ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى‏ الإسلام مع ردّ المظالم , ومخالفة الظالم وقسمة الفي‏ء والغنائم , وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها .
ثمّ أنتم أيّتها العصابة , عصابة بالعلم مشهورة , وبالخير مذكورة , وبالنصيحة معروفة , وبالله في أنفس الناس مهابة . يهابكم الشريف , ويكرمكم الضعيف , ويؤثركم مَن لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده , تشفعون في عوالم في هذا الوجود , وطبّقت شريعة الله على‏ الأرض بأغلى‏ التضحيات , وصرعت رموز الكفر والضّلال والفساد .
قال ابن خلدون : غلط القاضي أبو بكر ابن العربي الأندلسيّ المالكيّ إذ قال في كتابه (العواصم والقواصم)(95) : إنّ الحسين قُتل بسيف شرعه . غفلةً عن اشتراطِ الإمام العادل في الخلافة الإسلاميّة , ومَن أعدل من الحسين في زمانه وإمامته وعدالته في قتال أهل الآراء(96) ؟!
ثمّ ذكر الإجماع على‏ فسق‏ يزيد , ومعه لا يكون صالحاً للإمامة ؛ ومِن أجله كان الحسين (عليه السّلام) يرى‏ من المتعيَّن الخروج عليه . وقعود الصحابة والتابعين عن نصرة الحسين لا لعدم تصويب فعله ؛ لأنّهم يرون أن لا يجوز نصرة يزيد بقتال الحسين , بل قَتْلُه من فعلات يزيد المؤكِّدة لفسقه , والحسين فيها شهيد .
وقال ابن مفلح الحنبليّ : جوّز ابن عقيل وابن الجوزيّ الخروج على‏ الإمام غير العادل , بدليل خروج الحسين على‏ يزيد لإقامة الحقّ . وذكره ابن الجوزيّ في كتابه (السرّ المصون) من الاعتقادات العامّيّة التي غلبت على‏ جماعةٍ من المنتسبين إلى‏ السُّنَّة . ثمّ لو قدّرنا صحّة خلافة يزيد فقد بدرت منه بوادر , وظهرت منه اُمور كلٌّ منها يوجب فسخ ذلك العقد(97) .
وقال الشيخ محمّد عبده : إذا وُجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع , وحكومة جائرة تعطّله , وجب على‏ كلّ مسلم نصر الاُولى ... ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول (صلّى‏ الله عليه وآله) على‏ إمام الجور والبغي الذي وُلّي أمر المسلمين بالقوّة والمكر (يزيد بن معاوية) , خذله الله وخذل من انتصر له من الكراميّة والنواصب(98) .
وهذا أثبته الإقدام الحسينيُّ المبارك , والشجاعة الحسينيّة الباصرة الداعية على‏ هدىً إلى‏ الجهاد في سبيل الله , والقيام لله , وإحياء الدين , وإماتة البدع , وقطع أيدي الظلمة , ودفع الظالم عن حوزة الدين ومجتمع المسلمين , وإنقاذ عباد الله عن الضلالة والحيرة . وقد بذل (سلام الله عليه) من أجل ذلك الخيرة من أصحابه , والخُلّص من أهل بيته , وفلذات كبده , وكلَّ عزيزٍ عليه , ثمّ نفسه القدسيّة الطاهرة .
وهذه في الحقيقة هي الشجاعة الفذّة الفريدة التي تقع موضع الرضوان الإلهيّ , والقبول الربّانيّ ؛ إذ جمعت إلى‏ العلم والمعرفة الهمّةَ والإقدام , وصلاحَ النيّة , وبصيرة الهدف , والجهاد في سبيل الله , ولله .
3 ـ الدعوة الحقّة
لا نستطيع أن نسمّي الهجوم المباغت على‏ المخالف المخاصم شجاعة , ولا نستطيع أن نسمّي المقابلة الفضّة الغليظة الجافّة للناس شجاعة , كذلك لا نستطيع أن نسمّي تعبئة الأنصار بلا بيان , ودعوة الناس إلى‏ القتال بلا حجّة شجاعة .
 إنّما الشجاعة الكاملة ما جمعت إلى‏ الوعي التوعية , وإلى‏ الشهادة بالحقّ إشهاد الملأ عليه , وإلى‏ بلوغ ساحة الحرب إبلاغ الاُمّة بواقعها وتكاليفها . والشجاعة الحقيقيّة ما اتّصفت بالكلمة الموقِظة المنبِّهة المرشدة , المبيِّنة للتكليف الشرعيّ , والرافعة للهمم والعزائم إلى‏ مستوى‏ الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى‏ .
والشجاعة الحقّة ما كانت جهاداً باللسان والقلم , فإن تعذّر الإصلاح إلاّ بالسيف فبه . قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( ردّوا الحجر من حيث جاء ؛ فإنّ الشرّ لا يدفعه إلا الشرّ ))(99) . فكنّى‏ (عليه السّلام) بالحجر عن الشرّ , وبردّه من حيث جاء عن مقابلة الشرّ بمِثْله , وهو مخصوصٌ بشرٍّ لا يندفع إلاّ بالشرّ(100) .
فالكلمة المرشدة , الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر تدفع الكثير من الشرّ , وتترك الناس على‏ المحجّة البيضاء والحجّة البالغة , وتسقط عن الجاهل والغافل , والمتجاهل والمتغافل , وعن كلّ مُدَّعٍ كلَّ عذر . وهي من الشجاعة ؛ إذ يتحلّى‏ المؤمن بالروح الإنسانيّة الداعية إلى‏ الخير والإصلاح باللسان , ويتحلّى‏ بالدليل الواضح والبرهان القاطع الذي يدعوه إلى‏ الإقدام , ويردّ على‏ كلّ شبهةٍ وتردّدٍ وتشكيك .
فالكلمة أوّلاً ؛ لأنَّ الهدف ليس انتقاماً , ولا قصداً للقتل مجرّد القتل , ولا نشراً للرعب وفتكاً حاقداً بالمخالفين والضعفاء والأبرياء , إنّما القصد إحقاق الحقّ وإبطال الباطل , فلا بدّ من الحجّة المقنعة . وهكذا بدأ نبيُّ الهدى‏ والرحمة (صلّى‏ الله عليه وآله) دعوتَه المباركة ؛ فبلّغ الناسَ الحقّ , ودعا إلى‏ الخير , ونشَرَ الحكمة , وخاطب الملأ بالحكمة والموعظة الحسنة , حتّى‏ إذا رأى‏ سيوف الشرك والكفر والجاهليّة تُشهر في وجه الإسلام سلّ سيف الدفاع , وقطع رؤوس الفتنة , وهدّد قلاع الأحزاب وفرّقهم عن قصدهمُ الشيطانيّ .
ومن بعد المصطفى‏ (صلّى‏ الله عليه وآله) حارب أهلُ البيت (عليهم السّلام) على‏ التأويل كما حارب رسول الهدى‏ على‏ التنزيل ؛ فدعوا قومهم ما استطاعوا وما وجدوا إلى‏ طاعة الله سبيلاً , حتّى‏ اضطُرّ الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) إلى‏ دفع المارقين والقاسطين والناكثين بالاحتجاجات الطويلة , فلمّا رأى‏ سيوفهم سُلّت على‏ الإسلام جرّد سيفه ذا الفقار فدفعهم في الجمل وصفّين والنهروان , لا يجد عن ذلك بُدّاً ؛ لأنَّ شريعة الله وحال دولة الإسلام أصبحا في خطر , وكذا أنذر وضع الاُمّة بالانحراف .
 وجاء الإمام الحسن (سلام الله عليه) فخطب وخاطب , ودعا واستدعى‏ , وبلّغ وبالغ في النصيحة ؛ فتخلّف الناس عنه , واتّجهت قلوبهم إلى‏ الدنيا وعيونهم إلى‏ دنانير معاوية . فلمّا دعاهم إلى‏ قتال المنحرفين تململوا وتعلّلوا وتثاقلوا , ثمّ غدروا به وخذلوه وكادوا يقتلونه , حتّى‏ استطاع (معاوية) أن يدسّ له السمَّ القاتل على‏ يد الآثمة (جعدة) فقتله , وأصبحت الاُمّة في محنةٍ حقيقيّة .
وجاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فلم يشرع أمرَه بالسيف , ولم‏ يبدأ الناس بالدعوة إلى‏ الحرب , بل تقدّم لهم بالكلمة المرشدة المدعومة بالدليل العقليّ , والدليل الشرعيّ النقليّ ؛ فخاطب العقول والضمائر , وعالج النفوس المنكمشة والقلوب المتحيّرة , وصدع بالحقّ والحقيقة بشجاعةٍ عاقلةٍ هادفة حملها ذلك القائد الهمام بين جنبيه مع حبّ الخير للناس ؛ فجمع إلى‏ الوعي التوعية . ومَن أفقه من الإمام الحسين (عليه السّلام) , ومَن أوضح منه بياناً إذا خطب أو خاطب ؟ !
وكانت كلماته (سلام الله عليه) تبثّ همّة الجهاد , وتبعث روح الشجاعة في النفوس المخذولة المنهزمة ؛ لأنَّ معاوية أنفق بيت مال المسلمين على‏ شراء
الضمائر والذمم , وجرَّ الناس إليه بالترغيب والترهيب , وجنّد لذلك وعّاظ السلاطين , والمحدّثين الوضّاعين , والدنانيرَ الثقيلة التي يسيل لها لعاب كلِّ طمّاعٍ حبّابٍ للدنيا , ضعيف التقوى‏ , متخلخل الإيمان , مستعار الشخصيّة . وليس‏ أدلّ على‏ ذلك من إرسال معاوية إلى‏ (مالك بن الهبيرة السكونيّ) ألف درهم حين بلغه استياؤه من قتل معاوية للصحابيّ الجليل حِجْر بن عدِيّ وأصحابه (رضوان الله عليهم) , فما كان من السكونيّ إلاّ أن أخذ ثمن ضميره وتخلّى‏ عن عزمه على‏ التحرّك بوجه الظلم والفساد(101) .
وأرسل معاوية أموالاً إلى‏ بعض قوّاد جيش الإمام الحسن (عليه السّلام) , فما أسرع أن ركبوا الليل سرجاً للفرار , وتبعهم إلى‏ ذلك آلافٌ من الجند .
ودسَّ معاوية إلى‏ عمرو بن حريث , والأشعث بن قيس , وإلى‏ حجر بن الحجر , وشبث‏ بن ربعيّ دسيساً أفرد كلَّ واحدٍ منهم بعينٍ من عيونه أنّك إذا قتلت الحسن‏ بن عليّ فلك مئتا ألف درهم , وجندٌ من أجنادِ الشام , وبنتٌ من بناتي .
فبلغ الحسنَ (عليه السّلام) ذلك , فاستلام(102) ولبس درعاً وكفرها(103) , وكان‏ يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك , فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم ‏يلبث فيه ؛ لما عليه من اللاّمة , فلمّا صار في مظلم (ساباط) ضربه أحدهم بخنجر مسموم فعمِل فيه الخنجر , فأمر (عليه السّلام) أن يُعدَلَ به إلى‏ بطن
(جريحى)(104) .
لقد ظهرت على‏ الناس بوادرُ الميل الدنيويّ الحادّ بشكلٍ شرهٍ ومفضوح ؛ فتسابق أصحاب التيّار النفعيّ ليستحوذوا على‏ الإمارات , أو يحصلوا على‏ دريهمات السلطان بعد طول وقوفٍ ذليلٍ على‏ بابه , ولم يَعُدْ هناك مجتمعٌ مستعدٌّ لرفض الباطل أو التصريح بالحقّ , فضلاً عن مواجهة الطغاة .
استأذن زهيرُ بن مظاهر الأسديّ (رضوان الله عليه) الإمام الحسين (عليه السّلام) ليدعو عشيرته بني أسد للالتحاق , فأذِنَ له , فكانت نتيجةَ مفاتحته أن غادرتْ عشيرته المنطقةَ بأجمعها , وانسحبت انسحاباً جماعيّاً في تلك الليلة ذاتها(105) , في حين جنّد عبيد الله‏ بن زياد الآلاف من أهل الكوفة ليضعهم في خطّ بني اُميّة , ويقتل بهم الحسين (عليه السّلام) وأنصاره .
وقصّة مسلم بن عقيل (عليه السّلام) معروفة مشهورة , وهي تحكي عن روح الهزيمة , وقد كان مع مسلم أربعة آلاف رجل أخذوا يطوفون قصر الإمارة , وابن زياد في قصره ليس معه إلاّ عدد قليلٌ من الشرطة لا يتجاوزون الثلاثين , فهرب أنصار مسلم جميعاً بالدعاية , فأسرع ابن زياد في قتل مسلم وهانئ ‏بن عروة بعد أن خذلته عشيرته ولم تنقذه من السجن , واقتنعت بالمكيدة القائلة : إنَّ هانئاً حيٌّ لم يُقتل .
ومن هنا نعرف مدى‏ حاجة الناس إلى‏ التوعية العقليّة والروحيّة قبل التقدّم إلى‏ ساحة المعركة , وقد كان للإمام الحسين (سلام الله عليه) في كلّ موقع تذكير ودعوة , وتنبيه وإيقاظ , وتعريف وبيان وتبيين وتفصيل , وإذا تطلّب الأمر خلاف ذلك سمعناه (سلام الله عليه) يوخز الضمائر , ويهتف بالهمم , ويثير العزائم , أو يؤنُّب الجبناء , ويوبّخ المنحرفين , ويعاتب المقصّرين , ويلوم المتخلّفين ...
وهذا ما يقرأه التاريخ عنه من خلال وثائقه التي جمعها لنا في بطون المؤلّفات , تعالوا نطالعها :
من كلامه (عليه السّلام‏) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(( اعتبروا أيُّها الناس بما وعظ اللهُ به أولياءَه من سوء ثنائه على‏ الأحبار , إذ يقول : (لَوْلاَ يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ)(106) , وقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ـ إلى‏ قوله ـ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(107) . وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلَمة الذين بين أظهُرِهمُ المنكَر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك ؛ رغبةً فيما كانوا ينالون منهم , ورهبةً ممّا يحذرون , والله يقول : (فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي)(108) , وقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)(109) .
فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه ؛ لعلمه بأنّها إذا اُدِّيَت واُقيمت استقامت الفرائض كلّها ؛ هيّنها وصعبها ؛ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى‏ الإسلام مع ردّ المظالم , ومخالفة الظالم وقسمة الفي‏ء والغنائم , وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها .
ثمّ أنتم أيّتها العصابة , عصابة بالعلم مشهورة , وبالخير مذكورة , وبالنصيحة معروفة , وبالله في أنفس الناس مهابة . يهابكم الشريف , ويكرمكم الضعيف , ويؤثركم مَن لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده , تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلاّبها , وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر . أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى‏ عندكم من القيام بحقّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصرون ! فاستخففتم بحقّ الأئمّة ؛ فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتُم , وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم ؛ فلا مالاً بذلتموه , ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها , ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله .
أنتم تتمنّون على‏ الله جنّته , ومجاورة رسله , وأماناً من عذابه ! لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون على‏ الله أن تحلّ بكم نقمة من نقماته ؛ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضّلتم بها . ومَن يعرف بالله لا تكرمون وأنتم بالله في عباده تكرمون ! وقد ترون عهود الله منقوصة فلا تفزعون وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون ! وذمّة رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) محقورة , والعمي والبُكم والزمّن في المدائن مهملة لا ترحمون , ولا في منزلتكم تعملون , ولا من عمل فيها تعنون , وبالأدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون , كلّ ذلك ممّا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون !
وأنتم أعظم الناس مصيبة ؛ لما غلبتم عليه من منازل العلماء , لو كنتم تسعون ذلك بأن مجاري الاُمور والأحكام على‏ أيدي العلماء بالله , الاُمناء على‏ حلاله وحرامه , فأنتم المسلوبون تلك المنزلة , وما سُلبتم ذلك إلاّ بتفرّقكم عن الحقّ , واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة . ولو صبرتم على‏ الأذى‏ وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت اُمور الله عليكم ترد , وعنكم تصدر , وإليكم ترجع , ولكنّكم مكّنتم الظلمةَ مِن منزلتكم , واستسلمتم اُمور الله في أيديهم ؛ يعملون بالشبهات , ويسيرون في الشهوات .
سلّطهم على‏ ذلك فرارُكم من الموت , وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم ؛ فأسلمتم الضعفاء في أيديهم . فمِن بين مستعبَدٍ مقهور , وبين مستضعف على معيشة مغلوب , يتقلّبون في الملك بآرائهم , ويستشعرون الخزي بأهوائهم ؛ اقتداءً بالأشرار , وجرأة على‏ الجبّار . في كلّ بلد منهم على‏ منبره خطيب يصقع ؛ فالأرض لهم شاغرة , وأيديهم فيها مبسوطة , والناس لهم خول لا يدفعون يدَ لامس . فمِن بين جبّار عنيد , وذي سطوة على‏ الضعفة شديد , مطاع لا يعرف المبدئ المُعيد .
فيا عجباً ! وما لي (لا) أعجب والأرض من غاشٍ غشوم , ومتصدّق ظلوم , وعامل على‏ المؤمنين بهم غير رحيم , فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا , والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا .
اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنَّه لم يكن ما كان منَّا تنافساً في سلطان , ولا التماساً من فضول الحطام , ولكن لِنُريَ المعالمَ مِن دينك , ونظهر الإصلاحَ في بلادك , ويأمَن المظلومون من عبادك , ويُعمَل بفرائضك وسننك وأحكامك ؛ [فإن لم] تنصرونا وتنصفونا قوي الظلَمةِ عليكم , وعملوا في إطفاء نور نبيّكم . وحسبنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير ))(110) .
يقول الاُستاذ أحمد الصابريّ الهمدانيّ معلّقاً على‏ هذه الخطبة الشريفة : وهذه الخطبة العظيمة ممّا يهيّج الباطل العاطل , ويقوّي الضعيف المسامح المماهل في اُمور المجتمع والاُمّة , ويبيّن وظيفة هامّة ومسؤوليّة اجتماعيّة مهمّة لأرباب العلم والفضل , وطبقة العلماء والربّانيّين , ويوجب عليهم أن ينكروا المنكر بفعلهم وقولهم , وأن لا يداهنوا الظلمة حتّى‏ لا تضيع حقوق الضعَفة والعجَزة من الرعيّة , وأن لا يتفرّقوا عن الحقّ ولا يختلفوا في السُنّة .
ويقول الإمام (عليه السّلام) : (( لو أنّهم أقاموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاستقامت الفرائض كلّها , وبه يُردّ المظالم , ومخافة الظالم , ويكون مجاري الاُمور بيد العلماء )) .
وقد استدلّ بتلك الخطبة لولاية الفقهاء كما أوضحنا ذلك في كتاب الهداية إلى‏ مَن له الولاية(111)(112) .
وروى‏ محمّد بن الحسن أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قال لأصحابه بعد أن حمد الله وأثنى‏ عليه : (( إنّه قد نزل بنا من الأمر بما قد تَرون , وإنّ الدنيا تغيّرت وتنكّرت , وأدبر معروفها واستمرّت(113) , ولم يبق منها إلاّ صبابةٌ كصبابة الإناء , وخسيس‏ عيشٍ كالمرعى‏ الوبيل . ألاَ ترون إلى‏ الحقّ لا يُعمَلُ به , وإلى‏ الباطل لا يتناهى‏ عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً ؛ فإنّي لا أرى‏ الموت إلاّ سعادة , والحياةَ مع الظالمين إلاّ برماً . إنَّ الناس عبيد الدنيا , والدين لعقٌ على‏ ألسنتهم , يحوطونه ما درّت معايشهم , فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون )) .
وأنشأ متمثّلاً :

 سأمضي فما بالموت عارٌ على‏ الفتى‏    إذا ما نوى‏ خيراً وجاهد مسلما
 وواسى‏ الرجالَ الصالحين بنفسِه‏    وفارقَ مَذموماً وخالف مجرما
 اُقدِّم نفسي لا اُريد بقاءَه    لتلقى‏ خميساً في الهياجِ عرَمرما
فإن عشْتُ لم اُذْمم وإن مِتُّ لم اُلَمْ‏    كفى‏ بك ذُلاً أن تعيش فتُرغَما(114)

وهذه دعوةٌ صادقة تبيّن تكليف المسلم في ذلك المقطع الزمنيّ الحسّاس , وتوضّح علّة ذلك التكليف , وتثير في المرء نخوة الجهاد في سبيل الله , وتبثّ فيه روح الشهامة والعزّة والإباء .
ولقد أمر الإمام الحسين (سلام الله عليه) بالمعروف وكان في طليعة أهله , ونهى‏ عن المنكر وكان في طليعة المحاربين له ؛ بالدعوة إلى‏ إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل , فإذا لم تنفع الدعوة , وصُكّت الأسماع دون الكلمة الشجاعة , تقدّم الإمام الحسين (عليه السّلام) بالسيف , مقدِّماً عليه نفسَه الشريفة ودمه الزاكي ؛ جهاداً في سبيل الله , ودفاعاً عن شريعة الله , ورفعاً للحيف عن عباد الله , وإيقاظاً للمسلمين ممّا لا يرضاه لهم الله .
فجرّد حسام العزّة حتّى‏ الشهادة , ولكنّه لم ينسَ الكلمة التي يكون الناس بعدها ينادَون بها : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)(115) .
خطب الإمام الحسين (عليه السّلام) في (البيضة) للحرّ وأصحابه , وقد جعجعوا به إلى‏ ذلك المكان , فقال بعد الحمد والثناء : (( أيّها الناس , إنّ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) قال : مَنْ رأى‏ سلطاناً جائراً , مستحِلاً لحرام الله , ناكثاً عهدَه , مخالِفاً لسُنّة رسول‏ الله , يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول , كان حقّاً على‏ الله أن يُدخله مُدخلَه . ألاَ وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعةَ الشيطان , وتولَّوا عن طاعة الرحمن , وأظهروا الفساد , وعطّلوا الحدود , واستأثروا بالفي‏ء , وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله , وإنّي أحَقُّ بهذا الأمر ؛ لقرابتي من رسول‏ الله .
وقد أتتني كتبكم , وقَدِمَتْ عَلَيَّ رسُلُكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني , فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم , وأنا الحسين بن عليّ , ابن فاطمة بنتِ رسول‏ الله , ونفسي مع أنفسكم , ووُلْدي مع أهاليكم وأولادكم , ولكم بي اُسوة , وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي , وخلفتم بيعتي , فلَعَمري ما هي منكم بنُكْر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم‏ بن عقيل . والمغرور من اغترّ بكم ؛ فحظَّكم أخطأتم , ونصيبَكم ضيّعتُم , ومَن نكث فإنّما ينكث على‏ نفسه , وسيُغني الله عنكم , والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ))(116) .
إنّ ممّا تحلّت به الشجاعة الحسينيّة الروحَ الإنسانيّة المُحِبّة للخير , الحريصة على‏ إنقاذ الناس من الضَّلالة وميتة الجهالة ؛ ولهذا قدّم الإمام الحسين (سلام الله عليه) الموعظةَ والتذكير على‏ السيف والنفير , واستجاب لرسائل أهل الكوفة والتي دعته لأن يُقبل عليهم فيكون لهم إماماً وقدوة , وهو يعلم أنّهم الغدرة .
لكنّه جاء إليهم ليقطع عذرَ العاذر , ويخلّف الندم والحسرة في قلب كلِّ متخلّفٍ عنه , ولئلا يقول قائل : لقد خيّبنا إمامُنا حيث دعوناه فلم ‏يستجب , واستنجدناه فلم ينجدنا , ومددنا إليه يد المستغيث فلم يراعنا ولم يغثنا , فيكون لهم الحجّة الظاهرة إذا نكصوا عن الجهاد أو انصاعوا إلى‏ سلطة الجلاّد .
 لقد قدِم الإمام الحسين (سلام الله عليه) لتصبح الحجّة ظاهرةً وباطنة , قائمةً عليهم ؛ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) , ولئلاّ يقول أحد : يا رب , لولا أقمت لنا علماً هادياً فنتّبع أوامرَك مِن قبل أن نَذِلَّ ونخزى . فقد عقّب الله تعالى‏ برسله أوصياءَ مستحفَظين , حجّةً منه بالغةً على‏ العباد , (فلله الحجّةُ البالغة ...)(117) .
وقد جاء عن الإمام المهديّ (سلام الله عليه) في دعاء الندبة قوله : (( وكلٌّ (أي من الأنبياء عليهم السّلام) شرعتَ له شريعة , ونهجت له منهاجاً , وتخيّرتَ له أوصياءَ [أوصياءَه‏] مستحفَظاً بعد مُستحفِظ , من مدّةٍ إلى‏ مدّة ؛ إقامةً لدينك , وحجّةً على‏ عبادك , ولئلاّ يزول الحقُّ عن مقرّه , ويغلبَ الباطلُ على‏ أهله , ولئلاّ يقول أحدٌ : لولا أرسلتَ إلينا رسولاً منذراً , وأقمتَ لنا علَماً هادياً فنتّبع آياتك من قبل أن نذلَّ ونخزى‏ ... ))(118) .
ثمّ كان لا بدَّ من الإقدام ؛ إذ لا بدّ من الدم ؛ حيث الدين في خطر , والاُمّة في سبات , فرأى‏ الحسين (عليه السّلام) أن يذهب إلى‏ كربلاء نصرَه الناسُ أم خذلوه , أسلموه أم قتلوه . ولكن رأى‏ أيضاً أن يُدليَ لهم بالنصيحة , ويقيم عليهم الحجّة بل الحُجج , ويذكّرَهم ويحذِّرهم ممّا هم مُقبلون عليه من سخط الله وعظيم غضبه بقتلهم وصيّ المصطفى‏ وريحانته , والثلّة المؤمنة من أهل بيته وأنصاره .
لمّا بلغ عمرَ بن سعد توجّهُ الحسين إلى‏ العراق لحقه وأشار عليه بالطاعة والانقياد , فقال له الحسين : (( يا عبد الله , أمَا علمت أنَّ من هوان الدنيا على‏ الله أنَّ رأس يحيى‏ بن زكريّا اُهدي إلى‏ بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ـ إلى‏ قوله ـ فلم يعجّل الله عليهم , بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ؟! )) . ثمّ قال (عليه السّلام) لعمر : (( اتّقِ الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدَعنَّ نصرتي ))(119) .
وفي اليوم السابع من المحرّم سنة 61 هـ , وفي ساحة كربلاء أرسل الإمام الحسين (عليه السّلام) عمرو بن قرظة الأنصاريّ إلى‏ عمر بن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين , فخرج كلٌّ منهما في عشرين فارساً , وأمر الحسين مَن معه أن يتأخّرَ إلاّ العبّاس وابنه عليّاً الأكبر , وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( يابن سعد , أتقاتلني ؟! أمَا تتّقي الله الذي إليه معادُك ؛ فأنا ابن مَن علمت ؟! ألاَ تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى‏ الله تعالى‏ )) .
 قال عمر بن سعد : أخاف أن تُهدم داري .
قال الحسين (عليه السّلام) : (( أنا أبنيها لك )) .
قال عمر : أخاف أن تؤخذ ضيعتي .
قال (عليه السّلام) : (( أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي من الحجاز ))(120) .
ويُروى‏ أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قال لعمر بن سعد : (( أعطيك البغيبغة )) . وكانت عظيمةً فيها نخلٌ وزرعٌ كثير , دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلم يبعها منه(121) , فقال ابن سعد : إنَّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل .
ولمّا أيس الحسين (عليه السّلام) منه قام وهو يقول : (( ما لك ! ذبحك الله على‏ فراشك عاجلاً , ولا غفر لك يوم حشرك , فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً )) .
قال ابن سعد مستهزئاً : في الشعير كفاية(122) .
وأوّل ما شاهده عمر بن سعد من غضب الله عليه ذهاب ولاية الريّ ؛ فإنّه لمّا رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية (الريّ) , فادّعى‏ ابن سعد ضياعه , فشدّوا عليه بإحضاره , فقال له ابن سعد : تركته يقرأ على‏ عجائز قريش اعتذاراً منهنّ , أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحةً لو نصحتها أبي (سعداً) كنت قد أدّيت حقَّه .
فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله : صدق , وددت أنَّ في أنف كلّ رجلٍ من بني زياد خزامةً إلى‏ يوم القيامة وأنَّ الحسين لم‏ يُقتل(123) .
وكان من صنع المختار مع عمر بن سعد أنّه لمّا أعطاه الأمان استأجر نساءً يبكين على‏ الحسين ويجلسن على‏ باب دار عمر بن سعد , وكان هذا الفعل يلفت أنظار المارّة , فصاحب هذا الدار قاتل الحسين , فكيف يكون على‏ داره نساءٌ يبكين الحسين ! فضجر ابن سعد من ذلك , وكلّم المختار في رفعهنَّ عن باب داره , فقال له المختار : ألا يستحقّ الحسينُ البكاءَ عليه(124) !
ولمّا أراد أهل الكوفة أن يؤمّروا عليهم عمرَ بن سعد بعد موت يزيد بن معاوية لينظروا في أمرهم , جاءتْ نساء همدان وربيعة إلى‏ الجامع الأعظم
صارخاتٍ يقلن : ما رضي ابن سعد بقتل الحسين حتّى‏ أراد أن يتأمّر ! فبكى‏ الناس وأعرضوا عنه(125) .
ولقد تقدّم الإمام الحسين (عليه السّلام) بالنصيحة والموعظة والدعوة الحقّة , قدّم كلَّ ذلك قبل أن يتقدّم بالسيف يدافع به عن حُرَم الإسلام المتعرّضة إلى الهتك على‏ أيدي بني اُميّة ؛ وبذلك تكون الشجاعة الحسينيّة قد امتازت بأن أصبحت موجِّهةً للناس , كاشفةً عن الحقائق , مرشدةً إلى‏ أداء التكاليف , وهذا من أخلاق الحسين (عليه السّلام) ؛ حيث قدّم الكلمة على‏ السيف , والتوعية على‏ القتال , والبيان على‏ القيام , وقد أبى‏ الكثير ؛ فنصحهم ووعظهم , وقال لهم في أنفسهم قولاً بليغاً .
4 ـ الموقف الكاشف
إنَّ الشجاعة الحسينيّة لم تكن مجرّد اصطدام ومواجهةٍ وثبات , ولم تكن خصومة تقصد الغلبة الدنيويّة , إنّما كانت ـ كما اتّضح لنا ـ جهاداً باللسان والسيف , وكانت إقداماً ذا هدفٍ رسالي ؛ لهذا اقترنت الشجاعة الحسينيّة بالموقف الرساليّ والدليل الشرعيّ ؛ فأسفر الإمام الحسين (سلام الله عليه) عن وجهي الحقّ والباطل , وأبان للناس أين هو العدل وأين هو الظلم , وما هو الخير وما هو الشرّ , ومن أحقّ بخلافة رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) حتّى‏ مع الإغماض عن النصوص النبويّة الشريفة .
عن أبي سلمة قال : حججت مع عمر بن الخطّاب , فلمّا صرنا بالأبطح فإذا بأعرابيّ قد أقبل علينا , فقال : يا أمير المؤمنين , إنيّ خرجت وأنا حاجٌّ محرِم , فأصبت بيض النعام , فاجتنيتُ وشويت وأكلت , فما يجب علَيّ ؟
قال عمر : ما يحضرني في ذلك شي‏ء , فاجلس لعلّ الله يفرّج عنك ببعض أصحاب محمّد .
فإذا أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) قد أقبل والحسين (عليه السّلام) يتلوه , فقال عمر : يا أعرابيّ , هذا علي بن أبي طالب , فدونَك ومسألتك .
فقام الأعرابيّ وسأله , فقال عليٌّ (عليه السّلام) : (( يا أعرابيّ , سل هذا الغلام عندك )) , يعني الحسين (عليه السّلام) .
فقال الأعرابيّ : إنّما يحيلني كلُّ واحدٍ منكم على‏ الآخر ! فأشار الناس إليه : ويحك ! هذا ابن رسول الله فاسأله . فقال الأعرابيّ : يابن رسول الله , إنّي خرجتُ من بيتي حاجّاً ـ وقصّ عليه القصّة ـ , فقال له الحسين : (( ألَكَ إبل ؟ )) .
قال : نعم .
قال : (( خذْ بعدد البيض الذي أصبتَ نُوقاً فاضربها بالفحولة , فما فصلت فاهدها إلى‏ بيت الله الحرام )) .
فقال عمر : يا حسين , النُّوق يزلقن(126) .
فقال الحسين : (( يا عمر , إنَّ البيَضَ يمرقن ))(127) .
فقال عمر : صدقت وبررت .
فقام عليٌّ (عليه السّلام) وضمَّ الحسينَ إلى‏ صدره وقرأ : (( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))(128) .
فأثبت الإمام عليٌ (عليه السّلام) أنَّ ولده الحسين (عليه السّلام) إمامٌ عالِم , يعرف ما جهله (خليفة المسلمين) وتحيّر به ودعا بالفرج عنه , وأثبت الإمام الحسين (سلام الله عليه) ـ وهو غلام يومذاك ـ بشجاعته أنَّ الخليفة ليس خليفة , وأنّ المنصب الذي تقمّصه هو منصب الأعلم , فأثبت له (عليه السّلام) أنّه ليس‏ الأعلم .
 وهناك روايةٌ اُخرى تحكي إثبات ذلك , وتدلُّ على‏ شجاعة الإمام الحسين (سلام الله عليه) في موقفٍ حقّ : جاء في كتاب الاحتجاج لأبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسيّ , وهو من علماء القرن السادس , هذه الرواية في باب احتجاج الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) على‏ عمر بن الخطّاب في الإمامة والخلافة : روي أنّ عمر بن الخطّاب كان يخطب الناس على‏ منبر رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , فذكر في خطبته أنّه أَولى‏ بالمؤمنين من أنفسهم , فقال له الحسين (عليه السّلام) من ناحية المسجد : (( انزل أيّها الكذّاب عن منبر رسول الله لا منبر أبيك )) .
فقال له عمر : فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي . مَن علّمك هذا ؟ أبوك علي ‏بن أبي طالب ؟
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( إن اُطعْ أبي فيما أمرني فلَعمري إنّه لَهادٍ وأنا مهتدٍ به , وله في رقاب الناس البيعة على‏ عهد رسول‏ الله , نزل بها جبرئيل من عند الله تعالى‏ , لا ينكرها إلاّ جاحد بالكتاب , قد عرفها الناس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم , وويل للمنكرين حقَّنا أهلَ البيت ! ماذا يلقاهم به محمّد رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) من إدامة الغضب وشدّة العذاب ! )) .
 فقال عمر : يا حسين , من أنكر حقَّ أبيك فعليه لعنة الله , أمّرَنا الناسُ فتأمّرْنا , ولو أمّروا أباك لأطعنا .
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( يابن الخطّاب , فأيّ الناس أمّرك على‏ نفسه قبل أن تؤمّر أبا بكر على‏ نفسك , فيؤمّرك على‏ الناس بلا حجة من نبيّ ولا رضاً من آل محمّد ؟! فرضاكم كان لمحمّد (صلّى‏ الله عليه وآله) رضاً أو رضا أهله كان له سخطاً ؟ ! أمَا والله لو أنّ لللسان مقالاً يطول تصديقه , وفعلاً يعينه المؤمنون لما تخطّأتَ رقابَ آل محمّد ؛ ترقى‏ منبرهم , وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم لا تعرف معجمه , ولا تدري تأويله إلاّ سماع الآذان . المخطئ والمصيب عندك سواء , فجزاك الله جزاك , وسألك عمّا أحدثتَ سؤالاً حفيّاً )) .
قال : فنزل عمر مغضباً , فمشى‏ معه اُناس من أصحابه حتّى‏ أتى‏ باب أمير المؤمنين (عليه السّلام) , فاستأذن عليه فأذِنَ له , فدخل فقال : يا أبا الحسن , ما لقيتُ اليومَ مِن ابنِك الحسين ! يجهرنا بصوت في مسجد رسول‏ الله , ويحرّض عَلَيَّ الطغام وأهل المدينة .
فقال له الحسن (عليه السّلام) : (( على‏ مثل الحسين ابن النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) يشخب بمَن لا حكم له , أو يقول بالطغام على‏ أهل دينه ؟! أمَا والله ما نلتَ إلاّ بالطغام , فلعن الله من حرّض الطغام )) .
فقال له أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( مهلاً يا أبا محمّد ! فإنّك لن ‏تكون قريبَ الغضب , ولا لئيم الحسب , ولا فيك عروق من السودان , اسمع كلامي ولا تعجل بالكلام )) .
 فقال له عمر : يا أبا الحسن , إنّهما ليهمّان في أنفسهما بما لا يرى‏ بغير الخلافة .
فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( هما أقرب نسباً برسول الله من أن يهمّا , أما فارضهما يابن الخطّاب بحقّهما يرضَ عنك مَن بعدهما )) .
قال : وما رضاهما يا أبا الحسن ؟
قال : (( رضاهما الرجعة عن الخطيئة , والتقيّة عن المعصية بالتوبة )) .
فقال له عمر : أدِّب يا أبا الحسن ابنك أن لا يتعاطى‏ السلاطين الذين هم الحكماء في الأرض .
فقال له أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( أنا اُؤدِّب أهلَ المعاصي على‏ معاصيهم , ومَن أخاف عليه الزلّةَ والهلكة , فأمّا مَن والده رسول‏ الله ونحله أدبه فإنّه لا ينتقل إلى‏ أدبٍ خير له منه , أما فارضهما يابن الخطاب )) .
قال : فخرج عمر فاستقبله عثمان بن عفان , وعبد الرحمن بن عوف , فقال له عبد الرحمن : يا أبا حفص , ما صنعت فقد طالت بكما الحجّة ؟
فقال له عمر : وهل حجّة مع ابن أبي طالب وشبليه ؟!
فقال له عثمان : يابن الخطّاب , هم بنو عبد مناف الأسمنون , والناسُ عجاف .
فقال له عمر : ما أعد ما صرت إليه فخراً فخرت به بحمقك .
فقبض عثمان على‏ مجامع ثيابه ثمّ نبذ به وردّه , ثمّ قال له : يابن الخطّاب , كأنّك تنكر ما أقول ؟!فدخل بينهما عبد الرحمن وفرّق بينهما وافترق القوم(129).
وفي اُصول الكافي(130) لثقة الإسلام الشيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ : لمّا قُبض الحسن (عليه السّلام) وُضع على‏ سريره وانطُلق به إلى‏ مصلّى‏ رسول‏ الله الذي كان يصلّي فيه على‏ الجنائز , فَصُلِّيَ على‏ الحسن (عليه السّلام) , فلمّا أن صُلّي عليه حُمل فاُدخل المسجد , فلمّا اُوقف على‏ قبر رسول الله بلغ عائشةَ(131) الخبر , وقيل لها : إنّهم قد أقبلوا بالحسن بن عليٍّ (عليه السّلام) ليُدفن‏ مع رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , فخرجت مبادرةً على‏ بغلٍ بسرج , فكانت أوّل امرأةٍ ركبت في الإسلام سرجاً , فوقفت وقالت : نحّوا ابنَكم عن بيتي ؛ فإنّه لا يُدفن فيه شي‏ء , ولا يُهتك على‏ رسول الله حجابه .
فقال لها الحسين بن عليّ (صلوات الله عليهما) : (( قديماً هتكتِ أنتِ وأبوك حجابَ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , وأدخلتِ بيتَه من لا يحبّ رسولُ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) قُربَه , وإنَّ الله سائلك عن ذلك يا عائشة ! إنَّ أخي أمرني أن اُقَرّبَه من أبيه رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ليحدث به عهداً .
واعلمي أنَّ أخي أعلم الناس بالله ورسوله , وأعلم بتأويل كتابه من أن يَهتك على‏ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) سترَه ؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى‏ يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ)(132) , وقد أدخلتِ أنتِ بيت رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) الرجال بغير إذنه !
وقد قال الله (عزّ وجلّ) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)(133) , ولَعمري لقد ضربتِ أنتِ لأبيك وفاروقه عند اُذُنِ رسول‏ الله المعاول(134) !
وقال الله (عزّ وجلّ) : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)(135) , ولعمري لقد أدخلَ أبوكِ وفاروقُه على‏ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) بقربهما منه الأذى‏ , وما رعيا من حقّه ما أمرَهما الله به على‏ لسان رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) : إنَّ الله حرّم على‏ المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياءً .
وتالله يا عائشة , لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عند أبيه (صلوات الله عليهما) جائزاً فيما بيننا وبين الله , لعلمتِ أنّه سيُدفن وإن رُغِم معطسُك )) .
ثمّ تكلّم محمّد بن الحنفيّة وقال : يا عائشة , يوماً على‏ بغل , ويوماً على‏ جمل , فما تملكين نفسك ولا تملكين الأرضَ عداوةً لبني هاشم ؟!
فأقبلت عليه فقالت : يابن الحنفيّة , هؤلاء الفواطم يتكلّمون , فما كلامك ؟
فقال لها الحسين : (( وأنّى‏ تُبعدين محمّداً من الفواطم ! فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم ؛ فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو بن مخزوم , وفاطمة بنت أسد بن هاشم , وفاطمة بنت زائدة بن الأصمّ‏ بن رواحة بن حجر بن عبد معيص بن عامر )) .
فقالت عائشة للحسين (عليه السّلام) : نحُّوا ابنكم واذهبوا به ؛ فإنّكم قومٌ خصِمون .
فمضى‏ الحسين (عليه السّلام) إلى‏ قبر اُمّه , ثمّ أخرجه فدفنه بالبقيع .
وأمّا مع مروان بن الحكم , رأس الفتنة والنفاق , فقد كانت للإمام الحسين (عليه السّلام) مواجهات فضحه فيها وأخزاه , وفضح مَن سلّطه على‏ رقاب المسلمين , وقوّاه على‏ الباطل والشرّ والفساد والإفساد .
وقبل ذلك لا بأس بالتعرّف على‏ مروان هذا من خلال أسطرٍ قليلة فقط :
اختصم مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر , فسمعت عائشة أنّ مروان كان يعيّره ويقول له : ألستَ الذي قال لوالديه أفٍّ لكما ؟ وفي رواية : هذا الذي قال الله فيه : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا)(136) .
فأجابته عائشة : كذب مروان , كذب مروان ! ولكنَّ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه , فمروان فضضٌ من لعنة الله .
وفي لفظ آخر : ولكنّ رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه , فأنت فضضٌ من لعنة الله(137) .
وأخرج الحاكم في المستدرك(138) من طريق عبد الرحمن بن عوف‏ , وصحّحه , أنّه قال : كان لا يولد لأحدٍ بالمدينة ولدٌ إلاّ أتى‏ به إلى‏ النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) , فاُدخل عليه مروان بن الحكم , فقال : (( هو الوزَغ ابن الوزغ , الملعون ابن الملعون ))(139) .
وأخرج ابن النجيب من طريق جبير بن مطعم قال : كنّا مع رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , فمرَّ الحكم , فقال النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( ويلٌ لاُمّتي ممّا في صلب هذا ))(140) .
وقال البلاذريّ في الأنساب(141) : كان مروان يلقّب (خيط باطل) ؛ لدقّته , وطوله شبه الخيط الأبيض الذي يُرى في الشمس(142) .
ومروان هذا كان يحظى‏ بنفوذٍ سياسيّ وماليّ في عهد عثمان , ثمّ معاوية بن أبي سفيان , ولكنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) أرغم أنف مروان وأخزاه في وقائع ومواقف كثيرة , منها : عن محمّد بن السائب قال : قال مروان بن الحكم يوماً للحسين بن عليّ (عليهما السّلام) : لولا فخركم بفاطمة بما كنتم تفتخرون علينا ؟
فوثب الحسين (عليه السّلام) , وكان (عليه السّلام) شديد القبضة , فقبض على‏ حلقه فعصره , ولوى‏ عمامته على‏ عنقه حتّى‏ غُشي عليه , ثمّ تركه , وأقبل الحسين (عليه السّلام) على‏ جماعةٍ من قريش فقال : (( اُنشدكم بالله إلاّ صدّقتموني إن صدقت . أتعلمون أنّ في الأرض حبيبين كانا أحبَّ إلى‏ رسول الله منّي ومن أخي , أو على‏ ظهر الأرض ابن بنت نبيٍّ غيري وغير أخي ؟ )) .
قالوا : لا .
قال : (( وإني لا أعلم أنَّ في الأرض ملعون ابن ملعون غير هذا وأبيه طريد رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ))(143) .
وعن داود بن فرقد , عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السّلام) قال : (( دخل مروان ‏بن الحكم المدينة , قال : فاستلقى‏ على‏ السرير , وثَمَّ مولىً للحسين (عليه السّلام) , فقال : (رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمْ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) . فقال الحسين لمولاه : ماذا قال هذا حين دخل ؟ قال : استلقى‏ على‏ السرير فقرأ : (رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمْ الْحَقِّ ـ إلى قوله ـ الْحَاسِبِينَ) . فقال الحسين (عليه السّلام) : نعم والله , رُددتُ أنا وأصحابي إلى‏ الجنّة , ورُدَّ هو وأصحابه إلى‏ النار ))(144) .
وكثيرة هي المواقف الشجاعة للإمام الحسين (عليه السّلام) والتي فضح فيها رؤوس الجاهليّة وأذناب النفاق , وأذيال الطمع وأنياب الفتنة المسمومة , ومنها (عمرو بن العاص) , وما أدراك ما عمرو بن العاص !
أبوه هو الأبتر بنصّ الذكر الحميد (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)(145) , وعليه‏ أكثر أقوال المفسّرين والعلماء , منهم : ابن سعد , ذكر ذلك في طبقاته 1 / 115 , وابن قتيبة في المعارف / 124 , وابن عساكر في تاريخه 7 / 330 . أمّا اُمّه فهي ليلى‏ أشهر بغيّ مكّة وأرخصهنّ اُجرة , ولمّا وضعت عَمْراً هذا ادّعاه خمسة , غير أنّها ألحقته بالعاص بن وائل لأنّه أكثر نفقةً عليها .
قال ابن أبي الحديد : ذكر الزمخشري في (ربيع‏ الأبرار) قال : كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمةً لرجل مِن عنزة , فسُبيت , فاشتراها عبد الله بن جذعان التيميّ بمكّة , فكانت بغياً ثمّ أعتقها , فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطّلب , واُميّة بن خلف الجحميّ , وهشام بن المغيرةِ المخزوميّ , وأبو سفيان بن حرب , والعاص بن وائل السهميّ في طهرٍ واحد فولدت عمْراً , فادّعاه كلهم , فحُكّمت اُمُّه فيه , فقالت : هو من العاص بن وائل ؛ وذلك لأن العاص كان ينفق عليها كثيراً . قالوا : وكان أشبه بأبي سفيان(146) .
* وعنه غانمة بنت غانم أنها جاءت مِن مكّة إلى الشام , فأتاها معاوية فسلّم عليها , فقالت : على المؤمنين السّلام , وعلى الكافرين الهوان . ثمّ قالت : أفيكم عمرو بن العاص ؟ قال عمرو : ها أنا ذا . فقالت : وأنت تسبّ قريشاً وبني هاشم , وأنت أهل السبّ , وفيك السبّ , وإليك يعود السبّ ؟!
يا عمرو , إنّي والله لعارفة بك وبعيوبك وعيوب اُمّك , وإني أذكر لك ذلك عيباً عيباً ؛ وُلدت من أمة سوداء مجنونة حمقاء , تبول مِن قيام ويعلوها اللئام , إذا لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذَ من نطفته , ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً . وأمّا أنت فقد رأيتك غاوياً غير راشد , ومفسداً غير صالح , ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك فما غرت ولا أنكرت . وأمّا أنت يا معاوية , فما كنت في خير , ولا رُبّيتَ في نعمة(147) .
* الإمام علي (عليه السّلام) : (( العجب لطغاة أهل الشام حيث يقبلون قول عمرو ويصدّقونه وقد بلغ من حديثه وكذبه وقلة ورعه أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقد لعنه سبعين لعنة , ولعن صاحبه الذي يدعو إليه في غير موطن ؛ وذلك أنه هجا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقصيدة سبعين بيتاً ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اللهمَّ إنّي لا أقول الشعر ولا أحلّه ، فالعنه أنت وملائكتك بكلِّ بيتٍ لعنةً تترى على عقبه إلى يوم القيامة ))(148) .
ولمّا قُتل محمّد بن أبي بكر جزعت عليه اُخته عائشة , وجعلت تقنتُ وتدعو في دبر الصلاة على‏ معاوية وعمرو بن العاص(149) ؛ إذ هما صاحبا فتن‏ عظيمة , فقد أخرج ابن مزاحم في كتاب (صفّين / 112) , وروى‏ ابن عبد ربّه في (العقد الفريد 2 / 290) أنّه دخل زيد بن الأرقم على‏ معاوية فإذا عمْرو بن العاص جالسٌ معه على‏ السرير , فلمّا رأى‏ ذلك زيدٌ جاء حتّى‏ رمى‏ بنفسه بينهما , فقال له عمرو بن العاص : أما وجدت لك مجلساً إلاّ أن تقطع بيني وبين أمير المؤمنين ؟
فقال زيد : إنَّ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) غزا غزوةً وأنتما معه , فرآكما مجتمعَينِ , فنظر إليكما نظراً شديداً , ثمّ رآكما اليوم الثاني واليوم الثالث , كلُّ ذلك يديم النظر إليكما , فقال في اليوم الثالث : (( إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرّقوا بينهم ؛ فإنّهما لن ‏يجتمعا على‏ خير ))(150) .
وروى‏ الواقديّ أنَّ عمرو بن العاص كان أحد مَن يؤذي رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) بمكّة ويشتمه , ويضع في طريقه الحجارة في مسلكه ليلاً ليطوف بالكعبة .
وروي عنه أنّه مرّ على‏ كعب الأحبار فعثرت به دابّته , فقال : يا كعب , أتجد في التوراة أنَّ دابّتي تعثر بي ؟ قال كعب : لا , ولكن أجدُ في التوراة رجلاً ينزو في الفتنة كما ينزو الحمار في القيد(151) .
وذكر التاريخ فيه المخازي والمثالب ما يطول عرضه(152) , ولكنّ‏ عمرو بن العاص هذا كان له دور سياسيّ مؤثّر زمن عثمان , وفي ظلّ معاوية بن أبي سفيان , ونستطيع أن نقول : إنّه ومروان بن الحكم يعدّان بمثابة وزراء في سلطان بني اُميّة , ولكنَّ الشجاعة الحسينيّة استطاعتْ أن تعرّف للناس من عمرو هذا , وكيف حقَّ للبعض تقريبه وتمكينه من الرقاب وتسليطه على‏ الأموال ! وكان الإمام الحسن (عليه السّلام) قد فضحه من قبل ذلك.
ذكر الواقديّ جملةً من مثالب عمرو بن العاص , ثمّ نقل عن الزبير بن بكّار في كتاب (المفاخرات) ضمن ما نقله أنَّ الحسن المجتبى‏ (عليه السّلام) قال لعمرو : (( وأمّا أنت يابن العاص , فإنَّ أمرك مشترك ؛ وضعتك اُمُّك مجهولاً من عهرٍ وسفاح , فتحاكم فيك أربعةٌ من قريش , فغلب عليك جزّارها ؛ ألأمهم حسباً , وأخبثهم منصباً , ثمّ قام أبوك فقال : أنا شانئ محمّدٍ الأبتر . فأنزل الله فيه ما أنزل .
وقاتلتَ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) في جميع المشاهد , وهجوتَه وآذيتَه بمكّة , وكدته كيدك كلَّه , وكنت من أشدّ الناس له تكذيباً وعداوة , ثمّ خرجت تريد النجاشيَّ مع أصحاب السفينة ؛ لتأتي بجعفر وأصحابه إلى‏ أهل مكّة , فلمّا أخطأك ما رجوت , ورجعك الله خائباً , وأكذبك واشياً , جعلت حدَّكَ على‏ صاحبك عمارة بن الوليد , فوشيت به إلى‏ النجاشيّ ؛ حسداً لما ارتُكب من حليلته , ففضحك الله وفضح صاحبك , فأنت عدوُّ بني هاشم في الجاهليّة والإسلام .
ثمّ إنّك تعلم , وكلُّ هؤلاء الرهط يعلمون , أنّك هجوت رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) بسبعين بيتاً من الشعر , فقال رسول الله (صلّى ‏الله عليه وآله) : اللهمَّ إنّي لا أقول الشعر ولا ينبغي لي , اللّهمّ العنه بكلّ حرفٍ ألف لعنة . فعليك إذاً من الله ما لا يُحصى‏ من اللعن ))(153) .
وفي رواية قال الإمام الحسن (عليه السّلام) لعمرو بن العاص : (( وأنت مَن تعلمِ ويعلم الناس , تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك جزّاروها ؛ ألأمهم حسباً , وأعظمهم لؤماً , فايّاك عني فإنك رجس , ونحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنّا الرجس وطهّرنا تطهيراً )) . فاُفحم عمرو وانصرف كئيباً(154) .
ويأتي الإمام الحسين (عليه السّلام) فيكشف للناس عن بؤرة عمروٍ هذا . روى‏ ابن شهر آشوب في (مناقب آل أبي طالب)(155) أنّ عمرو بن العاص‏ قال للحسين (عليه السّلام) : ما بال أولادنا أكثر من أولادكم ؟
فقال (عليه السّلام) :

بُغاث الطير أكثرُها فراخ    واُمُّ الصقر مقلاتٌ نزورُ

فقال عمرو : ما بالُ الشيب إلى‏ شواربنا أسرع منه إلى‏ شواربكم ؟
فقال (عليه السّلام) : (( إنَّ نساءكم نساء بخرة , فإذا دنا أحدكم من امرأته نهكته في وجهه , فشاب منه شاربه )) .
فقال : ما بال لحائكم أوفر من لحائنا ؟
فقال (عليه السّلام) : (( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ))(156) .
فقال معاوية لعمرو : بحقّي عليك إلاّ سكت ؛ فإنّه ابن عليّ بن أبي طالب .
فقال الحسين (عليه السّلام) :

 إن عادتِ العقربُ عُدْنا له    وكانتِ النعلُ لها حاضرهْ
 قد علِمَ العقرب واستيقنتْ‏    أنْ لا لَها دنيا ولا آخرهْ

قال الجوهريّ في (صحاح اللغة) : قال ابن السكيّت : البغاث : طائرٌ أبغث إلى‏ الغبرة دُوين الرَّخمة , بطي‏ء الطيران .
وقال الفرّاء : بغاث الطير شرارها وما لا يصيد منها . قوله : مقلات , لعلّه من القِلى‏ بمعنى‏ البغض , أي لا تحبّ الولد , ولا تحبّ زوجها لتكثّر الولد , أو من قولهم : قلا البعير اُتنه , يقلوها قلواً إذا طردها . والصواب أنّه من قلّت . قال الجوهريّ : المقلات من النُّوق : التي تضع واحداً ثمّ لا تحمل بعده , والمقلات من النساء : التي لا يعيش لها ولد . وقال : النزور : المرأة القليلة الولد .
وإذا تركنا هؤلاء إلى‏ (معاوية) وجدناه ذلك الطاغية المتجبِّر الذي قتل عشرات الآلاف من الأبرياء ؛ الأطفال والنساء , والشيوخ والعجزة , والصالحين والعزّل من الناس , في الشام والحجاز واليمن , على‏ يدِ جلاوزته .
وهو الذي كان يوصي ولاتَه : من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره(157) .
وقد صوّر الإمام الباقر (عليه السّلام) تلك المآسي التي عاشها الناس في زمن معاوية , فقال : (( ... فقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة , وقُطعتِ الأيدي والأرجل على‏ الظنّة , وكلّ مَن يُذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سجن , أو نُهب ماله , أو هُدّمت داره , ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى‏ زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السّلام) ))(158) .
وفي تلك المجازر الرهيبة قُتلت كوكبةٌ من الصحابة الأبرار ؛ حِجْر بن عَديّ وجماعته , ورُشَيد الهجريّ , وعمرو بن الحمق الخزاعيّ , وأوفى‏ بن حصين ... وغيرهم كثير . وقد كانت الفاجعة العظمى‏ بقتل الإمام الحسن المجتبى‏ سبط رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , ومِن قبله مالك الأشتر النخعيّ والي أمير المؤمنين (عليه السّلام) على‏ مصر , دسَّ إليه معاوية السمّ في عسل , ووقف على‏ المنبر يدعو الناس للدعاء على‏ مالك , فلمّا جاء خبر شهادته قال للناس : إنّ الله استجاب دعوتكم . ثمّ أخذ يردّد بتشفٍّ : إنّ لله جنوداً من عسل .
ولكنَّ هذا الطاغية المتغطرس الذي برئ من التقوى‏ والإيمان فضلاً عن مكارم الأخلاق قد ذاق المرارة من الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ حيث ظهرت شجاعته (عليه السّلام) قباله في مواقف كاشفةٍ عن جهل معاوية , وخباثته وانحرافه , وعدم لياقته للتأمّر على‏ الناس . تعالَوا نتبيّنْ ذلك في رحلةٍ إلى‏ عالم الروايات :
 كتب معاوية إلى‏ جميع عمّاله في جميع الأمصار أن لا تجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة , وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه , ومحبّي أهل بيته وأهل ولايته , والذين يروون فضله ومناقبه ؛ فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم , واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم أبيه وقبيلته .
ففعلوا حتّى‏ كثرت الرواية في عثمان وافتعلوها ؛ لما كان يبعث إليهم من الصلات والخلع والقطائع من العرب والموالي , وكثر ذلك في كلّ مصر , وتنافسوا في الأموال والدنيا , فليس أحد يجي‏ء من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلاّ كُتب اسمه واُجيز , فلبثوا بذلك ما شاء الله .
ثمّ كتب إلى‏ عمّاله : إنَّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر , فادعوا الناس إلى‏ الرواية في معاوية وفضله وسوابقه ؛ فإنّ ذلك أحبّ إلينا , وأقرّ لأعيننا , وأدحض لحجّة أهل البيت وأشدّ عليهم .
فقرأ كلّ أمير وقاض كتابه على‏ الناس ؛ فأخذ الرواة في فضائل معاوية على‏ المنبر في كلّ كورة وكلّ مسجد زوراً , وألقوا ذلك إلى‏ معلّمي الكتاتيب فعلّموا ذلك صبيانهم كما يعلّمونهم القرآن , حتّى‏ علّموه بناتهم ونساءهم وحشمهم , فلبثوا بذلك ما شاء الله .
وكتب زياد بن أبيه إليه في حقّ الحضرميّين أنّهم على‏ دين عليّ وعلى‏ رأيه , فكتب إليه معاوية : اقتل كلَّ مَن كان على‏ دين عليّ ورأيه . فقتلهم ومثّل بهم .
وكتب كتاباً آخر : انظروا من قبلكم من شيعة عليّ واتّهمتموه بحبّه فاقتلوه , وإن لم ‏تقم عليه البيّنة فاقتلوه على‏ التهمة والظنّة والشبهة , تحت كلّ حجر . حتّى‏ لو كان الرجل تسقط منه كلمة ضُربت عنقه , حتّى‏ لو كان الرجل يرمى‏ بالزندقة والكفر كان يُكَرَّم ويعظَّم ولا يُتَعَرَّض له بمكروه , والرجل من الشيعة لا يأمن على‏ نفسه في بلد من البلدان لا سيّما الكوفة والبصرة , حتّى‏ لو أنَّ أحداً منهم أراد أن يلقي سرَّاً إلى‏ مَن يثق به لأتاه في بيته فيخاف خادمه ومملوكه , فلا يحدّثه إلاّ بعد أن يأخذ عليه الأيمان المغلّظة ليكتمنّ عليه , ثمّ لا يزداد الأمر إلاّ شدّة حتّى‏ كثر وظهر أحاديثهم الكاذبة , ونشأ عليه الصبيان يتعلّمون ذلك .
وكان أشدَّ الناس في ذلك القرّاء المرّاؤون المتصنّعون الذين يُظهرون الخشوع والورع , فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وولّدوها فيحظون بذلك عند الولاة والقضاة , ويدنون مجالسهم , ويصيبون بذلك الأموال والقطائع والمنازل حتّى‏ صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقّاً وصدقاً ؛ فروَوها وقبلوها , وتعلّموها وعلّموها , وأحبّوا عليها وأبغضوا مَن ردّها أو شكّ فيها .
فاجتمعت على‏ ذلك جماعتهم , وصارت في يد المتنسّكين والمتديّنين منهم الذين لا يحبّون الافتعال إلى‏ مثلها , فقبلوها وهم يرون أنّها حقّ , ولو علموا بطلانها وتيقّنوا أنّها مفتعلة لأعرضوا عن روايتها ولم يدينوا بها , ولم يبغضوا من خالفها , فصار الحقّ في ذلك الزمان عندهم باطلاً والباطل عندهم حقّاً , والكذب صدقاً والصدق كذباً .
فلمّا مات الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) ازداد البلاء والفتنة , فلم يبق لله وليّ إلاّ خائف على‏ نفسه , أو مقتول أو طريد أو شريد , فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين حجّ الحسين‏ بن عليّ (عليه السّلام) , وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس معه , وقد جمع الحسين بن عليّ (عليه السّلام) بني هاشم ؛ رجالهم ونساءهم , ومواليهم وشيعتهم , مَن حجّ منهم ومن لم يحجّ , ومن الأنصار ممّن يعرفونه وأهل بيته , ثمّ لم‏ يدع أحداً من أصحاب رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , ومن أبنائهم والتابعين , ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ جمعهم .
فاجتمع عليه بمنى‏ أكثر من ألف رجل , والحسين (عليه السّلام) في سرادقه , عامّتهم التابعون وأبناء الصحابة , فقام الحسين (عليه السّلام) فيهم خطيباً ,
فحمد الله وأثنى‏ عليه , ثمّ قال : (( أمّا بعد , فإنّ الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم , وشهدتم وبلغكم , وإنّي اُريد أن أسألكم عن أشياء , فإن صدقتُ فصدّقوني , وإن كذبتُ فكذّبوني . اسمعوا مقالتي واكتموا قولي , ثمّ ارجعوا إلى‏ أمصاركم وقبائلكم مَن أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى‏ ما تعلمون ؛ فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب , والله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون )) .
فما ترك الحسين (عليه السّلام) شيئاً أنزل الله فيهم من القرآن إلاّ قاله وفسّره , ولا شيئاً قاله الرسول في أبيه واُمّه وأهل بيته (صلوات الله عليهم جميعاً) إلاّ رواه , وكلّ ذلك يقول الصحابة : اللهمَّ نعم , قد سمعناه وشهدناه . ويقول التابعون : اللهمَّ قد حدّثَنا مَن نصدّقه ونأتمنه . حتّى‏ لم يترك شيئاً إلاّ قاله , ثمّ قال : (( اُنشدكم بالله إلاّ رجعتم وحدَّثتم به مَن تثقون به )) . ثمّ نزل وتفرّق الناس على ذلك(159) .
ومن احتجاجه (عليه السّلام) على‏ معاوية توبيخاً له على‏ قتل مَن قتله من شيعة أمير المؤمنين , وترحّمه عليهم : عن صالح بن كيسان قال : لما قتل معاويةُ حِجرَ بن عدي وأصحابَه حجّ ذلك العام فلقي الحسين بن عليّ (عليه السّلام) , فقال :يا أبا عبد الله ,هل بلغك ما صنعنا بحِجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟
فقال (عليه السّلام) : (( وما صنعتَ بهم ؟ )) .
قال : قتلناهم وكفّنّاهم وصلّينا عليهم .
فضحك الحسين (عليه السّلام) ثمّ قال : (( خصَمك القوم يا معاوية , لكنّنا لو قتلنا شيعتك ما كفّنّاهم ولا صلّينا عليهم ولا قبرناهم , ولقد بلغني وقيعتُك في عليٍ‏ّ , وقيامك ببغضنا , واعتراضك بني هاشم بالعيوب , فإذا فعلت ذلك فارجع إلى‏ نفسك ثمّ سلها الحقّ عليها ولها ؛ فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر عيبك فيك , وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترنَّ غير قوسك , ولا ترمين غير غرضك , ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب ؛ فإنّك والله لقد أطعت فينا رجلاً ما قدم إسلامه , ولا حدث نفاقه , ولا نظر لك , فانظر لنفسك أو دع )) يعني عمرو بن العاص(160) .
وروي أنّ مروان بن الحكم كتب إلى‏ معاوية , ومروان عامله على‏ المدينة : أمّا بعد , فإنَّ عمرو بن عثمان ذكر أنَّ رجالاً من أهل العراق , ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى‏ الحسين بن عليّ , وذكر أنّه لا يأمن وثوبه , وقد بحثتُ عن ذلك فبلغني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا , ولست آمَنُ أن يكون هذا أيضاً لما بعده , فاكتب إلَيَّ برأيك في هذا , والسلام .
فكتب إليه معاوية : أمّا بعد , فقد بلغني وفهمتُ ما ذكرتَ فيه من أمر الحسين , فإيّاك أن تعرض للحسين في شي‏ء , واترك حسيناً ما تركك ؛ فإنّا لا نريد أن نعرض له في شي‏ء ما وفى‏ بيعتنا , ولم ينازعنا سلطاننا , فاكمن عنه ما لم‏ يبد لك صفحته . والسلام .
وكتب معاوية إلى‏ الحسين بن عليّ (عليه السّلام) : أمّا بعد , فقد انتهت إليَّ اُمور عنك , إن كانت حقّاً فقد أظنّك تركتها رغبة فدعها , ولَعَمر الله , إنَّ مَن أعطى‏ الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء , فإن كان الذي بلغني باطلاً فإنّك أنت أعزل الناس لذلك , وعظ نفسك فاذكر , وبعهد الله أوفِ ؛ فإنّك متى‏ ما تنكرني أنكرك , ومتى‏ ما تكدني أكدك , فاتّق شقَّ عصا هذه الاُمّة وأن يردَّهم الله على يديك في فتنة ؛ فقد عرفت الناس وبلوتهم , فانظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد , ولا يستخفّنّك السفهاء والذين لا يعلمون .
فلمّا وصل الكتاب إلى‏ الحسين (صلوات الله عليه) كتب إليه : (( أمّا بعد , فقد بلغني كتابك تذكر أنّه قد بلغك عنّي اُمور أنت لي عنها راغب , وأنا بغيرها عندك جدير ؛ فإنَّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ الله .
وأمّا ما ذكرتَ أنّه انتهى‏ إليك عنّي , فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشّاؤون بالنميم , وما اُريد لك حرباً ولا عليك خلافاً . وأيم الله , إنّي لخائف لله في ترك ذلك , وما أظنّ الله راضياً بترك ذلك , ولا عاذراً بدون الإعذار فيه إليك , وفي اُولئك القاسطين الملحدين حزب الظلمة وأولياء الشياطين .
ألستَ القاتلَ حجراً أخا كندة والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع , ولا يخافون في الله لومة لائم , ثمَّ قتلتَهم ظلماً وعدواناً من بعدما كنتَ أعطيتهم الأيمان المغلّظة , والمواثيق المؤكّدة , ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم , ولا بإحنة تجدها في نفسك ؟!
أَوَ لست قاتلَ عمْرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , العبد الصالح الذي أبلته العبادة , فنحل جسمه , وصفرت لونه بعدما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيتَه طائراً لنزل إليك من رأس الجبل , ثمَّ قتلتَه جرأةً على‏ ربّك , واستخفافاً بذلك العهد ؟!
أوَ لستَ المدَّعي زيادَ بن سميّة المولود على‏ فراش عبيد ثقيف , فزعمت أنّه ابن أبيك , وقد قال رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) : الولد للفراش وللعاهر الحجر . فتركتَ سنّة رسول الله تعمّداً , وتبعت هواك بغير هدى‏ من الله , ثمَّ سلّطته على‏ العراقينِ ؛ يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم , ويسمل أعينهم , ويصلّبهم على‏ جذوع النخل , كأنّك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك ؟!
أوَ لستَ صاحب الحضرميّين الذين كتب فيهم ابن سميّة أنّهم كانوا على‏ دين عليّ (صلوات الله عليه) , فكتبت إليه أن اقتل كلَّ من كان على‏ دين عليّ . فقتلهم ومثّل بهم بأمرك , ودينُ عليّ (عليه السّلام) ـ والله ـ الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك , وبه جلست مجلسك الذي جلستَ , ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرِّحلتين ؟!
وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد , واتّقِ شقَّ عصا هذه الاُمّة وأن تردَّهم إلى‏ فتنة . وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على‏ هذه الاُمّة من ولايتك عليها , ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد (صلّى‏ الله عليه وآله) علينا أفضل من أن اُجاهدك ؛ فإن فعلتُ فإنّه قربة إلى‏ الله , وإن تركته فإنّي أستغفر الله لذنبي , وأسأله توفيقه لإرشاد أمري .
وقلتَ فيما قلت : إنّي إن أنكرتك تنكرني , وإن أكدك تكدني . فكدني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أن لا يضرَّني كيدك فيَّ , وأن لا يكون على‏ أحد أضرَّ منه على‏ نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك , وتحرّصت على‏ نقض عهدك . ولعمري ما وفيتَ بشرط , ولقد نقضتَ عهدكَ بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان , والعهود والمواثيق , فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقُتلوا . ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا , وتعظيمهم حقَّنا , فقتلتَهم مخافة أمر لعلّك لو لم تقتلهم متَّ قبل أن يفعلوا , أو ماتوا قبل أن يدركوا .
فأبشر يا معاوية بالقصاص , واستيقن بالحساب , واعلم أنَّ لله تعالى‏ كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها , وليس‏ الله بناسٍ لأخذك بالظنّة , وقتلِك أولياءَه على‏ التُّهم , ونفيك أولياءَه من دورهم إلى‏ دار الغربة , وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث ؛ يشرب الخمر , ويلعب بالكلاب . لا أعلمُك إلاّ وقد خسرت نفسك , وبترتَ دينك , وغششت رعيّتك , وأخزيت أمانتك , وسمعت مقالة السفيه الجاهل , وأخفت الورع التقيَّ لأجلهم . والسّلام )) .
فلمّا قرأ معاوية الكتاب قال : لقد كان في نفسه ضبٌّ ما أشعر به !
فقال يزيد : يا أمير المؤمنين , أجبه جواباً يصغّر إليه نفسه , وتذكر فيه أباه بشرّ فعله .
قال : ودخل عبد الله بن عمرو بن العاص , فقال له معاوية : أما رأيت ما كتب به الحسين ؟!
قال : وما هو ؟
قال : فأقرأَه الكتاب , فقال : وما يمنعك أن تجيبه بما يصغّر إليه نفسه ؟ وإنما قال ذلك في هوى‏ معاوية , فقال يزيد : كيف رأيتَ يا أمير المؤمنين رأيي ؟
فضحك معاوية , فقال : أمّا يزيد فقد أشار عَلَيَّ بمثل رأيك .
قال عبد الله : فقد أصاب يزيد .
فقال معاوية : أخطأتُم ؛ أرأيتما لو أنّي ذهبت لعيب عليّ محقّاً ما عسيت أن أقول فيه ؟! ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل وما لا يُعرف , ومتى‏ ما عبت رجلاً بما لا يعرفه الناس لم يحفل بصاحبه , ولا يراه الناس شيئاً , وكذَّبوه . وما عسيت أن أعيب حسيناً ! ووالله ما أرى‏ للعيب فيه موضعاً , وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعّده وأتهدَّده , ثمَّ رأيت أن لا أفعل ولا أمحكه(161) .
احتجاجه (صلوات الله عليه) بإمامته على‏ معاوية وغيره‏ وذكر طرف من مفاخراته ومشاجراته التي جرت له‏ مع معاوية وأصحابه
عن موسى‏ بن عقبة أنّه قال : لقد قيل لمعاوية : إنَّ الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين , فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب فإنّ فيه حصراً أو في لسانه كلالة .
فقال لهم معاوية : قد ظنّنا ذلك بالحسن , فلم يزل حتّى‏ عظم في أعين الناس وفضحنا . فلم يزالوا به حتّى قال للحسين : يا أبا عبد الله , لو صعدتَ المنبر فخطبت .
فصعد الحسين (عليه السّلام) المنبر , فحمد الله وأثنى‏ عليه , وصلّى على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) , فسمع رجلاً يقول : مَن هذا الذي يخطب ؟
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( نحن حزب الله الغالبون , وعترة رسول الله (صلّى ‏الله عليه وآله) الأقربون , وأهل بيته الطيّبون , وأحد الثقلينِ اللذينِ جعلَنا رسول‏ الله (صلّى الله عليه وآله) ثانيَ كتاب الله تبارك وتعالى‏ الذي فيه تفصيل كلّ شي‏ء , لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , والمعوّل علينا في تفسيره , لا يُبطينا تأويله , بل نتّبع حقايقه ؛ فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة , أَنْ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة . قال الله (عزّ وجلّ) :
(أطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)(162) . وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)(163) .
واُحذّركم الإصغاء إلى‏ هتوف الشيطان بكم فإنّه لكم عدوّ مبين , فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم : (لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌلَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ)(164) .
فتلقون للسيوف ضرباً , وللرماح ورداً , وللعمد حطماً , وللسهام غرضاً , ثمّ لا يُقبَل من نفسٍ إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً )) .
قال معاوية : حسبك يا أبا عبد الله , قد بلّغت(165) .
ولم تعبّر الاحتجاجات الحسينيّة عن الشجاعة الحسينيّة فقط , بل عبّرت أيضاً عن الموقف الكاشف للحقّ والباطل , وعبّرت كذلك عن العلم الجمّ , والغيرة على الدين , وأخلاق المحاججة بما يناسب أعداء الله , وعن جهاد الكلمة الشجاعة الداعية إلى‏ سبيل الله على‏ هدىً وبصيرة , وأدّت إضافةً إلى‏ كلّ ذلك دور توعية الناس , وإيقاظهم من غفلتهم , وتعريفهم ما هم عليه وما ينبغي عليهم , ومن هو المتحكّم في مقدّساتهم , ومن ينبغي أن يكون إمامهم .
صحيحٌ أنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) أطلقها كلمات وعباراتٍ وجملاً في وجه معاوية وأزلامه , إلاّ أنّه ثبّت الموقف الشرعيّ , ووصم أهل العار بعارهم , وأطلق كلمة الحقّ في وجه السلطان الشرِّير , وكلمة العدل في وجه السلطان الظالم , وهذا يحتاج إلى‏ شجاعة يفتقدها الناس ؛ ولذا ورد عن رسول الله
(صلّى‏ الله عليه وآله) أنّه قال : (( ألا لا يمنعنَّ رجلاً مهابةُ الناس أن يتكلّم بالحقّ إذا علمه . ألاَ إنَّ أفضل الجهاد كلمةُ حقٍ‏ّ عند سلطانٍ جائر ))(166) .
وفي بيان فضيلة ذلك وردت الروايات الوفيرة , منها قوله (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( أحبُّ الجهاد إلى‏ الله كلمة حقٍّ تُقال لإمامٍ جائر ))(167) .
وقوله (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند إمام جائر . أفضل الجهاد كلمة حكم عند إمامٍ جائر ))(168) .
وعن أبي أمامة قال : عرض لرسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) رجلٌ عند الجمرة الاُولى , فقال : يا رسول الله , أيُّ الجهاد أفضل ؟ فسكت عنه , فلمّا رمى‏ الجمرة الثانية سأله , فسكت عنه , فلّما رمى‏ جمرة العقبة وضع رِجله في الغرز ليركب , قال : (( أين السائل ؟ )) .
قال : أنا يا رسول الله .
قال : (( كلمة حقٍّ تُقال عند ذي سلطانٍ جائر ))(169) .
بعد هذا لا ندري لماذا يُلام مَن قال كلمة الحقّ , وكلمة العدل , وكلمة الحكم عند أئمّة الجور من آل اُميّة ؟! ألأِنّه عرَّض نفسه للقتل دون دين الله , ودفاعاً عن حُرَم الله في حين يروي من يلوم أنَّ المقتول في هذا السبيل هو ليس شهيداً فحسب , بل هو سيّد الشهداء ؟! قال النبيُّ الأعظم (صلّى‏ الله عليه وآله) كما يُروى‏ : (( سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب , ورجلٌ قام إلى‏ إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه , فقتله ))(170)‏ .
فالدم مطلوب في بعض المواقف , والشهادة ضرورة في بعض الحالات , ومنها إذا توقّف عليهما حفظ الدين , وفضح المشوّهين له , وإيقاظ الاُمّة من نسيان التكاليف .
قال الشيخ جعفر التستري (رضوان الله عليه): ... أمّا التكليف الواقعيّ الذي دعا الإمامَ الحسين (عليه السّلام) إلى‏ الإقدام على الموت والقتل , وتعريض عياله للأسر , وأطفاله للذبح مع علمه بذلك , فالوجه فيه : أنَّ عتاة بني اُميّة ـ خصوصاً معاوية ـ قد اُشرب الناسُ حبَّهم , بحيث اعتقدوا فيهم أنّهم على الحقّ , وأنَّ عليَّاً وأولاده وشيعتهم على الباطل , حتّى‏ جعلوا سبَّ عليٍّ (عليه السّلام) مِن أجزاء صلاة الجمعة . وبلغ الأمر في ذلك أنّ بعض أتباعهم نسي السبّ في صلاة الجمعة حين خطبته , وسافر وذكره وهو في البرّيّة , قضاه في محلّ تذكّره , فبنوا هناك مسجداً سمَّوه (مسجد الذِّكْر) ؛ تأكيداً لهذا الأمر !
فلو كان الحسين (عليه السّلام) يبايعهم تقيّةً ويسلّم لهم , لم يبق من الحقّ أثر ؛ فإنَّ كثيراً من الناس اعتقدوا أنّه لا مخالف لهم ـ أي لبني اُميّة ـ في جميع الاُمّة , وأنّهم خلفاء النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) حقّاً . فبعد أن حاربهم الحسين (عليه السّلام) , وصدر ما صدر إلى‏ نفسه وعياله وأطفاله وحرم الرسول (صلّى‏ الله عليه وآله) تنبّه الناس لضلالتهم ـ أي ضلالة حكّام بني اُميّة ـ أنّهم سلاطين الجور , لا حجج الله وخلفاء النبيّ (صلّى ‏الله عليه وآله)(171) .
فالحسين (عليه السّلام) بكلماته نبّه العقول , وبدمائه نبّه القلوب , وبمواقفه كشف الحقائق , ورسم للاُمّة طريق الجهاد والعزّة والكرامة .
وكان من مواقفه (صلوات الله عليه) أن رفض هدايا معاوية ـ كما أسلفنا(172) ـ فسجّل أكثر من علامة , منها : إباء نفسه الشريفة وزهده عن‏ أطماع الدنيا , ومنها : فضحه لمعاوية الذي كان يرجو بهداياه التي سرقها من بيت مال المسلمين أن يشتري من أهل البيت (عليهم السّلام) ـ وأنّى له ذلك ـ موقف الرضا‏ عنه , وتركه وشأنه يتّخذ عباد الله خولاً , وأموالهم دولاً , وموقف الاعتراف والإقرار بشرعيّة سلطانه , أو على أقلّ الفروض كان ينتظر أن يتوهّم الناس أنَّ الحسين (عليه السّلام) لا يخالف معاوية في شي‏ء , وأنّه على حسن صلةٍ به إذا قبِل هداياه .
ولكنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) خيّب كلَّ الآمال الشيطانيّة والنوايا الخبيثة التي طال انتظارها في قلب معاوية , وأثبت للناس أنَّ الخلافة مسروقةٌ مغتصَبة , وأنَّ الولاة سرّاقٌ منحرفون لا دين لهم ؛ وذلك من خلال مواقف حازمة وبياناتٍ مقنعة .
يذكر ابن شهر آشوب في كتابه القيِّم (مناقب آل أبي طالب)(173) جملةً من المواقف الشجاعة للإمام الحسين (عليه السّلام) , فيقول : ومن شجاعته (عليه السّلام) أنّه كان بين الحسين (عليه السّلام) وبين الوليد بن عقبة منازعةٌ في ضيعة , فتناول الحسين (عليه السّلام) عمامة الوليد عن رأسه وشدّها في عنقه , وهو يومئذٍ والٍ على المدينة , فقال مروان : بالله ما رأيت كاليوم جرأةَ رجلٍ على‏ أميره !
فقال الوليد : والله , ما قلتَ هذا غضباً لي , وإنّما كانت الضيعة له .
فقال الحسين : (( الضيعة لك يا وليد )) . وقام .
وفي خصوص بيعة يزيد كان للحسين (عليه السّلام) أكثر من موقف شجاع كشف به الحقيقة المُرّة , وهو تسلّط رجلٍ مثل يزيد على اُمّةٍ لا تقوى على أن تقول : لا , لكنَّ الحسين (سلام الله عليه) ثبّت موقف الرفض لحاكمٍ فاسد حينما واجه والي المدينة بحزمٍ وقاطعيّة .
روى الطبريّ(174) في بيان ذلك فقال : بويع ليزيد بن معاوية بالخلافة بعد وفاة أبيه في رجب سنة ستّين , وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان , ولم ‏يكن ليزيد همّة حينَ ولّي إلاّ بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى‏ بيعة يزيد حين دعا الناسَ إلى‏ بيعته , وأنّه وليُّ عهده بعده , والفراغ من أمرهم .
فكتب إلى‏ الوليد يخبره بموت معاوية , وكتب إليه في صحيفةٍ كأنّها اُذُن فأرة : أمّا بعد , فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى‏ يبايعوا . والسلام .
فأشار عليه مروان أن يبعث إليهم في تلك الساعة يدعوهم إلى‏ البيعة والدخول في الطاعة , فإن فعلوا قبِل منهم وكفَّ عنهم , وإن أبوا قدّمهم فضرب أعناقهم ؛ فإنّهم إن علموا بموت معاوية وثب كلٌّ منهم في جانب , وأظهر الخلاف والمنابذة , ودعا إلى‏ نفسه .
فأرسل عبد الله ‏بن عمرِو بن عثمان إلى‏ الحسين وابن الزبير يدعوهما , فوجدهما في المسجد فدعاهما في ساعةٍ لم يكن الوليد يجلس فيها للناس , فقالا : انصرف , الآن نأتيه . فقال حسين لابن الزبير : (( أرى طاغيتهم قد هلك , فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشَو في الناس الخبر )) .
فقال : وأنا ما أظنُّ غيره .
فقام الحسين وجمع إليه مواليه وأهل بيته وسار إلى‏ باب الوليد , وقال لهم : (( إنّي داخل , فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا علَيّ , وإلاّ فلا تبرحوا حتّى‏ أخرج إليكم )) .
فدخل على الوليد , ومروان جالسٌ عنده , فأقرأه الوليد الكتابَ ودعاه إلى‏ البيعة , فقال الحسين : (( إنَّ مثلي لا يعطي بيعةً سرّاً , ولا أراك تجتزئ بها(175) مني سرّاً دون أن تظهرها على رؤوس الناس علانية )) .
قال : أجل .
قال : (( فإن خرجتَ إلى‏ الناس فدعوتَهم إلى‏ البيعة دعوتَنا مع الناس فكان أمراً واحد )) .
فقال له الوليد ـ وكان يحبّ العافية(176) ـ : انصرفْ على اسم الله .
فقال له‏ مروان : والله , لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها حتّى‏ تكثر القتلى‏ بينكم وبينه . احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتّى‏ يبايع أو تضرب عنقه .
فوثب عند ذلك الحسين فقال : (( يابن الزرقاء(177) ! أنت تقتلني أم هو ؟ كذبتَ والله وأثمت )) .
وفي تاريخ ابن أعثم , ومقتل الخوارزمي , ومثير الأحزان / 15 ـ 14 , واللهوف ـ واللفظ لابن طاووس ـ : كتب يزيد إلى‏ الوليد يأمره أن يأخذ البيعة على أهلها عامّة , وخاصّةً على‏ الحسين (عليه السّلام) , ويقول له : إنْ أبى‏ عليك فاضرب عنقه ...
ثمّ أوردوا الخبر نظير ما ذكره الطبريّ , إلى‏ قولهما ( أي مروان والحسين (عليه السّلام) ) , فأضاف : فغضب الحسين وقال : (( ويلي عليك يابن الزرقاء ! أنت تأمر بضرب عنقي ؟! كذبتَ ولؤمت . نحن أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة , ويزيد فاسقٌ , شارب الخمر , وقاتل النفس , ومثْلي لا يبايع مثلَه )) .
وفي الكامل من التاريخ ـ لابن الأثير 3 / 262 أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قال للوليد بن عتبة : (( إنّا أهل بيت النبوّة , ومعدن الرسالة , ومختلف الملائكة , بنا فتح الله وبنا يختم , ويزيد رجلٌ شارب الخمر , وقاتل النفس المحترمة , معلنٌ بالفسق , ومثلي لا يبايع مثله , ولكن نصبح وتصبحون , وننظر وتنظرون أيّنا أحقُّ بالخلافة والبيعة )) .
 وفي الإرشاد ـ للشيخ المفيد / 183 : ثمّ أغلظ الإمام الحسين (عليه السّلام) القول لمروان وأنذره , فوقعت مشادّةٌ كلاميّةٌ بين الجانبين انتهت بهجوم أصحاب الحسين (عليه السّلام) إلى‏ داخل الدار , واصطحابهم إيّاه راجعين به إلى‏ داره .
وقال ابن نما في (مثير الأحزان / 14) , والخوارزميّ في المقتل , وابن أعثم في فتوحه : فلمّا أصبح الحسين لقيه مروان , فقال : أطعْني ترشد .
قال : (( قل )) .
قال مروان : بايع أمير المؤمنين يزيد ؛ فهو خيرٌ لك في الدارين .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( إنّا لله وإنا إليه راجعون , وعلى‏ الإسلام السّلام إذ قد بُليت الاُمّةُ براعٍ مثل يزيد )) .
وأضاف ابن طاووس في اللهوف أنَّ الحسين (عليه السّلام) قال لمروان أيضاً : (( ولقد سمعت جدّي رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) يقول : الخلافة محرّمةٌ على‏ آل أبي سفيان , فإذا رأيتُم معاويةَ على‏ منبري فابقروا بطنه . وقد رآه أهل المدينة فلم يبقروا , فابتلاهم الله بيزيد الفاسق ))(178) .
وفي الأمالي / 92 : قال الحسين (عليه السّلام)(179) : (( قد علمتَ أنّا أهل‏ بيت الكرامة , ومعدن الرسالة , وأعلام الحقِّ الذين أودعه الله (عزّ وجلّ) قلوبنا , وأنطق به ألسنتنا فنطقت بأذن الله (عزّ وجلّ) . ولقد سمعت جدّي رسول‏ الله يقول : إنَّ الخلافة محرّمةٌ على‏ ولْد أبي سفيان . وكيف اُبايع أهل بيتٍ قد قال فيهم رسول ‏الله (صلّى‏ الله عليه وآله) هذا ؟! )) .
وقد جرت محاولاتٌ كثيرةٌ لحمل الحسين (عليه السّلام) للعدول عن موقفه الحازم فأبى‏ , وجابه تلك المحاولات بشجاعةٍ أفصحت عن موقفٍ كاشف , من ذلك أنَّ قيس بن الأشعث ـ وهو أحد شانئيه ـ طلب منه أن يبايع يزيد , فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( لا والله , لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل , ولا أفرّ فرار العبيد ))(180) .
وثبّتت الشجاعةُ الحسينيّة موقفاً صغر عنه الكثير حتّى‏ مَن رفض بيعة يزيد , فسرعان ما انزووا أو بايعوا بدعوى‏ نحن مع الأقوى‏ . وقد رضي البعض بالمناصب , وبعضهم بالهدايا والأموال , وحتّى‏ من بقي منهم فإنّه بقي على‏ هامش الأحداث ولبني اُميّة طمعٌ فيه وأمل , إلاّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) , فقد زرع اليأس في قلوب الأعداء , وجرى ذلك اعترافاً على‏ ألسنتهم .
وحديث (عقبة بن سمعان) يفسِّر حال الحسين (عليه السّلام) , حيث قال : صحبت الحسين من المدينة إلى‏ مكّة , ومنها إلى‏ العراق , ولم اُفارقه حتّى‏ قُتل , وقد سمعت جميع كلامه , فما سمعت منه ما يتذاكر فيه الناس من أن يضع يده في يد يزيد , ولا أن يسيّره إلى‏ ثغرٍ من الثغور , لا في المدينة , ولا في مكّة , ولا في الطريق , ولا في العراق , ولا في عسكره إلى‏ حين قتله(181) .
وكتب عبيد الله بن زياد كتاباً ـ بتأثيرٍ من الشمر ـ إلى‏ ابن سعد : أمّا بعد , إنّي لم ‏أبعثك إلى‏ الحسين لتكفَّ عنه , ولا لتطاوله , ولا لتمنّيه السلامة , ولا لتكون له عندي شفيعاً . انظر , فإنْ نزل حسين وأصحابه على‏ حكمي فابعث بهم إليَّ سلماً , وإن أبوا فازحف إليهم حتّى‏ تقتلهم وتمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مستحقّون .
فإن قُتل حسينٌ فأوطئ الخيلَ صدرَه وظهره , ولستُ أرى أنّه يضرّ بعد الموت , ولكن على‏ قولٍ قلتُه : لو قتلتُه لفعلتُ هذا به . فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع , وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا , وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ؛ فإنّا قد أمرناه بذلك(182) .
فلمّا جاء الشمر بالكتاب قال له ابن سعد : ويلك ! لا قرّبَ الله دارك , وقبّح الله ما جئتَ به , وإنّي لأظنّ أنّك الذي نهيته , وأفسدت علينا أمراً رجونا أن يصلح . والله لا يستسلم حسين ؛ فإنّ نفس أبيه بين جنَبيه(183) .
 * الإباء السامق : الشجاعة ـ كما قدّمنا ـ ليست مجرّد إقدام على‏ الخصم وإهواء السيف على رأسه , إنّما الشجاعة الحقّة ما كانت جهاداً في سبيل الله , وتحقيقاً لطاعة الله , وإقداماً على هدىً من الله , ودفعاً لأعداء الله , وتحصيناً لدين الله , وحمايةً لعباد الله .
وإلى‏ ذلك كلّه لا بدّ للشجاعة الحقيقيّة أن تعبّر عن العزّة والكرامة والإباء , وعن الشهامة والمروءة والترفّع عن حبّ الدنيا وأطماعها ؛ فإنَّ الشجاعة مجرّدةً عن ذلك تكون تهوّراً وحبّاً للانتقام , وطلباً للسمعة , ووقوعاً في معصية الله , وسقوطاً في شراك الشيطان .
فقد يظنّ القاتل أنّه شجاع , فإذا تأمّل وجد أنّه قاتلٌ للنفس المحترمة , ومن جهةٍ اُخرى أنّه عبدٌ لنزواته , ومن جهةٍ ثالثة أنّه ذليلٌ بطاعته للشيطان وهوى‏ النفس , وإقدامه على‏ القتال طمعاً في دنيا , ورغبةً في شهرة , فلم تكن شجاعته لله , ولا في سبيل الله .
بينما الشجاعة في الدين عزّة , يقول أمير المؤمنين عليّ (صلوات الله عليه) : (( الشجاعة عِزٌّ حاضر . الشجاعة أحد العزَّين ))(184) .
وكيف تكون الشجاعة عزّاً إذا لم تكن رفضاً للظلم , وترفّعاً عن الطمع , وإباءً ونخوةً وغَيرةً على‏ الإسلام ! يقول الإمام عليّ (سلام الله عليه) : (( جُبلت الشجاعة على‏ ثلاث طباع , لكلّ واحدةٍ منهنّ فضيلة ليست للاُخرى‏ ؛ السخاء بالنفس , والأنفة من الذُّلِّ , وطلب الذِكْر . فإن تكاملت في الشجاع كان البطل الذي لا يُقام سبيله , والموسوم بالإقدام في عصره ,وإن تفاضلت فيه بعضها على‏ بعض كانت شجاعته في ذلك الذي تفاضلت فيه أكثر وأشدَّ إقداماً ))(185).
فقد يُراد من المؤمن أن يرضى‏ بالضيم , ويقعد على‏ بساط الذُّلّ , وأن يسكت مع الإهانة والهوان , ويحجم عن الدفاع عن دينه وعرضه , ويوسم بالذكر السيّئ فلا يعرب عن رفض , ولا يبدو منه ردّ أو نخوة .
هكذا يراد منه أحياناً لكنَّ الإباء يمنعه أن يرضى‏ , والحميّة تنكر عليه أن يسكت ؛ فينتفض شجاعاً لا يقبل بشي‏ءٍ دون عزّته , وهنا تكون شجاعته على‏ قدر ما رُزق من شرف الإباء .
جاء في غرر الحكم لأمير المؤمنين (سلام الله عليه) أنّه قال : (( شجاعة الرجل على‏ قدْر همّته , وغيرتُه على‏ قدْر حمّيته )) . وفي حديثٍ آخر قال (عليه السّلام) : (( على‏ قدْر الحميّة تكون الشجاعة )) .
والشجاعة الحسينيّة أثبتت أنّها تحمل الإباء بأشرف منازله , والحميّة بأعزّ حالاتها , والكرامة بأعلى‏ درجاتها , فهي أسمى‏ من المداهنات , وأرفع من التنازلات , وأبعد ما تكون عن الإغراءات .
وقد كانت للإمام الحسين (صلوات الله عليه) مواقف وعبارات أفصحت عن إبائه , فيئست منه قلوب الطامعين , وحقدت عليه نفوس المخاصمين . وقد سُمع (سلام‏ الله عليه) ورئي أنّه إلى‏ الموت أقرب منه إلى‏ بيعة الظالمين , وأنّه في طلب الشهادة لا في طلب الدنيا .
وكانت كلماته (عليه السّلام) كمواقفه ليس‏ فيها أيُّ مبالغة , أثبت ذلك في كلّ واقعة ؛ فالإمام الحسين (عليه السّلام) هو الذي رفض هدايا معاوية وردَّها عليه , وهو الذي قال : (( الناس عبيد الدنيا , والدين لعقٌ على ألسنتهم , يحوطونه ما درّت معايشهم , فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون ))(186) .
وهو الذي رفض بيعة يزيد , وأجاب عمر الأطراف عندما اقترح عليه الصلح مع الطاغية يزيد بقوله : (( حدّثني أبي أنَّ رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) أخبره بقتله وقتلي , وأنَّ تربته تكون بالقرب من تربتي . أتظنٌّ أنَّك علمت ما لم‏ أعلمه ؟ والله لا أعطي الدنيّة من نفسي أبداً ... ))(187) .
قال (عليه السّلام) ذلك وثبت عنده , وضاقت عليه الأرض ولم ير إلاّ عند كلمته : (( لو لم يكن ملجأ لما بايعت يزيد )) .
 قال التستريّ (رضوان الله عليه) : ومنها ـ أي من خصائصه (عليه السلام) ـ إباء الضيم , فله نحوٌ خاصٌّ به . قال (عليه السّلام) لمّا أرادوا منه النزول على‏ حكم يزيد وابن زياد : (( لا والله , لا اُعطي بيدي إعطاء الذليل , ولا أقرّ إقرار العبيد )) . بل يقال : إنّه سنَّ إباء الضيم , وإنَّ أباة الضيم يتأسَّون به(188) .
والحسين (عليه السّلام) هو الذي قالها قاطعةً حازمة , صادقةً جازمة : (( موتٌ في عزٍّ خيرٌ من حياةٍ في ذلّ ))(189) .
وحين قُدِّمت له الحياة المنعّمة في ذلٍّ أباها ورفضها , واختار الموت في عزٍّ . اختار الموت , ولكن أيّ موت ؟! إنّه الموت الصعب , الموت المتعدّد ؛ حيث رأت عيناه الكريمتان أبناءَه يُقتَّلون , ويقطّعون بالسيوف , ويُطعنون بالرماح , ونظر إلى إخوته وأبناء إخوته وأبناء عمومته , وإلى‏ الخلّص من أصحابه يقعون على‏ الأرض مضرَّجين بدمائهم على رمال كربلاء , وطالما التفتتْ مقلتاه الشريفتان إلى‏ الخيم وهو يرى ببصيرته أنَّ مَن فيها من النساء سيترمّلن , ومن الأطفال سيُؤتمون , وأنَّ في انتظارهم فجائع ونكبات , فيتألّم لذلك قلبه الرؤوف , ولكن كلُّ ذلك لا بدّ منه إذا كان الدين في خطر , والحياة في ذلّ .
التفتَ إلى‏ أصحابه في مسيرة الشهادة , واستوقف الضمائر والقلوب فخاطبها قائلاً : (( إنَّ الدنيا تغيّرت وتنكّرت , وأدبر معروفها واستمْرَت , ولم يبق منها إلاّ صبابةٌ كصبابة الإناء , وخسيس عيشٍ كالمرعى‏ الوبيل . ألاَ تَرون إلى‏ الحقّ لا يُعمل به , وإلى‏ الباطل لا يُتناهى عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة , والحياة مع الظالمين إلاّ برماً ... ))(190) .
وهذا منطق الشجاع الأبيّ الذي لا يخاف من الموت , بل يرغب فيه حيث سعادته ؛ لأنَّ قباله الحياة مع الظالمين , وهي برمٌ ـ أي سأمٌ وضجرٌ لأبيّ الضيم وعزيز النفس ـ , والموت هنا سعادة يرغب فيها الشريف الشهم فضلاً عن عدم‏ خوفه منه .
وفي الطريق إلى‏ كربلاء قال الحرُّ بن يزيد للإمام الحسين (عليه السّلام) : إنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتلَنّ .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أفبالموت تخوّفني ؟! وهل يغدو بكم الخطْب أن تقتلوني ؟! وسأقول ما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول‏ الله (صلّى‏ الله عليه وآله) , فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب فإنّك مقتول ؟ فقال :

سأمضي وما بالموت عارٌ على‏ الفتى‏    إذا ما نوى‏ حقّاً وجاهد مسلما
وواسى‏ الرجالَ الصالحين بنفسهِ‏    وفارق مثبوراً وخالف مُجرما
اُقدِّم نفسي لا اُريد بقاءه    لتلقى‏ خميساً في الهياجِ عرمرما
فإن عشتُ لم أندم وإن متُّ لم اُلَم‏    كفى‏ بك ذُلاّ أن تعيش وتُرغما ))(191)

وروي أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان كثيراً ما ينشد تلك الأبيات حتّى‏ زعم الرواة أنّها ممّا أمْلتْه نفسه المقدّسة , وهي :

 لئن كانت الأفعالُ يوماً لأهله    كمالاً فحسن الخُلْقِ أبهى وأكملُ‏
 وإن تكن الدنيا تُعَدّ نفيسةً    فدار ثواب الله أعلى وأنبلُ‏
 وإن تكن الأموالُ للترك جمعه    فما بالُ متروكٍ به الحرُّ يبخلُ‏
 وإن تكن الأرزاقُ قسْماً مقدَّر    فقلّة حرص المرء في الكسب أجملُ‏
 وإن تكن الأبدانُ للموت اُنشِئت‏    فقتلُ أمرئٍ بالسيف في الله أفضلُ‏
 سأمضي وما بالقتل عارٌ على‏ الفتى‏    إذا في سبيل الله يمضي ويُقتَلُ(192)‏

فالأبيّ حينما يتزاحم الذلُّ مع الموت يختار الموت , وحينما يُخيَّر بين العار والقتل يختار القتل , وحينما يدور المدار بين الدنيا الآثمة ودخول المعركة القاتلة فإنّه يخطو بشوق إلى‏ القتال والموت المحتّم ؛ حيث يرى فيه حياته , ويرى في الحياة الخانعة الموتَ الحقيقيّ .
وهكذا كان رجل الإباء , سيّد الشهداء , الحسين ‏بن عليّ (صلوات الله عليه) , حتّى‏ عبّر عن ذلك ابن نباتة فقال : الحسين الذي رأى‏ القتلَ في العزّ حياةً والعيش في الذلّ قتلاً(193) .
لقد كان الإباء ينطلق من لسان الإمام الحسين (عليه السّلام) قولاً صادقاً حتّى‏ تمثّل في كربلاء بأجلى‏ صورهِ مواقفَ شامخة , فوقف على‏ أرض الطفّ وقال في شجاعة الرجل الأبيّ : (( ألا إنَّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة , وهيهات منّا الذلّة ! يأبى‏ الله لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون , وحجورٌ طابت وطهرت , واُنوفٌ حميّة , ونفوسٌ أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على‏ مصارع الكرام ))(194) .
وقد ترجم الإمام الحسين (سلام الله عليه) كلَّ كلمة من هذه‏ الكلمات إلى‏ جميع لغات العزّة والكرامة , والإباء والشهامة , والرفعة والشرف المؤبّد , فكان أن وقف على‏ أرض الطفّ وحيداً بعد مقتل أخيه العبّاس (عليه السّلام) , وأمامه ثلاثون ألف مقاتل , فلم يَروه يهتزّ هيبةً منهم , ولم يجدوا فيه رغبةً في استسلام , بل وقفوا يتأمّلون فيه ماذا هو صانعٌ بنفسه , فإذا الحسين (عليه السّلام) يطلب ثوباً لا يرغب فيه أحد يضعه تحت ثيابه لئلاّ يُجرَّد منه ؛ فإنّه مقتولٌ مسلوب .
فأتوه بتبّان , فلم يرغب فيه ؛ لأنّه من لباس الذلّة(195) , وأخذ ثوباً وخرّقه وجعله تحت ثيابه(196) , ودعا بسراويل حبرة ففزرها ولبسها لئلاّ يُسلبَها(197) . ثمّ تقدّم نحو القوم مصلتاً سيفاً , ودعا الناس إلى‏ البراز , فلم يزل‏ يقتل كلَّ من برز إليه حتّى‏ قتل جمعاً كثيراً(198) .
قال الأربليّ(199) : وشجاعة الحسين (عليه السّلام) يُضرب بها المثل‏ , وصبره في مأقط الحراب (أي مضيقه) أعجَزَ الأواخر والاُوَل , وثباته إذا دعيت نزال ثبات الجبل , وإقدامه إذا ضاق المجال إقدام الأجل , ومقامه في مقابلة هؤلاء الفجرة عادَلَ مقامَ جدّه (صلّى‏ الله عليه وآله) ببدرٍ فاعتدل , وصبره على‏ كثرة أعدائه وقلّة أنصاره صبرُ أبيه (عليه السّلام) في صفّين والجمل , ومشرب العداوة واحد , فبفعل الأوّل فعل الآخر ما فعل . فكم من فارسٍ مدلّ ببأسه جدَّله (عليه السّلام) فانجدل , وكم من بطلٍ طلّ دمه فبطل , وكم حكّم سيفه فحكم في الهوادي والقلل , فما لاقى‏ شجاعاً إلاّ وكان لاُمّه الهبل .
ولمّا اشتدّ به العطش , وأعياه الكرُّ والفرّ على‏ جموع المبارزين , هجموا عليه غدراً بالحجارة , ورمياً من بعيد بالسهم ؛جُبناً منهم أن يبارزه الرجل بعد الرجل.
ثمّ أصابته صدمات فضعف عن الجلوس , وجعل يقوم مرّةً ويسقط اُخرى‏ , كلُّ ذلك لئلاّ يروه مطروحاً فيشمتون(120) .
فجمع (سلام الله عليه) إلى‏ الشجاعة إباءً وعزّة , وإلى‏ رفض الباطل محاربةً له , وإلى‏ إنكار المنكر ترفّعاً عنه , فكان كريمَ النفس , مضى‏ هكذا وختم حياته أشرف خاتمة , ولم ينل منه العدوّ موقف ضعفٍ أو ذلّة , فأصبح النبراس الوهّاج في سماءٍ التضحية والشجاعة , والفداء والإباء .
قال الاُستاذ عبد الحفيظ أبو السعود في الإمام الحسين (عليه السّلام) : عنوان النضال الحرّ , والجهاد المستميت , والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة , وعدم ‏الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين(121) .
وقال الاُستاذ محمّد الباقر : إنَّ سيرة البطل الشهيد الإمام الحسين بن عليّ جديرةٌ بأن ينقشها العرب جميعاً على‏ تنوّع ميولهم ومذاهبهم في أمواق أفئدتهم ؛ ذلك لأنَّ هذه السيرة إنّما هي سيرة التضحية والعقيدة , سيرة العزّة والكرامة(122) .

رامت اُميّة أن يبايعَ خاضع    وأبى الكريمُ بأن يذلَّ ويخضعا

وأختمُ موضوع (الشجاعة الحسينيّة) بقصيدة الحاجّ عبد الحسين الاُزريّ البغداديّ (رحمه الله ورضي عنه) , حيث قال ونعم ما قال :

 عش في زمانِك ما استطعت نبيل    واترك حديثك للرواة جميلا
 ولعزِّك استرخصْ حياتَك إنّه‏    أغلى‏ وإلاّ غادرتْك ذليلا
 فالعزُّ مقياس الحياة وضلَّ مَن‏    قد عدّ مقياسَ الحياة الطُّولا
 قُل كيف عاش ولا تقلْ كم عاش مَن‏    جعلَ الحياةَ إلى‏ عُلاه سبيلا
 لا غروَ إن طوتِ المنيّةُ ماجد    كثرت محاسنُه وعاش قليلا
ما كان للأحرار إلاّ قدوة    بطلٌ توسّد في الطفوف قتيلا
 بعثته أسفارُ الحقائق آيةً    لا تقبل التفسيرَ والتأويلا
 لا زال يقرأها الزمان معظِّم    في شأنها ويزيدها ترتيلا
 يَدْوي صداها في المسامع زاجر    من علَّ ضيماً واستكان خمولا
 أفديك معتصماً بسيفك لم تجْد    إلاّه في حفظِ الذِمارِ كفيلا
 خَشِيَتْ اُميّةُ أن تُزعزع عرشَه    والعرشُ لولاك استقامَ طويلا
 مِن أين تأمن منك أرؤسُ معشرٍ    حسِبتْك سيفاً فوقَها مسلولا
 طبعتْك أهدافُ النبيّ وذرّبت‏    يدُها شباتَك وانتضتْك صقيلا
 فإذا خطبتَ رأوك عنه معبِّر    وإذا انتميتَ رأوك منه سليلا
 أو قمت عن بيتِ النبوّة معرِب    وجدوا به لك منشأً ومقيلا
 قطعوا الطريق لذا عليك وألَّبُو    مِن كلّ فجٍّ عصبةً وقبيلا
وهناك آل الأمرُ إمّا سلّةٌ    أو ذلّةٌ فأبيت إلاّ الاُولى‏
 ومشيت مشيةَ مطمئنٍّ حينم    أزمعتَ عن هذي الحياة رحيلا
 تستقبل البيض الصفاحَ كأنّه    وفدٌ يؤمّل من نداك منيلا
 فكأنَّ موقفَك الأبيَّ رسالةٌ    وبها كأنّك قد بُعثت رسولا
 نَهجَ الاُباةُ على‏ هداك ولم تزل‏    لهمُ مثالاً في الحياة نبيلا
 وتعشّق الأحرارُ سُنَّتك التي‏    لم تُبقِ عذراً للشجى‏ مقبولا
 قتلوك للدنيا ولكنْ لم تدم‏    لبني اُميّةَ بعد قتلِك جيلا
 ولرُبَّ نصرٍ عاد شرَّ هزيمةٍ    تركتْ بيوتَ الظالمين طُلولا
 حملت بصفّين الكتابَ رماحُهم‏    ليكون رأسُك بعدَه محمولا
 يدعون باسم (محمّد) وبكربل    دمُه غدا بسيوفهم مطلولا
 لو لم تبت لنصالهم نهباً لما اج    ـترأ الوليدُ فمزّق التنزيلا
تمضي الدهورُ ولا ترى إلاّك في‏ ال    ـدنيا شهيدَ المكرمات جليلا
 فكفاك تعظيماً لشأوِك موقفٌ‏    أمسى‏ عليك مدى‏ الحياة دليلا
 بسمائك الشعراءُ مهما حلّقو    لم يبلغوا من ألفِ ميلٍ ميلا(123)






__________
(1) جامع السعادات 1 / 206 .
(2) جامع السعادات 1 / 207 .
(3) سورة الفتح / 29 .
(4) سورة التوبة / 73 .
(5) جامع السعادات 1 / 208 .
(6) صفات الشيعة ـ للشيخ الصدوق / 179 . و (( لم يتغيّر قلبه )) : أي عقائده التي في قلبه .
(7) تنبيه الخواطر / 364 .
(8) الدرّة الباهرة / 43 .
(9) غرر الحكم / 42 ـ 43 .
(10) غرر الحكم / 39 , وفي نسخة : وقبيلةٌ ظاهرة .
(11) مكارم الأخلاق ـ للشيخ رضيّ الدين أبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسيّ / 19 .
(12) مكارم الأخلاق / 18 .
(13) تحف العقول / 362 .
(14) الخصائص الحسينيّة / 21 .
(15) الخصال / 77 ح122 . والسُؤد : السيادة والشرافة . وقد روى نحو ذلك الطبرانيّ في الأوسط , وفيه مكان جرأتي (حزامتي) . وأورده العسقلانيّ في تهذيب التهذيب .
(16) الخصال / 77 ح123 .
(17) المأقط : موضع القتال , وقيل : المضيق في الحرب ؛ لأنّهم يختلطون فيه . جمعه مآقط .
(18) كشف الغمة 2 / 180 .
(19) سبطا رسول اللّه الحسن والحسين (عليهم السّلام) / 188 .
(20) بصائر الدرجات / 4 .
(21) تحف العقول / 175 .
(22) حديث مشهور بين المسلمين على سبيل المثال , يراجع كنز العمّال ـ الخبر 7272 , وبحار الأنوار 70 / 211 ح 35 , عن غوالي اللآلي , وصحيح البخاريّ ـ كتاب الإيمان / 23 .
(23) كامل الزيارات ـ لابن قولويه / 75 .
(24) اللهوف / 53 .
(25) مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزميّ 1 / 186 .
(26) مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزميّ 1 / 188 .
(27) صحيح الترمذيّ 2 / 306 , ومسند ابن حنبل 3 / 62 , وحلية الأولياء 5 / 71 , وتاريخ بغداد للخطيب البغداديّ / 331 .
(28) الإتحاف بحبّ الأشراف / 129 .
(29) منهاج السنّة 4 / 210 .
(30) اُصول الكافي 1 / 156 , باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ـ الحديث الأوّل .
(31) سورة الإسراء / 60 .
(32) تفسير الدرّ المنثور ـ سورة الإسراء / 60 .
(33) ج3 / 49 .
(34) في ظلّ الآية 60 من سورة الإسراء .
(35) هامش تفسير الطبريّ 15 / 55 .
(36) ج 16 / 16 , الطبعة الحديثة , عن شرح المختار الثلاثين من الباب الثاني .
(37) هكذا في الأصل , و لعلّه : أولى .
(38) في تفسيره (روح البيان) 15 / 100 في ظلّ الآية (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً)(الإسراء / 60) . وهو من مفسّري وعلماء أهل السنّة .
(39) وهو من علماء السنّة المعروفين .
(40) ج 1 / 252 .
(41) تاريخ بغداد 13 / 186 .
(42) أحكام القرآن ـ للجصّاص 1 / 309 في ظلّ آية التهلكة .
(43) وهو من علماء أهل السنة .
(44) أي صحيحي مسلم والبخاريّ 4 / 480 .
(45) ج 4 / 487 .
(46) وأخرح أبو نعيم الأصبهانيّ في حلية الأولياء 6 / 293 عن عمران بن حصين قال : توفّي رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) وهو يبغض ثلاث قبائل ؛ بني حنيفة , وبني مخزوم , وبني اُميّة .
(47) الإصابة في معرفة الصحابة 4 / 274 .
(48) ج 9 / 405 .
(49) مثله في تاريخ الطبريّ 11 / 357 .
(50) وهو من علماء أهل السنّة .
(51) يراجع : المنتظم ـ لابن الجوزيّ 4 / 7 , معاني الأخبار / 364 , الاحتجاج / 275 .
(52) اُسد الغابة 4 / 387 , ورواه ابن سعد في طبقاته 3 / 248 ـ القسم الأوّل .
(53) الاستيعاب 2 / 402 , وذكره ابن الأثير في اُسْد الغابة 3 / 318 باختلاف يسير .
(54) يراجع (مقالات الإسلاميّين) للأشعريّ / 141 .
(55) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 6 / 15 .
(56) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 2 / 86 .
(57) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 11 / 45 .
(58) أخرج ابن عبد ربّه في العقد الفريد 2 / 301 , قال : إنّ معاوية لعن عليّاً على‏ المنبر , وكتب إلى‏ عمّاله أن يلعنوه على‏ المنابر ففعلوا , فكتبت اُمُّ سلمة زوج النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) إلى‏ معاوية : إنّكم تلعنون الله ورسوله على‏ منابركم ؛ وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومَن أحبّه , وأنا أشهد أنّ الله أحبه ورسوله . فلم يلتفت معاوية إلى‏ كلامها .
(59) العقد الفريد 2 / 297 , والموفقيّات / 576 , طبع وزارة الأوقاف ببغداد سنة 1392 هـ , ومروج الذهب ـ للمسعودي 2 / 341 . ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة كتاب (الغدير) للعلاّمة الأمينيّ ـ الجزء العاشر .
(60) ذكر بعضها اليعقوبيّ في تاريخه , والسيوطيّ في تاريخ الخلفاء عند ذكر سيرة معاوية .
(61) يراجع (معاوية بن أبي سفيان) لعمر أبو النصر / 282 .
(62) الفتوح المكّيّة ـ لابن عربيّ 4 / 265 .
(63) معاوية / 359 .
(64) كربلاء بين الحقائق والأوهام ـ لإبراهيم أشكياني / 61 ـ 62 .
(65) روح الإسلام / 296 .
(66) الأغاني 7 / 170 .
(67) الأغاني 14 / 61 , والكامل 4 / 5 .
(68) تاريخ اليعقوبي 2 / 228 .
(69) الإمامة والسياسة ـ لابن قتيبة 1 / 170 .
(70) أي : اتركوا قراءة الحمد في الصلاة .
(71) تُراجع تذكرة الخواصّ ـ لسبط ابن الجوزيّ / 164 .
(72) الأغاني 16 / 68 .
(73) ج 4 / 1 ـ القسم الأوّل . والمعافرة كالمهارشة .
(74) أنساب الأشراف 4 / 2 , وأبو خلف كنية قرده , وله قرد آخر بكنية أبي قيس , وقد قال فيه شعراً , منه :
تمسّكْ أبا قيسٍ بفضلِ عنانِه    فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ
(75) مستدرك الصحيحين ـ للحاكم 3 / 522 , بسنده عن عثمان بن زياد الأشجعيّ .
(76) في تاريخه 4 / 68 .
(77) تفسير روح المعاني 26 / 27 , في ظل الآية (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) .
(78) اللهوف / 10 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 185 .
(79) ص 232 .
(80) مقدّمة ابن خلدون / 254 ـ 255 , عند ذكر ولاية العهد .
(81) الفروع 3 / 548 ـ باب قتال أهل البغي .
(82) تفسير المنار ـ لمحمّد رشيد رضا 1 / 367 , في سورة المائدة / 37 , و12 / 183 ـ 185 .
(83) نهج البلاغة ـ الحكمة 314 .
(84) اختيار مصباح السالكين ـ لكمال الدين ابن ميثم البحرانيّ / 651 , تحقيق الدكتور الشيخ محمّد هادي الأمينيّ .
(85) يراجع في ذلك كتب السيرة , وكذا شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .
(86) أي : لبس لامته .
(87) أي : غطّاها وسترها .
(88) علل الشرائع / 220 ـ 221 .
(89) إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السّلام) ـ للشيخ المرحوم مهدي السماويّ / 67 .
(90) سورة المائدة / 63 .
(91) سورة المائدة / 78 ـ 79 .
(92) سورة المائدة / 44 .
(93) سورة التوبة / 71 .
(94) اللهوف / 10 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 185 .
(95) ص 232 .
(96) مقدّمة ابن خلدون / 254 ـ 255 , عند ذكر ولاية العهد .
(97) الفروع 3 / 548 ـ باب قتال أهل البغي .
(98) تفسير المنار ـ لمحمّد رشيد رضا 1 / 367 , في سورة المائدة / 37 , و12 / 183 ـ 185 .
(99) نهج البلاغة ـ الحكمة 314 .
(100) اختيار مصباح السالكين ـ لكمال الدين ابن ميثم البحرانيّ / 651 , تحقيق الدكتور الشيخ محمّد هادي الأمينيّ .
(101) يراجع في ذلك كتب السيرة , وكذا شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .
(102) أي : لبس لامته .
(103) أي : غطّاها وسترها .
(104) علل الشرائع / 220 ـ 221 .
(105) إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السّلام) ـ للشيخ المرحوم مهدي السماويّ / 67 .
(106) سورة المائدة / 63 .
(107) سورة المائدة / 78 ـ 79 .
(108) سورة المائدة / 44 .
(109) سورة التوبة / 71 .
(110) تحف العقول / 171 ـ 172 .
(111) أدب الحسين (عليه السّلام) وحماسته ـ للاُستاذ أحمد الهمدانيّ الصابريّ / 95 .
(112) كتاب ألّفه الاُستاذ أحمد الصابريّ سنة 1373 هـ , وطبع سنة 1383 هـ , يبحث فيه ولاية الفقهاء وكيفيّتها .
(113) أي صارت مُرّة .
(114) المناقب 4 / 68 , وحلية الأولياء 2 / 539 مع اختلاف يسير , وتحف العقول / 176 .
(115) سورة الأنفال / 42 .
(116) تاريخ الطبريّ 3 / 376 .
(117) سورة الأنعام / 149 .
(118) يراجع كتب الأدعية , ومنها : جمال الاُسبوع ـ للسيّد ابن طاووس , ومصباح الزائر , وتحفة الزائر ـ للعلاّمة المجلسي .
(119) مثير الأحزان / 29 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي 1 / 192 و 193 , واللهوف / 13 , قال بعض المحقّقين : يبدو أن عمر بن سعد حاور الإمام الحسين (عليه السّلام) في هذا الأمر مرّتين ؛ أولاهما عند توجّهه (عليه السّلام) إلى‏ مكّة , والثانية بعد خروجه (عليه السّلام) من مكّة متوجّهاً إلى‏ العراق .
(120) مقتل العوالم / 78 .
(121) تظلّم الزهراء للسيّد رضي بن نبيّ القزوينيّ / 103 .
(122) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي / 245 .
(123) تاريخ الطبريّ 6 / 268 .
(124) يراجع في ذلك العقد الفريد لابن عبد ربّه ـ باب نهضة المختار .
(125) مروج الذهب 2 / 105 ـ في أخبار يزيد .
(126) في اللغة : أزلقت الحامل أي أسقطت جنينها . والزّليق من الأجنّة : السِّقط .
(127) مرقت البيضة : أي فسدت .
(128) بحار الأنوار 44 / 197 ح12 , قال العلامة المجلسيّ في مقدّمة الحديث : روي في بعض مؤلّفات أصحابنا عن أبي سلمة ... ثمّ روى‏ الحادثة . أمّا الآية ففي سورة آل عمران / 34 .
(129) ص 292 ـ 293 .
(130) ج 2 / 302 .
(131) وكانت عائشة يومذاك ذات سلطان عشائريّ , وكانت إلى‏ ذلك مدعومةً من قبل بني اُميّة أصحاب السلطة وغيرهم , ويكفي في إثبات ذلك قيادتها لمعركة الجمل على‏ رأس جيش جرّار واجهت به أمير المؤمنين عليّاً (عليه السّلام) , فهي يومذاك ذات نفوذ سياسي .
(132) سورة الأحزاب / 53 .
(133) سورة الحجرات / 2 .
(134) كناية عن حفر القبرين إلى‏ جانب النبيّ (صلّى‏ الله عليه وآله) لأبي بكر وعمر .
(135) سورة الحجرات / 3 .
(136) سورة الأحقاف / 17 .
(137) يراجع مستدرك الصحيحين 4 / 481 , وتفسير القرطبيّ 16 / 197 , وتفسير الزمخشريّ 3 / 99 , وتفسير ابن كثير 4 / 159 , وتفسير الرازيّ 7 / 491 , واُسد الغابة 2 / 34 , وغير ذلك عشرات المصادر .
(138) ج 4 / 479 .
(139) وذكره الدميريّ في حياة الحيوان 2 / 399 , وابن حجر في الصواعق المحرقة / 108 , والحلبيّ في السيرة الحلبيّة 1 / 337 .
(140) اُسد الغابة 2 / 34 , والإصابة 1 / 346 , وكنز العمّال 6 / 40 , والسيرة الحلبيّة 1 / 337 .
(141) ج 5 / 126 .
(142) من أراد التفصيل في ذلك فليراجع (الغدير) للعلاّمة الأمينيّ ج 8 .
(143) الاحتجاج / 153 , والمناقب ـ لابن شهر آشوب 4 / 51 .
(144) تفسير العيّاشيّ 1 / 362 , والآية في سورة الأنعام / 62 .
(145) سورة الكوثر / 3 .
(146) بحار الأنوار 33 / 229 , المحاسن و المساوئ ـ للبيهقي / 93 , المساوئ ـ للجاحظ / 103 .
(147) المحاسن و المساوئ ـ البيهقيّ / 93 , المحاسن و الأضداد ـ للجاحظ / 103 .
(148) كتاب سليم / 172 .
(149) تاريخ الطبريّ 6 / 60 , والكامل 3 / 155 , وتاريخ ابن كثير 7 / 314 .
(150) روى‏ ذلك عبادة بن الصامت في غزوة تبوك .
(151) الإيضاح ـ للفضل بن شاذان / 43 .
(152) مَن رغب في التفصيل فليراجع (الغدير) ـ الجزء الثاني .
(153) يراجع هوامش المحقّق الفاضل السيّد جلال الدين الحسينيّ الأرموي على‏ كتاب الإيضاح ـ لابن شاذان / 41 ـ 42 .
(154) شرح نهج البلاغة 16 / 28 .
(155) ج 4 / 67 .
(156) سورة الأعراف / 58 .
(157) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 2 / 86 .
(158) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 2 / 43 .
(159) الاحتجاج / 295 ـ 296 .
(160) الاحتجاج / 296 ـ 297 .
(161) رجال الكشّي / 259 , والاحتجاج / 297 ـ 298 .
(162) سورة النساء / 59 .
(163) سورة النساء / 83 .
(164) سورة الأنفال / 48 .
(165) الاحتجاج / 298 ـ 299 , المناقب 4 / 67 .
(166) كنز العمّال / الخبر 43588 .
(167) كنز العمال / الخبر 5510 .
(168) كنز العمال / الخبر 5576 .
(169) الترغيب والترهيب ـ للمنذريّ 3 / 255 , ورواه ابن ماجه بإسنادٍ صحيح عنده .
(170) الترغيب والترهيب 3 / 225 , رواه الترمذيّ , والحاكم قائلاً : صحيح الإسناد .
(171) الخصائص الحسينيّة / 43 ـ 44 .
(172) مطالب السؤول / 73 .
(173) ج 4 / 68 .
(174) في تاريخه 6 / 188 ـ باب خلافة يزيد بن معاوية .
(175) أي تجزي عندك .
(176) أي يحبّ الابتعاد عن الاصطدام .
(177) قال ابن الأثير في الكامل من التاريخ 4 / 160 : وهي الزرقاء بنت موهب جدّة مروان , وكانت من ذوات الرايات التي تستدلّ على بيوت البغاء .
(178) ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 185 .
(179) لعلّه قال للوليد بن عتبة .
(180) أنساب الأشراف ـ للبلاذريّ 3 / 188 .
(181) تاريخ الطبريّ 6 / 235 .
(182) تاريخ ابن الأثير 4 / 23 .
(183) تاريخ الطبريّ 6 / 236 .
(184) غرر الحكم / 17 , 39 .
(185) بحار الأنوار 78 / 236 , عن تحف العقول / 237 ـ 238 .
(186) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 2 / 5 .
(187) اللهوف / 23 .
(188) الخصائص الحسينيّة / 21 .
(199) المناقب 4 / 68 .
(190) حلية الأولياء ـ لأبي نعيم الإصفهاني 2 / 239 , وتحف العقول / 176 .
(191) المناقب 2 / 193 , وانساب الأشراف 3 / 171 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي 1 /230 .
(192) المناقب 4 / 95 , وكشف الغمّة 3 / 40 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 33 .
(193) المناقب 4 / 68 .
(194) تاريخ دمشق ـ لابن عساكر / 215 .
(195) المناقب 2 / 222 .
(196) مجمع الزوائد ـ للهيثميّ 9 / 193 .
(197) تاريخ الطبريّ 6 / 259 .
(198) مقتل العوالم / 97 , ومثير الأحزان ـ لابن نما / 37 , ومقتل الحسين ـ للخوارزميّ 2 / 33 .
(199) كشف الغمّة 2 / 180 .
(120) الخصائص الحسينيّة / 38 .
(121) سبطا رسول الله الحسن والحسين (عليهما السّلام) / 88 .
(122) كتابه ( الشهيد الخالد الحسين بن عليّ ) / 6 .
(123) الدرّ النضيد / 272 ـ 274 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page