المؤلِّف : إنَّك قد عرفت ـ في باب تحريم عمر مُتعة الحَجِّ ـ معنى مُتعة الحَجِّ ، وأنَّ الله تبارك وتعالى قد أحلَّها في كتابه ورسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في سنته ، وأنَّها للأبد ، أو لأبد الأبد ، أو إلى يوم القيامة ، على اختلاف التعبيرات في الروايات المُتواترة ؛ فلا حاجة هنا إلى إعادة الكلام في هذا كلِّه أبداً ، وإنَّما اللازم هنا ، هو ذكر الأخبار المُشتملة على نهي عثمان مِن مُتعة الحَجِّ ، كما نهى عنها عمر مِن قبلُ ، على ما عرفت التفصيل كما هو ، فنقول هذه جُملة مِن تلك الأخبار مِمَّا ظفرتُ عليه على العُجالة .
1 ـ روى البخاري بسنده ، عن مروان بن الحكم ، قال : شهدتُ عثمان وعليَّاً ، وعثمان
ينهى عن المُتعة وأنْ يُجمع ( 2 ) بينهما ، فلمَّا رأى عليٌّ ذلك ؛ أهلَّ بهما .
[ فقال : ] ( لبّيك بعُمرةٍ وحَجَّة ) .
قال : ( ما كنتُ لأدعَ سنّة النبي ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) لقول أحد ) ( 3 ) .
2 ـ روى البخاري بسنده ، عن سعيد بن المسيّب ، قال : اختلف عليٌّ وعثمان ، وهما بعسفان في المُتعة ، يعني : في مُتعة الحَجِّ .
فقال عليّ : ( ما تُريد إلاّ أنْ تنهى عن أمرٍ ، فعله النبي { صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم } ) ، فلمَّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعاً ( 4 ) .
3 ـ روى مسلم بسندين ، عن عبد الله بن شقيق ، قال : كان عثمان ينهى عن المُتعة ، وكان عليٌّ يأمر بها .
فقال عثمان لعليّ كلمة ، ثمَّ قال عليٌّ : ( لقد علمتَ أنَّا قد تمتَّعنا مع رسول الله { صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم } ) .
فقال : أجل ، ولكنَّا كنَّا خائفين ( 5 ) .
وذكره المُتَّقي أيضاً ، وقال : أخرجه أبو عوانة ، والطحاوي ، والبيهقي في السُّنن الكبرى ( 6 ) .
المؤلِّف : وتعليل عثمان للتمتُّع مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأنَّا كنَّا خائفين ، هو في غاية الوهن والفساد ؛ فإنَّ مُقتضى الخوف مِن أهل الجاهليَّة والشرك ، هو أنْ لا يتمتَّعوا ولا يأتوا بالعُمرة في أشهُر الحَجِّ ؛ مُجاملةً معهم ؛ لأنَّهم يرونها مِن أفجر الفجور ـ كما تقدَّم غير مرة ـ لا أنْ يتمتَّعوا ويأتوا بالعُمرة في الحَجِّ ، وفي أشهُر الحَجِّ على رغم أنف أهل الجاهليَّة والشرك .
وإذا كان مُراد عثمان مِن الخوف : إنَّا كنَّا خائفين مِن أهل الشرك ، أنْ لا يدعونا للعُمرة بعداً ، في غير أشهُر الحَجِّ ؛ فلذلك أمر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالتمتُّع ، وبإتيان العُمرة في أشهُر الحَجِّ في تلك السنة ، فهذا أفسد مِن الأوَّل بكثير ؛ فإنَّ السبب في تشريع التمتُّع ؛ لو كان هو ذلك لَما صرَّح به رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : بأنَّ مُتعة الحَجِّ هي للأبد ، أو لأبدٍ ، أو إلى يوم القيامة .
وقد عرفت في باب تحريم عمر مُتعة الحَجِّ أنَّها هي كذلك أي للأبد .
وأنَّ الروايات بذلك فوق التواتر ، فراجع .
هذا كلُّه ، مُضافاً إلى ما يحتمل في المقام ، لولا الظنُّ به ، أو القطع مِن أنَّ تشريع التمتُّع مِن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هو كان في حَجَّة الوداع ؛ ومِن الضروري أنَّ عام حَجَّة الوداع ، هو أقوى أيَّام النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فكيف يأمر فيه بالتمتُّع خوفاً مِن أهل الشرك والجاهليَّة .
وهذا كلُّه ـ لَعمري ـ واضح ظاهر ، لا يرتاب فيه أحد ، غير إنَّ :
( ... وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ) النور : 40 .
( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ... ) الأعراف : 186 .
4 ـ روى النسائي بسنده ، عن سعيد بن المسيّب ، يقول :
حَجَّ عليّ وعثمان ، فلمَّا كنّا ببعض الطريق ، نهى عثمان عن التمتُّع ، فقال عليّ : ( إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا ) ، فلبّى عليٌّ وأصحابه بالعُمرة ، فلم يَنههم عثمان .
فقال عليّ : ( ألم أُخبر إنَّك تنهى عن التمتُّع ؟! ) .
قال : بلى .
قال له عليّ : ( ألم تسمع رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) تمتَّع ) .
قال : ( بلى ) ( 7 ) .
5 ـ روى مالك بن أنس ، عن المقداد بن الأسود : أنَّه دخل على عليّ بن أبي طالب بالسُّقيا ( 8 ) ـ إلى أنْ قال ـ فقال : هذا عثمان بن عفان ينهى أنْ يُقرَن ( 9 ) بين الحَج والعُمرة ؛ فخرج عليّ بن أبي طالب ، وعلى يديه أثر الدقيق والخبط ، فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه ، حتَّى دخل على عثمان بن عفان .
فقال : ( أنت تنهى أنْ يُقرَن بين الحَجِّ والعُمرة ؟! ) .
فقال عثمان : ذلك رأيي ؛ فخرج عليّ مُغضباً وهو يقول : ( لبّيك اللَّهمَّ بحَجٍّ وعُمرةٍ مَعاً ) ( 10 ) .
6 ـ روى الطحاوي بسنده ، عن مروان بن الحكم ، قال : كنَّا نسير مع عثمان بن عفان ، فإذا رجلاً يهتف بالحَجِّ والعُمرة .
فقال عثمان : مَن هذا ؟
قالوا : عليّ ( 11 ) .
7 ـ روى الطحاوي بسنده ، عن عبد الله بن شقيق : أنَّ عثمان خطب فنهى عن المُتعة ؛ فقام عليّ [ عليه السلام ] ، فلبَّى بهما ؛ فأنكر عثمان ذلك .
فقال له عليّ [ عليه السلام ] : ( إنَّ أفضلنا في هذا الأمر أشدُّنا اتِّباعاً له ) ، يعني : لرسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) ( 12 ) .
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) ومعنى أنَّ عثمان ينهى عن المُتعة وأنْ يُجمع بينهما هو : أنَّه ينهى أنْ يُجمع بين العُمرة والحَجِّ في أشهُر الحَجِّ ، فالجمع بين العُمرة والحَجِّ هو عبارة أُخرى عن مُتعة الحَجِّ .
وتوضيحه : إنَّك قد عرفت ـ في المُقدِّمة الثانية ، مِن باب تحريم عمر مُتعة الحَجِّ ـ أنَّ العمرة في أشهُر الحَجِّ ، أعني : في شوال ، وذي القعدة ، وذي الحَجَّة ، كانت عند أهل الجاهليَّة مِن أفجر الفجور ، وكانوا يقولون : إذا برأ الدُّبَر وعفا الأثَر وانسلخ صَفر ، أو دخل صَفر حلَّت العُمرة لمَن اعتمر .
كما أنَّك قد عرفت أيضاً ، في الباب المذكور ، تحت عنوان :
ما العِلَّة في تحريم عمر مُتعة الحَجِّ ، أنَّ عمر قد أمر بالفصل بين العُمرة والحَجِّ ، وأنْ لا يُجمع بينهما ، وأنْ تُجعل العُمرة في غير أشهُر الحَجِّ ؛ إحياءً لسُنَّة أهل الشرك والجاهليَّة ؛ مُعلِّلاً ذلك في الظاهر ، بأنَّه أتمُّ لحَجِّ أحدكم ، وأتمُّ لعُمرته قاصداً بذلك تمويه الأمر على الجُهَّال مِن الناس .
فعثمان الذي ينهى عن الجَمع بين العُمرة والحَجِّ ، مقصوده هو النهي عن مُتعة الحَجِّ ، أي : عمَّا نهى عنه عمر ؛ اتِّباعاً لسُنَّته ؛ وإحياء لبدعته ؛ وإماتة لسُنَّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وإنْ كان في ذلك عِصيان الله ورسوله ، بلْ كان ذلك كفراً مَحضاً يوجب الارتداد والقتل شرعاً ؛ لأنَّه حُكم بغير ما أنزل الله ؛ وقول في دين الله بالرأي ، فراجع : باب تحريم عمر مُتعة الحَجِّ تحصل لك بصيرة في المقام بنحو أكمل . ـ المؤلّف ـ
( 2 ) صحيح البخاري : 2/151ط استانبول ، كتاب الحَجِّ باب المُتمتِّع . صحيح النّسائي : 2/14ط المطبعة الميمنيَّة بمصر رواه : بعدّة طُرق .
سُنن الدرامي : 2/69 ـ 70 . مُسند الطيالسي : 1/91ط حيدر آباد ـ الهند .
السُّنن الكبرى للبيهقي : 4/352 ـ 5/22 ، ورواه الطحاوي في معاني الآثار ، في كتاب مناسك الحَجِّ .
كنز العمَّال : 3/31 باب التمتُّع والإقران والإفراد بالحَجِّ ط استانبول . مُسند أحمد بن حنبل : 1/136 مُنسد الطيالسي : 1/16ط حيدر آباد ـ الهند . السُّنن الكبرى للبيهقي : 5/22 . شرح معاني الآثار ، كتاب مناسك الحَجِّ ، رواه بطريقين . انظر الطبعة الأُولى منه .
( 3 ) صحيح البخاري : 2/153 ، باب التمتُّع والإقران والإفراد بالحَجِّ ط استانبول . مُسند أحمد بن حنبل : 1/136 . مُسند الطيالسي : 1/16ط حيدر آباد ـ الهند . السُّنن الكبرى للبيهقي : 5/22. شرح معاني الآثار ، كتاب مناسك الحَجِّ ، رواه بطريقين . انظر الطبعة الأُولى منه .
( 4 ) صحيح مسلم : 4/46 ، باب جواز التمتُّع ط استانبول . سُنن البيهقي : 5/225 . المُسند رواه بطريقين : 1/61 ـ 97 .
( 5 ) كنز العمَّال : 3/33ط حيدر آباد ـ الهند .
( 6 ) سُنن النسائي : 5/152 ـ التمتُّع . مُستدرك الصحيحين : 1/472 رواه ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم . مُسند أحمد بن حنبل : 1/57 ـ 60 . سُنن الدار قطني : 2/287 رقم الحديث 231 رواه بطريقين .
( 7 ) بالسقيا قرية جامعة بطريق مَكَّة . عن هامش الموطِّأ 336.
( 8 ) إنَّ النهي عن القِران بين الحَجِّ والعُمرة ، هو عين النهي عن الجمع بينهما ، وقد عرفت ـ في الرواية الأولى في ذيل التعليق على قوله ، وعثمان ينهى عن المُتعة ، وأنْ يُجمَع بينهما ـ أنَّ الجمع بين العُمرة والحَجِّ ، هو عبارة أُخرى عن مُتعة الحَجِّ فتأمَّل التعليق جيِّداً ـ المؤلف ـ .
( 9 ) موطِّأ الإمام مالك : 1/336 كتاب الحَجِّ ـ باب القِران في الحَجِّ ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي .
( 10 ) شرح معاني الآثار : 2/157 ، تحقيق الشيخ محمد زهري النجار .
( 11 ) المصدر نفسه : 2/157 ، كتاب مناسك الحَجِّ .
2 ـ باب ( إنَّ الله ورسوله قد أحلاّ مُتعة الحَجِّ للأبد وقد حرَّمها عثمان كما حرَّمها عمر مِن قبل ) ( 1 ) .
- الزيارات: 1270