• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصلابة الحسينيّة

الصبر : خصيصةٌ فاضلة يُعجَب بها الناس ويجلّونها , ويُكْبرون صاحبها , ويتمنّون أنّها فيهم , ولكن قليلٌ هم الذين يحظون بها .
والصبر : خلقٌ ينطوي على‏ معانٍ ساميةٍ رفيعة , منها : الإيمان بالله , والتسليم لقضاء الله , والرضا بأمر الله , والشكر على‏ ما يريده ويحبّه الله . كما يعبّر عن قوّة الجَنان , ورجاحة العقل , وثبات القلب , واطمئنان النفس وهدوئها , ويشير إلى‏ الزهد وحسن التوكّل على‏ الله , والثقة به سبحانه وتعالى‏ , والتصديق بوعده وهو القائل : (يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(1) .
وفي تعريف الصبر قال علماء الأخلاق : هو ضدُّ الجزع , وهو ثبات النفس , أو هو احتمال المكاره من غير جزع , أو هو قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل ؛ أوامرَ ونواهي .
وفي الرواية قال جبرئيل (عليه السّلام) في تفسير الصبر : تصبر في الضرّاء كما تصبر في السرّاء , وفي الفاقة كما تصبر في الغنى‏ , وفي البلاء كما تصبر في العافية , فلا يشكو حالَه عند المخلوق .
وفي رواية : فلا يشكو خالقه عند المخلوق بما يصيبه من البلاء(2) .
وفي بيان أنواع الصبر قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) :
(( الصبر ثلاثة ؛ صبرٌ على‏ المصيبة , وصبرٌ على‏ الطاعة , وصبرٌ عن المعصية ))(3) .
وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( الصبر صبران ؛ صبرٌ عند المصيبة , حسنٌ جميل , وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرّم الله عليك ))(4) . وعنه (سلام‏ الله عليه) أيضاً قال : (( الصبر صبران ؛ صبرٌ على‏ ما تكره , وصبرٌ عمّا تحبّ ))(5) .
والصبر يوحي بأنَّ هناك صراعاً ومقاومة , وقتالاً وغلبة , أو أنَّ هنالك طرفَينِ متنازعين , وهناك نتيجة , والصبر هو الذي يحدّد النتيجة . قال الإمام عليّ (عليه السّلام) : (( الإيمان على‏ أربع دعائم ؛ على‏ الصبر , واليقين , والعدل , والجهاد . والصبر منها على‏ أربع شعب ؛ على‏ الشوق , والشفق , والزهد , والترقّب ؛ فمن اشتاق إلى‏ الجنّة سلا عن الشهوات , ومَن أشفق من النار اجتنب عن المحرّمات , ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات , ومن ارتقب الموت سارع إلى‏ الخيرات ))(6) .
والصبر ليس تحمّلاً وحسب , إنّما هو شكرٌ وتسليمٌ لله (جلّ ثناؤه) أيضاً . والصبر ليس ‏مقاومة وحسب , إنّما هو مبادرةٌ للقتال ضدَّ جنود الضلال والتضليل أحياناً . والصبر ليس إمساكاً للنفس عن اقتراف المعاصي وحسب , إنّما هو أيضاً نهوضٌ وعزم على‏ عمل الخير وإتمامه بنيّةٍ سليمةٍ صالحة ؛ فهو مقيّدٌ بقوله تعالى :‏ (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)(7) .
ومن هنا يتمايز الصابرون ؛ فمنهم‏ من يتصبّر لوجه الناس , لا عن إيمانٍ أو رضاً أو تسليمٍ لقضاء الله سبحانه وتعالى‏ , ومنهم من يرجو بصبره نوال ثوابه تبارك وتعالى‏ , أو يتحاشى‏ به عقاباً , ولكن منهم مَن يصبر طاعةً لله (جلّ وعلا) , وحبّاً ورضاً وتسليماً لأمره (عزّ وجلّ) , فلا يشكو ولا يضجر ولا يعترض .
والصبر درجات وأنواع , منه صبر العوامّ على‏ وجه التجلّد , وهو لا ثواب عليه ؛ إذ لا يكون لله , ومنه صبر الزهّاد والعبّاد لتوقّع ثواب الآخرة وخشية عقابها , ومنه صبر العارفين الذين يتلذّذون بالمكروه ؛ لأنّه من عند المحبوب الله (جلّ جلاله) ؛ إذ خصّهم به دون الناس فصاروا ملحوظين بشرف نظرته سبحانه , وموعودين بطيّب بشارته , (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)(8) .
والإمام الحسين (عليه السّلام) قد أخلص النيّة لله (عزّ شأنه) , وسلّم له أمره , وصبر أيَّ صبر ... حتّى‏ قال في زيارته حفيدُه الإمام المهديّ (عليه السّلام) :
(( وجاهدت في الله حقَّ الجهاد , وكنت لله طائعاً , ولجدّك محمدٍ (صلّى‏ الله عليه وآله) تابعاً , ولقول أبيك سامعاً , وإلى‏ وصيّة أخيك مسارعاً , ولعماد الدين رافعاً , وللطغيان قامعاً , وللطُّغاة مقارعاً , وللاُمّة ناصحاً , وفي غمرات الموت سابحاً , وللفسّاق مكافحاً , وبحجج الله قائماً , وللإسلام والمسلمين راحماً , وللحقّ ناصراً , وعند البلاء صابراً ... ))(9) .
فصبر الحسين (سلام الله عليه) كان جهداً وجهاداً ومجاهدة , وكان معبّراً عن الطاعة المطلقة الخالصة لله سبحانه وتعالى‏ , وعن الشجاعة المذهلة . فالصبر مع أنّه إمساكٌ للنفس عن الجزع هو ثباتٌ على‏ قدم الشجاعة , قال الإمام عليّ (عليه السّلام) في مجمل غرر حكمه ودرر كلِمِه : (( الشجاعة صبر ساعة(10) . الصبر شجاعة ))(11) .
وقيل للحسن بن عليّ (عليه السّلام) : ما الشجاعة ؟
فقال : (( موافقة الأقران , والصبر عند الطعان ))(12) .
ولقد صبر الإمام الحسين (سلام الله عليه) على‏ الطاعات الطويلة , وعن المعاصي الثقيلة , وعلى‏ مصائبَ جمّة , إلاّ أن تُهتك حرماتُ الدين وتهان كرامة المسلمين فذلك ما لم يصبر عليه . وله في جدّه رسول الله المصطفى‏ (صلّى‏ الله عليه وآله) اُسوة ؛ حيث وقف يوماً فقال : (( قد صبرتُ في نفسي وأهلي وعِرضي , ولا صبر لي على‏ ذكر إلهي ))(13) . فأنزل الله (عزّ وجلّ) : (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)(14) .
وصبر الإمام الحسين (عليه السّلام) صبر الحكماء العقلاء حتّى‏ كانت نهضته في موقعها المناسب مكاناً وزماناً ؛ فصبر لله , وقام لله (جلّ وعلا) . وقد كتب إلى‏ أخيه (محمّد بن الحنفيّة) : (( فمن قبِلني بقبول الحقّ فالله أولى‏ بالحقّ , ومَن ردَّ عَلَيَّ هذا أصبر حتّى‏ يقضيَ الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين ))(15) . حتّى‏ إذا استوجب الأمر أن يصبر على‏ المسير قام (عليه السّلام)‏ صابراً كما انتظر صابراً ؛ فذهب إلى‏ مكّة ووقف هناك يقول للناس خاطباً : (( ألاَ ومَن كان فينا باذلاً مهجتَه , موطّناً على‏ لقاء الله نفسَه , فلْيرحل معنا ؛ فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله ))(16) .
واعترضه في الطريق (أبو الهرم) وسأله : يابن رسول الله , ما الذي أخرجك عن حرَم جدّك ؟
فأجابه (عليه السّلام) : (( يا أبا هرم , إنَّ بني اُميّة شتموا عرضي فصبرت , وأخذوا مالي فصبرت , وطلبوا دمي فهربت ... ))(17) .
أمّا الذي لم‏ يصبر عليه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) , وهو الغيور , فهو أن يرى‏ بني اُميّة ينزون على‏ منبر رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) ؛ يحرّفون الكلم عن مواضعه , ويحكمون بما لم يُنزل الله به كتاباً , ويذلّون عباد الله , ويهينون أولياء الله , ويعودون بالناس القهقرى‏ إلى‏ الجاهليّة الاُولى‏ , ويهلكون الحرث والنسل , ويشيعون الفساد والإفساد , ويسلبون الأموال , ويقتلون الرجال , ويهتكون الأعراض .
فوقف يعلنها ثورةً دونها الأبدان والأنفس والدماء , فقال خاطباً : (( ألاَ ترون إلى‏ الحقّ لا يُعمَل به , وإلى‏ الباطل لا يُتناهى‏ عنه ؟! ليرغب المؤمنُ في لقاء الله ؛ فإنّي لا أرى‏ الموت إلاّ سعادة , والحياةَ مع الظالمين إلاّ برَماً ))(18) .
وأيّ صبرٍ هذا حينما يقْدم المرء على‏ الموت , يرفع إليه قدميه مقْبلاً عليه , راغباً فيه , يراه السعادةَ بعينها ؛ ذلك لأنّه لا يستطيع الصبر على‏ ظلم الظالمين , ولا يقوى‏ أن يرى‏ كيف تُهتك مقدّسات الدين !
فصبرَ الإمام الحسين (عليه السّلام) حينما كلّفه الله بالصمت , وصبر أيضاً حينما كلّفه سبحانه وتعالى‏ بالسفر إلى‏ كربلاء , وصبر في كلّ موقف بما يقتضيه حكم الله (عزّ وجلّ) . ولم يُعرف منه أنّه ضعف في موقفٍ أو حالة , بل كان إذا حدّث الخصوم يريد لهم النصيحة في الله لا إنقاذَ نفسه من سيوفهم , وهو الذي قالها في مكّة على‏ مسامع الملأ : (( كأنّي بأوصالي تتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا , فيملأن منّي أكراشاً جُوفاً , وأجربةً سُغباً . لا محيص عن يومٍ خُطَّ بالقلم ))(19) .
ولم يقف الحسين (سلام الله عليه) يطلب الحياة من الغدرَة يريد أن يؤجّل بطلبه أجلاً هو يعلمه , حاشاه وهو القائل لاُمّ سلمة (رضوان الله عليها) :
(( إنّي أعلم اليومَ الذي اُقتل فيه , والساعةَ التي اُقتل فيها , وأعلم مَن يُقتل من أهل بيتي وأصحابي . أتظنّين أنّك علمتِ ما لم أعلمْه ؟! وهل من الموت بُدّ ؟! فإن لم‏ أذهب اليوم ذهبتُ غداً )) .
وقال لابن الزبير : (( لو كنتُ في جُحْر هامةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى‏ يقضوا فيَّ حاجتهم )) .
وقال لعبد الله بن جعفر : (( إنّي رأيت رسول الله في المنام وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له )) .
وفي بطن العقبة قال لمَن معه : (( ما أراني إلاّ مقتولاً ؛ فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني , وأشدُّها علَيَّ كلبٌ أبقع ))(20) .
ويفسّر هذا ما أورده المتّقي الهنديّ في (كنز العمّال)(21) , عن محمّد بن‏ عمرو بن حسين قال : كنّا مع الحسين (عليه السّلام) بنهر كربلاء , فنظر إلى‏ شمر بن ذي الجوشن فقال : (( صدق الله ورسوله , قال رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) : كأنّي أنظرُ إلى‏ كلبٍ أبقع يلغ في دماء أهل بيتي )) . وكان شمر أبرص(22) .
وقد أجاد في وصفه الشاعرُ المسيحيّ (پولس سلامة) في إحدى قصائده التي حواها ديوانه (عيد الغدير) , حيث قال :

 أبرصاً كان ثعلبيَّ السِماتِ‏    أصغر الوجهِ أحمرَ الشعَراتِ‏

ناتئَ الصدغ أعقفَ الأنف‏ مُسْ    ـودَّ الثنايا مشوَّهَ القسَماتِ‏
 صِيغ من جبهةِ القرود وألو    انِ الحرابي وأعينِ الحيّاتِ‏
 منتن الريح لو تنفّس في الأس    ـحار عاد الصباحُ للظلماتِ‏
 يستر الفجرَ أنفُه ويولّي‏    إن يصعّدْ أنفاسَه المنتِناتِ‏
 ذلك المسخ لو تصدّى‏ لمر    ة ٍ لَشاهتْ صحيفةُ المرآةِ
 رعبَ الاُمَّ حين مولده المش    ـؤوم والاُمُّ سُحنةُ السَّعَلاةِ
 ودعاه (ذو الجوشن) النذل شمر    لم يشمّرْ إلاّ عن المُوبِقاتِ‏
 لم يحرّك يداً لإتيان خيرٍ    فإذا هَمَّ هَمَّ بالسيّئاتِ(23)‏

فالإمام الحسين (عليه السّلام) حاشاه أن يرجو من هؤلاء خيراً , لكنّه التكليفُ يستدعي أن يبلّغ حتّى‏ يقطع على‏ كلّ ذي عذرٍ عذرَه ؛ فيعلّم الجاهل , ويخبر الغائب , وينبّه الغافل , ويضع الحجّة البالغة والمحجّة الناصعة الدامغة أمام أعين الناس . وإلاّ فهو يعلم أنّه مقتول , فلمّا أشار عليه عمرو بن لوذان بالانصراف عن الكوفة إلى‏ أن ينظر ما يكون عليه حال الناس , قال (عليه السّلام) : (( لن‏ يخفى عَلَيّ الرأي , ولكنْ لا يُغلب على‏ أمر الله , وإنّهم لا يدَعوني حتّى‏ يستخرجوا هذه العلَقَة مِن جوفي ))(24) .
وهذا هو الصبر , ولا ينافيه أن تسحّ عيناه الكريمتان بالدموع الغزيرة في مواقف عديدة ؛ فالبكاء معبّرٌ عن حزن رحمة , وعن رقّةِ قلب , وسخاء عاطفة . وقد عُرف به الأنبياء والمرسلون (صلوات الله عليهم) . يقول أحد الشعراء في اُرجوزةٍ له :

 انظر إلى‏ بكاءِ حضرةِ الصفي‏    آدمَ بعد مَخدعٍ وقد خُفي‏
بكاؤُه أيضاً على‏ هابيل    في أربعينَ ليلةً قتيلا
 أمَا سمعتَ من بكاءِ يوسُفِ‏    في السجن بعد قولهِ المتّصفِ‏
 وانظر إلى‏ البكاء من يعقوبه‏    ذَهابَ عينهِ على‏ محبوبه
 انظر إلى‏ الحقّ إلى‏ خليلهِ‏    بكاءَه بكاء إسماعيلهِ‏
 انظر إلى‏ الخِضر إلى‏ بكائهِ‏    لأجل آلِ الله عن بلائهِ‏
 وانظر إلى‏ بكاء حضرة النبي‏    السيّدِ المكرّمِ المنتجَبِ‏
 دموع عينيهِ على‏ رُقيّهْ    معروفةٌ مشهورةٌ مرويّهْ
 انظر إلى‏ بكائه وغمّهِ‏    لابن أبي طالب ابن عمّهِ‏
 لجعفر الشهيد عند موتهِ‏    ولابنه الصغيرِ بعدَ فوتهِ‏
 لاُمّه الفاطم بنتِ الأسدِ    كاُمّه زوجةِ عمٍّ أمجدِ
 اسمع بكاءَه على‏ النجاشي‏    سلطانِ حبشانٍ بلا تحاشي‏
 انظر إلى‏ دموعه في الحادثهْ    لموت إبراهيمَ وابن الحارثهْ
 انظر إلى‏ دموعه المطهَّره‏    لذكر اُمّ المؤمنين الطاهره‏

فالحزن والبكاء من طبائع النفس البشريّة , والأنبياء والأولياء أرقُّ الناس عاطفة ؛ فبكى‏ آدم (عليه السّلام) على‏ ولَده هابيل وحزن عليه , وبكى‏ يعقوب (عليه السّلام) على‏ ولده يوسف حتّى‏ ابيضّت عيناه من الحزن , وأمّا المصطفى‏ الأكرم (صلّى‏ الله عليه وآله) ـ وكان الأصبرَ في الشدائد والمصائب , والأثبتَ في النوائب ـ فقد بكى‏ وحزن , ولم يكن ذلك جزعاً من نازلة , أو اعتراضاً على‏ قضاء الله , أو سخطاً على أمره , حاشاه .
في صحيح البخاريّ(25) , عن أنس بن مالك قال : دخلنا مع رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله)
على‏ أبي سيف القين , [وكان ظئراً لإبراهيم , فأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إبراهيم فقبّله وشمّه](*) ثمّ دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم (عليه السّلام) يجود بنفسه , فجعلتْ عينا رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) تذرفان , فقال له عبد الرحمن ‏بن عوف : وأنت يا رسول الله تبكي !
فقال : (( يابن عوف , إنّها رحمة )) . ثمّ أتبعها باُخرى , فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( [إنّ] العين تدمع , والقلب يحزن , ولا نقول إلاّ ما يرضي ربَّنا , وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) .
 يقول الشهيد الثاني زين الدين عليّ بن أحمد الجُبعي العاملي (رضوان‏ الله عليه) : اعلم أنَّ البكاء بمجرّده غير منافٍ للصبر ولا للرضا بالقضاء , وإنّما هو طبيعةٌ بشريّة , وجِبلّةٌ إنسانيّة , ورحمةٌ رحميّة أو حبيبيّة , فلا حرج في إبرازها , ولا ضرر في إخراجها ما لم تشتمل على‏ أحوالٍ تأذن بالسخط , وتنبئ عن الجزع(26) .
والحسين (سلام الله عليه) بكى‏ على‏ مَن قُتل من أهل بيته , وعلى‏ من ظمئ منهم . يقول الشيخ التستري : إنَّ الطبائع البشريّة موجودةٌ فيهم ( في أهل البيت (عليهم السّلام) ) , فيعرضهم الجوع والعطش عند أسبابه , وتحترق قلوبهم لما يرد عليهم(27) .
وقد بكى‏ على‏ ابن أخيه القاسم بن الحسن ـ وهو غلام‏ لم‏ يبلغ الحلم ـ حينما برز إلى‏ الحرب , فاعتنقه حتّى‏ غُشي عليه , وبكى‏ على‏ ولده عليٍّ الأكبر حين برز إلى‏ الميدان , وحين استُشهد , وبكى‏ على‏ أخيه العبّاس حين وجَده قطيعَ اليدين , مُطفأ العينين ؛ واحدةٌ قد نبت فيها السهم , والاُخرى‏ قد جمد عليها الدم , والرأس مفضوخٌ بعمودٍ قد نثر دِماغه على‏ كتفَيه , والسهام تجمّعت على‏ بدنه الشريف .
وهنا نقف على‏ صبر الإمام الحسين (عليه السّلام) في خصائصه ؛ فالصبرالحسينيّ امتاز عن غيره , وتفرّد في أحايين كثيرة , فلنتأمّل في ذلك :
الخصّيصة الاُولى‏ إنَّ الصبر عادةً تُعرف درجته من خلال عظم المصيبة وشدّة الموقف ؛ فمَن صبر على‏ فقد مال غيرُ مَن صبر على‏ فقد الولد , ومَن صبر على‏ نازلة الموت وهو على‏ فراشه يحيط به أبناؤه وأهله غيرُ مَن صبر على‏ القتل الفضيع في ساحة المعركة وأهلُ بيته ينظر إليهم أشلاءَ ضحايا , مجزَّرين على‏ صعيد المنايا , ويرى‏ مصارع الشهداء من عشيرته , وأبنائه وإخوته , وأصحابه وبني عمومته . ومَن صبر على‏ تكليف إبلاغ الحقّ غيرُ مَن صبر على‏ القتال دونه .
ولقد خُصّ الصبر الحسينيّ بأنّه كان على‏ أمرٍ عظيم , وتكليف جسيم , وقضيّةٍ مهولة , ومسؤوليّةٍ تأريخيّة تنوء بها الجبال , ويتعيّن بها شأن الدين والاُمّة . يقول الشيخ جعفر التستريّ : قد اختُصَّ ( الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ) بخصوصيّةٍ في الجهاد ؛ فاُمر بجهادٍ خاصٍّ في أحكامه لم يؤمَر به أحدٌ قبله بالنسبة إلى‏ أحكامه , وذلك من وجوه :
الأوّل : من شرائط الجهاد في أوّل الأمر أن يكون الواحد بعشرة لا بأزيد , فيلزم ثبات كلّ واحد في مقابل عشرٍ من الكفار . ثمّ خفّف الله عنهم وعلم أنَّ فيهم ضعفاً , فجعل شرط الوجوب أن يكون الواحد باثنين ؛ فإذا كان عدد العدوّ زائداً على‏ المئة بالنسبة إلى‏ العشرة بعد نسخ الأوّل لم يجب الجهاد . ولكن قد كتب عليه ( أي الإمام الحسين (عليه السّلام) ) مقاتلته وحده في مقابل ثلاثين ألفاً أو أزيد .
الثاني : لا جهاد على‏ الصبيان , ولا على‏ الهِمِّ وهو الشيخ الكبير . وقد شُرّع الجهاد في واقعته على‏ الصبيان مثل القاسم , وابن العجوز , بل مثل عبد الله بن الحسن , وعلى‏ الشيخ الكبير كحبيب ‏بن مظاهر .
الثالث : أن لا يظنّ الهلاك , وهناك قد علم (عليه السّلام) بأنّه يُقتل , فقال لأصحابه : (( أشهد أنّكم تُقتلون جميعاً , ولا ينجو أحدٌ منكم إلاّ ولدي عليّ )) , أي السجّاد زين العابدين (عليه السّلام) .
ثمّ إنّهم (أي أعداؤه) قد خالفوا في السلوك معه أحكام السلوك التي جعل الله للكفّار حين الجهاد , وهي كثيرة :
ـ منها : في الشهر الحرام , ولكن حيث قاتلوه فيه قاتلهم فيه .
ـ ومنها : أن لا يُقتل فيه صبيّ ولا امرأة من الكفّار , وقد قتلوا ( أي أعداء الحسين (عليه السّلام) ) منه صبياناً , بل رضعاناً ؛ فرضيعٌ حين أراد تقبيله , ورضيعٌ حين أراد منهم سقيَه .
ـ ومنها : أن لا يُحرَق زرعُهم (أي مِن قِبل الكفّار) , وقد حُرق بعضُ خيامه (عليه السّلام) حين حياته , وأرادوا حرقها مع مَن فيها , وحرقوها بعد قتله .
ـ ومنها : أن لا يهجموا دفعةً ...(28) .
ثمّ يقول مضيفاً : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له (عليه السّلام) من ذلك قسمٌ لم يكلَّف به غيره ؛ فإنّه كُلّف به مع العلم بالضرر, له كيفيّات ...(29).
كلّ هذه التكاليف , والمصاعب والأتعاب , والهموم والآلام , والمصائب والفجائع , والحسين (عليه السّلام) صبر ولم يهن ولم يضعف , ولم ‏يشكّ ولم ‏يخفّف على‏ نفسه طاعةً لله (جلّ وعلا) , فأيُّ صبرٍ ذاك !
الخصّيصة الثانية
قد يصبر المرء ولكن على‏ ذلّةٍ وهوان , أو يرى‏ الصبر في السكوت والقعود , والتنحّي عن ساحة الصراع المرير . وقد رأينا بعض الصحابة والتابعين
حينما كُلّفوا بالوقوف في وجه الكفر والظلم اتّخذوا لأنفسهم مساجد ومحاريب , أو صوامع يتعبّدون فيها ؛ فتطير أخبار صلاحهم في البلدان , ويأمنون بعد ذلك سطوة السلطان . فلا يُعرَفون إلاّ بالزهد وعناء العبادة وترك الدنيا , في حين أنَّ زهدهم لم‏ يكن بالأموال , بل زهدوا بالثواب العظيم , وأنَّ عبادتهم تلك كانت معاصيَ ؛ إذ لم‏ يكلّفهم بها الله تعالى‏ , إنّما كلّفهم بالكلمة الحقّة العادلة في وجه السلطان الظالم الجائر , فتركوا ذلك ولم يأتمروا , وعصوا الله , والعبادة هي الطاعة .
كذا لم يكن مكثهم في المساجد والمحاريب تعبيراً عن ترك حبّ الدنيا , بل كان تعبيراً عن حبّ الدنيا ؛ لأنّهم حين قبعوا في زواياهم تلك أرادوا الحفاظ على‏ أنفسهم , والإبقاء على‏ حياتهم ودنياهم وإن مات الدين وسُحقت كرامة المسلمين . لكنَّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) كان ممّن عُرف بصبره على‏ طاعة الله , وفي الوقت ذاته عُرف بصبره عن معصية الله , وكان الانزواء في تلك المرحلة التأريخيّة من أكبر المعاصي ؛ إذ يمكّن الكفرَ من الشريعة , ويمكّن الطغاةَ من رقاب الناس .
وكان من صبر الحسين (صلوات الله عليه) أن اقتحم ساحة المواجهة ضدّ رؤوس الضلال والفساد والظلم , وجابه الطواغيتَ بجميع صورهم وقواهم , وعرّض نفسه المقدّسة للصعاب من أجل إنقاذ الرسالة الإسلاميّة والاُمّة الإسلاميّة ؛ فبهجومه هجم على‏ كلّ انحراف , وببريق سيفه كشف كلّ حقيقة , وبنهضته نبّه كلَّ غافل ونائم ؛ فكان صبره متحلّياً بالإباء لا بالخنوع , وبالوعي والعزّة لا بالانزواء والخضوع .
وقد شهدت له ساحة الطفّ أنّه الصبور ؛ فمع قلّة العدد , وخذلان الناصر , وكثرة العدوّ , وشدّة الموقف , وذلك العطش القاتل , وحراجة الحال , وسوء حال العيال من الأرامل واليتامى‏ والأطفال , هجم الحسين (عليه السّلام) على‏ أعدائه المتجمّعين آلافاً متراصّةً فشتّتهم , وكرّ عليهم فكشفهم مرّات , وسيفه المنتضى‏ يقرأ على مسامع الأوباش خطب العزّة والكرامة والإباء , والشجاعة والصبر والفداء .

 طمِعت أن تسومه القوم ضيم    وأبى الله والحسامُ الصنيعُ‏
 كيف يلوي على‏ الدنيّة جِيد    لِسوى‏ الله ما لواه الخضوعُ‏
 ولديه جأشٌ أردُّ من الدرْ    ع لظمأى‏ القنا وهُنَّ شروعُ‏
 وبه يرجع الحفاظ لصدرٍ    ضاقت الأرضُ وهي فيه تضيعُ‏
 فأبى‏ أن يعيش إلاّ عزيز    أو تجلَّى‏ الكفاحُ وهو صريعُ‏
 فتلقّى‏ الجموع فرداً ولكن‏    كلُّ عضوٍ في الرَّوع منه جُموعُ‏
 رمحُه مِن بَنانهِ وكأنْ مِن‏    عزمهِ حدُّ سيفه مطبوعُ‏
 زوّجَ السيفَ بالنفوس ولكن‏    مهرُها الموت والخضابُ النجيعُ‏
 بأبي كالئاً على‏ الطفّ خدر    هو في شفرة الحسام منيعُ(30)

فأيُّ صبرٍ هذا في موقف كذاك !
الخصّيصة الثالثة
إنَّ أشدَّ الشجعان صبراً لا يقْدم على‏ ساحةٍ يتأكّد أنّه مقتول عليها , إنّما يخطو إلى‏ معركةٍ يتفاءل فيها بالنصر أو يحتمله ولو قليلاً على‏ أقلّ الفروض . أمّا أن يقْدم مبارزٌ على‏ معركةٍ لا يتفاءل بها إلاّ بالشهادة , ولا يرى‏ إلاّ أنّه مقتول هو وأهل بيته , ثمّ يخطو بحزم , ويتقدّم بعزم , فذلك هو الصبر في أعلى‏ درجاته .
لمّا عزم الحسين (عليه السّلام) على‏ الخروج من المدينة أتته اُمّ سلمة (رضي الله عنها) , فقالت : يابنيَّ , لا تُحزنّي بخروجك إلى العراق ؛ فإنّي سمعت جدَّك يقول : (( يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق , في أرضٍ يقال لها : كربلا )) .
فقال لها : (( يا اُمّاه , وأنا والله أعلم ذلك , وإنّي مقتولٌ لا محالة , وليس لي من هذا بدّ , وإنّي والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه , وأعرف مَن يقتلني , وأعرف البقعة التي اُدفن فيها , وإنّي أعرف مَن يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي , وإن أردتِ يا اُمّاه اُريك حفرتي ومضجعي )) .
ثمّ أشار (عليه السّلام) إلى‏ جهة كربلاء , فانخفضت الأرض حتّى‏ أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره , وموقفه ومشهده , فعند ذلك بكت اُمُّ سلمة بكاءً شديداً , وسلّمت أمرَه إلى‏ الله , فقال لها : (( يا اُمّاه , قد شاء الله (عزّ وجلّ) أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً , وقد شاء أن يرى‏ حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين , وأطفالي مذبوحين مظلومين , مأسورين مقيّدين , وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً ))(31) .
وقد نقلتْ لنا كتب الحديث عشرات الروايات من عشرات المصادر عن طرقٍ عديدة لجميع المذاهب الإسلاميّة في شأن إخبار الله تعالى‏ أنبياءه ونبيّنا (صلوات ‏الله عليهم) بشهادة الحسين (عليه السّلام) , وإخبار الرسول وأمير المؤمنين والحسن (عليهم السّلام) بشهادته (عليه السّلام) , ما يجتمع لها كتابٌ كبير(32) .
فإنْ يقْدم الرجل على‏ موتٍ محقّق , وقتلٍ مؤكّد ثمّ لا يهتزّ ولا يتردّد فذلك هو الصبر في أرسخ مواقفه وأشمخ وقفاته . وأن يتقدّم الرجل إلى‏ ساحةٍ رهيبةٍ يعلم يقيناً أنَّ فيها مصرعه فتلك هي الشجاعة في أبهى‏ صورها وأعزّ أوصافها . وتلك هي الصلابة الحسينيّة , وذلك هو ربط الجأش وشدّة العزيمة , وليست ‏الشجاعة الحقيقيّة عند من دخل معركة يحتمل فيها النصر والغلبة , ويتوقّع الخروج منها سالماً غانماً .
إنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) تقدّم لا يعبأ بالموت ؛ إذ كان أصبر عليه في طاعة الله وسبيله من الحياة الذليلة مع الظالمين , بل كان الإمام الحسين (صلوات ‏الله عليه) وهو القائل : (( وأيم الله , ليقتلوني ))(33) , يجد أنَّ في الحياة موتاً , وأنَّ في الموت حياة إذا كان العيش ذلّة , والموت بعد جهادٍ شرفاً وعزّة . وقد أثبت الإمام الحسين (عليه السّلام) ذلك بصبره , ولله درُّ القائل فيه :

 وجدَ الردى‏ في العزّ عينَ حياتهِ‏    ورأى‏ مع الذُّلِّ الحياةَ مَماتا
 ما مات بل غنم الحياةَ مشيَّعٌ‏    تحت الصوارمِ والأسنّةِ ماتا(34)
وكذا لله درّ القائل فيه (عليه السّلام) :
 نفسي الفداءُ لسيّدٍ    خانت مواثقَه الرعيّهْ‏
 رامت اُميّةُ ذُلَّه‏    بالسِلم لا عزّت اُميّهْ‏
 حاشاه مِن خوف المنيّ    ـة والركونِ إلى‏ الدنيّهْ‏
فأبى‏ إباءَ الاُسْد مخ    ـتاراً على‏ الذُلِّ المنيّهْ(35) ‏

وأجاد الاُستاذ أحمد حسن لطفي في كلمته : إنَّ الموت الذي كان ينشده ( الحسين (عليه السّلام) ) فيها كان يمثّل في نظره مُثُلاً أروع من كلّ مثُل الحياة ؛ لأنّه الطريق إلى‏ الله الذي منه المبتدأ وإليه المنتهى‏ ؛ لأنّه السبيل إلى‏ الانتصار وإلى‏ الخلود , فأعظم بطل ينتصر بالموت على‏ الموت(36) .
الخصّيصة الرابعة إنَّ من مقامات الصبر الرضا بالمقدّر , والرضا‏ بقضاء الله تبارك وتعالى‏ , وهذه هي درجة الزاهدين . جاء عن رسول الله (صلّى‏ الله عليه وآله) أنّه قال : (( إذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه ؛ فإن صبر اجتباه , وإن رضي اصطفاه ))(37) .
ومن مقامات الصبر صبر الصدّيقين الذين يحبّون ما يصنع به مولاهم ؛ يرضون ويبتهجون ويتلذّذون بورود المكروه من الله سبحانه , ويعتبرون ذلك التفاتاً من المحبوب , وكلُّ ما يفعله المحبوب محبوب .
نزل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في منزل شقوق في مسيره إلى‏ كربلاء , فأتاه رجلٌ من العراق فسأله , فأخبره بحاله , ثمّ قال (عليه السّلام) :
(( إنَّ الأمر لله يفعل ما يشاء , وربُّنا تبارك كلَّ يومٍ هو في شأن ؛ فإن نزل القضاء فالحمد لله على‏ نعمائه , وهو المستعان على أداء الشكر ... )) , ثمّ أنشد :
 فإن تكنِ الدنيا تُعدّ نفيسةً    فدارُ ثوابِ الله أعلا وأنبلُ(38) فكلّ شي‏ءٍ يقضيه الله تعالى‏ خيرٌ ورحمةٌ حتّى‏ الموت , بل حتّى‏ القتل طاعةً له سبحانه . وقد تعجّب الناس كيف استقبل الإمام الحسين (عليه السّلام) ذلك القتل الرهيب بصدرٍ ملؤه الرضا‏ بقضاء الله , والتسليم لأمر الله , وهذه صفةٌ عرفت فيه , وخلقٌ ظهر عليه .
عن إسماعيل بن يحيى‏ المزنيّ قال : سمعت الشافعيّ يقول : مات ابنٌ للحسين (عليه السّلام) فلم يُرَ به كآبة(39) , فعوتب على‏ ذلك فقال : (( إنّا أهل البيت نسأل الله (عزّ وجلّ) فيعطينا , فإذا أراد ما نكره فيما يحبّ رضينا ))(40) .
ولمّا سقط الحسين (عليه السّلام) ونالته السهام والسيوف والرماح ما نالته , قال هلال بن نافع : كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه , فوالله ما رأيت قتيلاً قطُّ مضمَّخاً بدمه أحسنَ منه وجهاً ولا أنور ! ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله(41) .
ولمّا اشتدّ به الحال , رفع طرفه إلى‏ السماء وقال : (( اللّهمّ متعالي المكان , عظيمُ الجبروت , شديد المحال , غنيٌّ عن الخلائق , عريض الكبرياء , قادر على‏ ما تشاء , قريبُ الرحمة , صادق الوعد , سابق النعمة , حسَن البلاء , قريبٌ إذا دعيت , محيطٌ بما خلقت , قابل التوبة لمَن تاب إليك , قادر على‏ ما أردت , ومدرك ما طلبت , شكورٌ إذا شُكرت , ذكورٌ إذا ذُكرت . أدعوك محتاجاً , وأرغب إليك فقيراً , وأفزع إليك خائفاً , وأبكي إليك مكروباً , وأستعين بك ضعيفاً , وأتوكّل عليك كافياً .
اللّهمّ احكم بيننا وبين قومنا ؛ فإنّهم غرّونا وخذلونا , وغدروا بنا وقتلونا , ونحن عترةُ نبيّك , وولْدُ حبيبك محمّدٍ (صلّى‏ الله عليه وآله) الذي اصطفيته بالرسالة , وائتمنتَه على‏ الوحي , فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين(42) .
صبراً على‏ قضائك يا ربّ , لا إله سواك يا غياثَ المستغيثين(43) , ما لي‏ ربٌّ سواك , ولا معبود غيرك . صبراً على‏ حكمك يا غياث مَن لا غياث له , يا دائماً لا نفاد له , يا محييَ الموتى‏ , يا قائماً على‏ كلِّ نفسٍ بما كسبت , احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين ))(44) .
وهذا هو التسليم لله (جلّ وعلا) , وعين الرضا‏ بقضائه وإن كان قتلاً مؤلماً , وذلك هو الصبر الذي دونه كلُّ صبر , ومَن يقوى‏ أو يثبت على‏ موقف كهذا ؟!

 فإن يك إسماعيلُ أسلمَ نفسَه‏    إلى‏ الذبحِ في حِجر الذي هو راحمُهْ‏
 فعاد ذبيحُ الله حقّاً ولم تكنْ‏    تصافحُه بيضُ الظُّبا‏ وتسالمُه‏ْ
 فإنَّ حسيناً أسلَم النفسَ صابر    على الذبح في سيفِ الذي هو ظالمُهْ‏
 ومِن دون دين الله جاد بنفسِه‏    وكلّ نفيسٍ كي تُشاد دعائمُهْ‏
ورضّت قراه العادياتُ وصدرَه‏    وسِيقت على‏ عُجف المطايا كرائمُهْ(45)

الخصّيصة الخامسة
إنَّ الصبور ـ مهما صبر ـ قد لا يُوفَّق أن يقضي عمره وهو راسخ القدمين على‏ ساحة الصبر , فلا بدّ أن يعتريه الوهن والضعف , والضجر والملل , والتأفّف والتضجّر في موقفٍ ما , أو في حالةٍ عصيبةٍ لا تتحمّلها نفسه .
أمّا أن يبدأ بالصبر , ويواصل حياته على‏ ما فيها من نكبات في صبر , ويختمها في أشدّ المحن بصبر , فذلك عُرف به الحسين (صلوات الله عليه) . وقد كشف الصبرَ الحسينيَّ تلك المصائبُ المهولة , وساحة كربلاء قد ذُهلت من صبر سيّد الشهداء وشجاعته . يقول الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( ثلاثةٌ لا تُعرف إلاّ في ثلاثة مواطن ؛ لا يُعرف الحليم إلاّ عند الغضب , ولا الشجاع إلاّ عند الحرب , ولا أخٌ إلاّ عند الحاجة ))(46) .
فقد ينجح المرء في دخول الأمر الصعب ولكنّه لا يقوى‏ على‏ المواصلة في التحمّل , وقد يواصل لكنّه لا يستطيع الثبات ؛ فتراه يهتزّ ويسقط . وقد يثبت حيناً لكنّه لا يختم حياته بذلك , والخاتمة هي المعوّل عليه . قال النبيُّ الأعظم (صلّى‏ الله عليه وآله) : (( خير الاُمور خيرها عاقبة(47) . ملاك العمل خواتيمه(48) . الاُمور بتمامها , والأعمال بخواتمها ))(49) .
ولكي نتعرّف على‏ صور مهيبةٍ من صور الصبر الحسينيّ تعالوا نقف عند هذه الواقعة : يقول المؤرّخون بعد ذكر شهادة الأصحاب وأهل بيت الحسين (عليه السّلام) , وبقائه وحيداً في ساحة المعركة : تقدّم الحسين (عليه السّلام) نحو القوم مصلتاً سيفه , فدعا الناسَ إلى‏ البراز , فلم ‏يزل يقتل كلَّ مَن برز إليه حتّى‏ قتل جمعاً كثيراً(50) .
وبعد أن قتل مقتلةً عظيمة صاح عمرو بن سعد : هذا ابن الأنزع البطين , هذا ابن قتّال العرب , احملوا عليه من كلّ جانب . فصوّبت نحوه أربعة آلاف نبلة , فحمل (عليه السّلام) على‏ الميمنة حملة ليثٍ مغضب , وجراحاته تشخب دماً , ثمّ حمل على‏ الميسرة(51) فتطاير العسكر من بين يديه , واتّجهوا نحو الخيام ... ثمّ ازدحم عليه العسكر , واستحرى‏ القتال وهو يقاتلهم ببأسٍ شديد , وشجاعةٍ لا مثيل لها .
قال عبد الله بن عمّار بن يغوث : فوالله ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتل ولْدُه وأهلُ بيته وصحبه أربطَ جأشاً منه , ولا أمضى‏ جَناناً , ولا أجرأَ مقْدماً ! ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدَّ فيها , ولم يثبت له أحد(52) .
وفي‏ روايةٍ اُخرى‏ : فوالله ما رأيت مكسوراً قطّ قد قُتل ولْده وأهل بيته وأصحابه أربطَ جأشاً ولا أمضى‏ جَناناً منه , ولا أجرأ مقدماً ! والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله ؛ أن كانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى‏ إذا شدَّ فيها الذئب(53) .
قال ابن الأثير : المكثور : المغلوب , وهو الذي تتكاثر عليه الناس(54) .
وقال آخر : ولقد كان يحمل فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً , فينهزمون مِن بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر , ثمّ يرجع إلى‏ مركزه وهو يقول : (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم ))(55) .
هكذا حتّى‏ غدروا به بالحجارة والسهام من بعيد , فصبر وصابر :

 إلى‏ أن أتاه السهمُ مِن كفِّ كافرٍ    ألا خاب باريها وضَلَّ المصوِّبِ‏
 فخرَّ على‏ وجهِ الترابِ لوجهِه‏    كما خرّ مِن رأس الشناخيب أخشبِ

وأعياه النزف , فجلس على‏ الأرض ينوء برقبته(56) ... لا يرى‏ منه إلاّ الصبر والرضا‏ عن الله تعالى‏ في جميع قضائه .
قال الشيخ التستري : وأمّا صبره (عليه السّلام) كما ورد ؛ ولقد عجِبتْ من صبره ملائكةُ السماوات . فتدبّرْ في أحواله وتصوَّرها حين كان مُلقىً على‏ الثرى‏ في الرمضاء , مجرّحَ الأعضاء بسهامٍ لا تعدُّ ولا تحصى‏ , مفطور الهامة , مكسورَ الجبهة , مرضوضَ الصدر من السهام , مثقوب الصدر بذي الثلاث شعب ؛ سهمٌ في نحره , وسهم في حنكه , وسهمٌ في حلقه .
اللسان مجروحٌ من اللَّوك , والكبِد محترق , والشفاه يابسة من الظمأ , القلب محروقٌ من ملاحظة الشهداء في أطرافه , ومكسورٌ من ملاحظة العيال في الطرف الآخر , الكفُّ مقطوعٌ من ضربة زرعة بن شريك , والرمح في الخاصرة , مخضّب اللحية والرأس , يسمع صوتَ‏ الاستغاثات من عياله , والشماتات من أعدائه , بل الشتم والاستخفاف من الأطراف , ويرى‏ بعينه إذا فتحها القتلى‏ الموضوعة بعضها على‏ بعض , ومع ذلك كلّه لم يتأوّه في ذلك الوقت , ولم تقطر من عينه قطرة دمع , وإنّما قال : (( صبراً على‏ قضائك , لا معبودَ سواك يا غياث المستغيثين )) . وفي الزيارة : (( ولقد عجبتْ من صبرك ملائكة السماوات )) .
وروي عن السجّاد (عليه السّلام) : (( كلّما كان يشتدّ الأمر كان يشرق لونه , وتطمئنُّ جوارحه , فقال بعضهم : انظروا كيف لا يبالي بالموت ؟! ))(57) .





________
(1) سورة الزمر / 10 .
(2) معاني الأخبار / 261 .
(3) اُصول الكافي 2 / 91 ح 15 , باب الصبر .
(4) الكافي 2 / 91 ح 11 .
(5) نهج البلاغة ـ قصار الحكم / 55 .
(6) نهج البلاغة ـ الحكمة 31 .
(7) سورة الرعد / 22 .
(8) سورة البقرة / 155 ـ 157 .
(9) زيارة الناحية المقدّسة , المزار ـ للشيخ محمّد ابن المشهدي / 501 .
(10) بحار الأنوار 78 / 11 , عن مطالب السؤول .
(11) تحف العقول / 143 .
(12) تحف العقول / 163 .
(13) الكافي 2 / 88 ح 3 ـ باب الصبر .
(14) سورة ق / 39 .
(15) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 188 .
(16) اللهوف / 53 .
(17) اللهوف / 62 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 226 .
(18) تاريخ الطبريّ 7 / 300 , وغيره كثير .
(19) اللهوف / 53 .
(20) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للسيّد عبد الرزّاق المقرّم الموسويّ / 65 .
(21) ج 7 / 110 .
(22) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام الحسين (عليه السّلام) .
(23) عيد الغدير / 287 ـ 288 .
(24) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للمقرّم / 65 .
(25) ج 2 / 105 .
(*) أثبتنا ما بين المعقوفتين من أصل المصدر , هذا بالإضافة إلى تبديل ضمير المفرد المتكلم إلى ضمير الجمع حسب ما ورد في صحيح البخاري نفسه . ولكن نقول : ربما اعتمد الأخ المؤلِّف على نسخة اُخرى غير التي بين أيدينا فكانت خالية من بعض ما أشرنا إليه . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(26) مسكّن الفؤاد / 92 .
(27) الخصائص الحسينيّة / 40 .
(28) الخصائص الحسينيّة / 30 ـ 31 .
(29) الخصائص الحسينيّة / 33 .
(30) الدرّ النضيد / 212 ـ 213 , والقصيدة للسيّد حيدر الحلّيّ .
(31) بحار الأنوار 44 / 331 ـ 332 .
(32) يراجع من أراد التفصيل والمزيد : عوالم العلوم ـ للشيخ عبد الله البحرانيّ 17 / 95 ـ‏ 157 , ومعالم المدرستين ـ للسيّد مرتضى‏ العسكريّ 3 / 26 ـ 44 , وحول البكاء على‏ الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ للشيخ محمّد علي دانشيار / 14 ـ 63 , بالإضافة إلى‏ بحار الأنوار 43 / 217 ـ 268 , وإحقاق الحقّ ـ ملحقاته للسيّد المرعشيّ النجفيّ ج 11 .
(33) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزميّ 1 / 226 , واللهوف / 62 .
(34) الدرّ النضيد / 60 , من قصيدة للسيّد محسن الأمين العامليّ .
(35) الدرّ النضيد / 353 , والأبيات للشيخ حسن قفطان النجفي .
(36) الشهيد الخالد الحسين بن عليّ (عليه السّلام) / 47 .
(37) مسكّن الفؤاد / 80 .
(38) المناقب 4 / 91 , وتاريخ مدينة دمشق / 64 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي 1 / 23 .
(39) في اللغة : كئب كآبة : تغيّرت نفسه وانكسرت من شدّة الهمّ والحزن .
(40) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي 1 / 147 .
(41) مثير الأحزان ـ لابن نما / 39 .
(42) مصباح المتهجّد ـ للشيخ الطوسيّ / 574 , والإقبال ـ للسيّد ابن طاووس / 185 , عنهما البحار 101 / 348 ح1 .
(43) أسرار الشهادة / 423 .
(44) رياض المصائب / 33 .
(45) من قصيدة للعلاّمة الشيخ محمّد تقي آل صاحب الجواهر .
(46) بحار الأنوار 78 / 229 , عن تحف العقول / 233 .
(47) أمالي الصدوق / 292 .
(48) الاختصاص / 342 .
(49) بحار الأنوار 77 / 165 , عن غوالي اللآلي 1 / 289 .
(50) مثير الأحزان ـ لابن نما / 37 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي 2 / 33 .
(51) المناقب 2 / 223 .
(52) تاريخ الطبريّ 6 / 259 , ونسبه الخوارزميّ في مقتله 2 / 38 إلى‏ بعض من شهد الواقعة .
(53) تاريخ الاُمم والملوك ـ للطبريّ 4 / 345 , مطبعة الاستقامة بمصر .
(54) البداية والنهاية 4 / 10 .
(55) اللهوف / 67 .
(56) الكامل ـ لابن الأثير 4 / 31 , ومقتل الحسين (عليه السّلام) ـ للخوارزمي 2 / 35 .
(57) الخصائص الحسينيّة / 39 ـ 40 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page