الكلام هي الحروف المسموعة المنتظمة ، ومعنى كونه متكلِّماً هو أنّه أوجد الكلام (1).
وقال العلاّمة المجلسي : ( اعلم أنّه لا خلاف بين أهل الملل في كونه تعالى متكلّماً ، لكن اختلفوا في تحقيق كلامه وحدوثه وقدمه .
فالإمامية قالوا بحدوث كلامه تعالى ، وأنّه مؤلّف من أصوات وحروف ، وهو قائم بغيره . ومعنى كونه تعالى متكلّماً عندهم أنّه موجد تلك الحروف والأصوات في الجسم كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي (صلى الله عليه وآله) أو غيرهم كشجرة موسى ) (2).
وفي منهاج البراعة (3) أفاد أنّه قد تواترت الأنباء عن الرسل والأنبياء ، وأطبقت الشرائع والملل على كونه عزّ وجلّ متكلّماً ، لا خلاف لأحد في ذلك ، وإنّما الخلاف في معنى كلامه تعالى وفي قدمه وحدوثه .
فذهب أهل الحقّ من الإماميّة إلى أنّ كلامه تعالى مؤلّف من حروف وأصوات قائمة بجوهر الهواء ، ومعنى كونه متكلّماً هو أنّه موجد للكلام في جسم من الأجسام ، كالمَلَك والشجر ونحو ذلك .
وعلى مذهبهم فالكلام حادث ، لأنّه مؤلّف من أجزاء مترتّبة متعاقبة في الوجود وكلّ ما هو كذلك فهو حادث .
هذا ، ومن المعلوم أنّ الكلام من صفات الفعل فيكون حادثاً ، فمثل الصوت الذي أوجده في شجرة موسى لابدّ وأن يكون حادثاً ويكون بحدوثه غير مجرّد أيضاً شأن سائر المخلوقات ، فإنّ الخلقة تساوي الجسميّة .
وعلى الجملة فإيجاد الكلام ناشء من قدرته الخاصّة الذاتية ، إلاّ أنّ نفس كلامه تعالى حادث محدَث ، ومن صفات الفعل ، بدليل تصريح نفس كلامه المجيد : ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ ) (4) كما أفاده في حقّ اليقين (5).
ثمّ إنّ الدليل على متكلّميته تعالى ثابت قائم من الكتاب والسنّة والعقل :
أمّا الكتاب فآيات كثيرة منها :
1 ـ قوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (6).
2 ـ قوله تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ) (7).
3 ـ قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب ) (8).
وأمّا السنّة : فأحاديث عديدة منها :
1 ـ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب ذعلب اليماني الوارد في نهج البلاغة ، قال فيها :
( متكلّم لا برويّة ، مريد لا بهمّة ) (9).
2 ـ حديث أبي بصير قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول :
( لم يزل الله جلّ اسمه عالماً بذاته ولا معلوم ، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور . قلت : جعلت فداك ! فلم يزل متكلّماً ؟
قال : الكلام محدَث ، كان الله عزّ وجلّ وليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام ) (10).
3 ـ حديث صفوان بن يحيى قال : سأل أبو قرّة المحدّث من الرضا (عليه السلام) فقال : أخبرني ـ جعلني الله فداك ـ عن كلام الله لموسى ؟
فقال : الله أعلم بأي لسان كلّمه بالسريانية أم بالعبرانية ، فأخذ أبو قرّة بلسانه فقال : إنّما أسألك عن هذا اللسان .
فقال أبو الحسن (عليه السلام) :
( سبحان الله ممّا تقول ! ومعاذ الله ! أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم متكلّمون ، ولكنّه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء ، ولا كمثله قائل فاعل .
قال : كيف ذلك ؟
قال : كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بشقّ فم ولسان ، ولكن يقول له : ( كن ) فكان بمشيئته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردّد في نفس ) (11) الخبر .
4 ـ وفي الخصال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :
( أنّ الله ناجى موسى (عليه السلام) بمئة ألف كلمة وأربعة وعشرين ألف كلمة في ثلاثة أيّام ولياليهنّ ، ما طعم فيها موسى (عليه السلام) ولا شرب فيها ، فلمّا انصرف إلى بني إسرائيل وسمع كلامهم مقتهم لما كان وقع في مسامعه من حلاوة كلام الله عزّ وجلّ ) (12).
5 ـ وفي التوحيد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) في حديث :
( فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى إلى الطور وسأل الله تعالى أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه ، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام .
إنّ الله عزّ وجلّ أحدثه في الشجرة ثمّ جعله منبعثاً منها حتّى يسمعوه من جميع الوجوه ) (13).
6 ـ وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) :
( كلّم الله موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات وشفة ولا لَهَوات ، سبحانه وتعالى عن الصفات ) (14).
7 ـ في حديث إحتجاج اليهود مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :
( ... قالت اليهود : موسى خير منك . قال النبي (صلى الله عليه وآله) : ولِمَ ؟
قالوا : لأنّ الله عزّ وجلّ كلّمه بأربعة آلاف كلمة ولم يكلّمك بشيء .
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : لقد اُعطيتُ أنا أفضل من ذلك .
قالوا : وما ذاك ؟
قال : هو قوله عزّ وجلّ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاَْقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) (15) وحُملت على جناح جبرئيل حتّى انتهيت إلى السماء السابعة ، فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنّة المأوى ، حتّى تعلّقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش : ( إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر الرؤوف الرحيم ) ورأيته بقلبي وما رأيته بعيني فهذا أفضل من ذلك .
قالت اليهود : صدقت يا محمّد وهو مكتوب في التوراة ) (16).
وأمّا العقل :
فلأنّ الكتب الإلهيّة والصحف السماوية والأحاديث القدسية والتكلّم والمناجات مع بعض المقامات النبوية ، كرسول الله أو كليم الله ، لا تتحقّق إلاّ بخطاب الله وكلامه وتكلّمه ، فهذه الاُمور من اللازم البيّن فيها أن يتكلّم بها الله تعالى .
فيكون العقل حاكماً بكونه متكلّماً ... له قدرة الكلام ، بل أحدث الكلام ، ومن كماله هذا التكلّم بهذه الاُمور القدسيّة ، فتكلّمه ثابت بالأدلّة الثلاثة الصريحة.
---------------------------
(1) مجمع البحرين : (ص536 مادّة ـ كلم ـ ) .
(2) بحار الأنوار : (ج4 ص150) .
(3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : (ج10 ص263) .
(4) سورة الأنبياء : (الآية 2) .
(5) حقّ اليقين : (ج1 ص33) .
(6) سورة النساء : (الآية 164) .
(7) سورة الأعراف : (الآية 143) .
(8) سورة الشورى : (الآية 51) .
(9) نهج البلاغة : (ص120 رقم الخطبة 174 من الطبعة المصرية) .
(10) بحار الأنوار : (ج4 ص150 ب6 ح1) .
(11) بحار الأنوار : (ج4 ص152 ب6 ح4) .
(12) تفسير الصافي : (ج1 ص521) .
(13) تفسير الصافي : (ج1 ص522) .
(14) نفس المصدر .
(15) سورة الإسراء : (الآية 1) .
(16) الإحتجاج للطبرسي : (ج1 ص55) .