1 ـ روى الحاكم بسنده ، عن عبد الرحمان ، قال :
كنت مع أبي الدرداء ، فجاء رجل مِن قِبَل المدينة فسأله ، فأخبره أنَّ أبا ذر مُسيَّر إلى الرَّبذَة .
فقال أبو الدرداء : إنَّا لله ، وإنَّا إليه راجعون ، لو أنَّ أبا ذر قطع لي عُضواً أو يداً ما هجَّنته ؛ بعدما سمعت النبي ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) يقول : ( ما أظلَّت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء مِن رجُلٍ أصدق لَهْجَةً مِن أبي ذر ) [ رحمه الله ] ( 2 ) .
2 ـ روى الإمام أحمد بن حنبل بسنده ، عن عبد الرحمان بن غنم : أنَّه زار أبا الدرداء بحمص ، فمكث عنده ليالي ، وأمر بحماره فأوكف ، فقال أبو الدرداء :
ما أراني إلاّ مُتّبعك ؛ فأمر بحماره فأُسرج ، فسارا جميعاً على حماريهما ، فلقيا رجُلاً شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابيَّة ، فعرفهما الرجُل ولم يعرفاه ، فأخبرهما خبر الناس . ثمَّ إنَّ الرجل قال :
وخبر آخر كرهت أنْ أُخبركما ؛ أراكما تَكرهانه
فقال أبو الدرداء : فلعلّ أبا ذر نُفيَ ؟
قال : نعم والله . فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريباً مِن عشر مَرَّات .
ثم قال أبو الدرداء : فارتقبهم واصطبر ( 3 ) كما قيل لأصحاب الناقة :
اللَّهمَّ إنْ كَذَّبوا أبا ذر ، فإنِّي لا أُكذِّبه ، اللَّهمَّ وإنْ اتَّهموه ، فأنِّي لا أتَّهمه ، اللَّهمَّ وإنْ استغشُّوه ، فإنِّي لا أستغشُّه ؛ فإنَّ رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) كان يأتمنه حين لا يأتمن أحداً ، ويسير إليه حين لا يسير إلى أحد .
أمْا والذي نفس أبي الدرداء بيده ، لو أنَّ أبا ذر قطع يميني ما أبغضته ؛ بعد الذي سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) يقول :
( ما أظلَّت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء مِن ذي لَهْجَةٍ أصدق مِن أبي ذر ) ( 4 ) .
المؤلِّف : لا إشكال في أنَّ الحديثين الشريفين ، قد دلاَّ على فضل أبي ذر فضلاً عظيماً ، وأنَّه قد نُفي ( رضوان الله عليه ) ، وإنْ لم يكن في الثاني تصريح بالرَّبذَة ، ولا في الحديثين تصريح بالذي قد نفاه ، ولكنَّ القصَّةَ مشهورةٌ واضحةٌ جِدَّاً ، مُسجَّلة في التواريخ وغيرها مِن الكُتب ، يعرفها المسلمون وغيرهم ، وأنَّ النافي له عثمان ، وأنَّه قد نفاه إلى الرَّبَذَة لا إلى غيرها .
ثمَّ إنَّ ههنا حديثاً في شأن عبادة بن الصامت الأنصاري ، تُشبه قصَّته قصَّة أبي ذر ؛ فمِن المُناسب ذكره في خاتمة هذا الباب ، وهو ما رواه الإمام أحمد بن حنبل ، وفيه قال عبادة لأبي هريرة :
( 3 ـ ) يا أبا هريرة ، إنَّك لم تكُن معنا ، إذ بايعنا رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) ، إنَّا بايعناه على السمع والطاعة ، في النشاط والكَسَل ، وعلى النفقة ، في اليسر والعسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ، وعلى أنْ نقول في الله تبارك وتعالى ، ولا نخاف لومة لائم . [ وفيه : ] وعلى أنْ ننصُر النبيّ ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) إذا قَدِم علينا يثرب ، فنمنعه ما نمنع منه أنفسنا ، وأزواجنا ، وأبنائنا ، ولنا الجَنَّة .
فهذه بيعة رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) التي بايعنا عليها ، فمَن نَكث فإنَّما يَنكث على نفسه ، ومَن وفَّى ؛ وفَّى الله تبارك وتعالى بما بايع عليه نبيّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فكتب معاوية إلى عثمان بن عفان :
أنَّ عبادة بن الصامت ، قد أفسد عليَّ الشام وأهله ، فإمَّا يكُن إليك عبادة ، وإمَّا أُخلِّي بينه وبين الشام ؛ فكتب إليه أنْ رحِّل عبادة ، حتَّى تُرجعه إلى داره مِن المدينة ؛ فبعث بعبادة حتَّى قَدِم المدينة ، فدخل على عثمان في الدار ، وليس في الدار غير رجُلٍ مِن السابقين ، أو مِن التابعين ، قد أدرك القوم . فلم يُفجَ عثمان ، إلاّ وهو قاعد في جنب الدار ، فالتفت إليه .
فقال : يا عبادة بن الصامت ، مالنا ولك ؟
فقام عبادة بين ظهري الناس فقال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) ، أبا القاسم محمداً يقول : ( إنَّه سَيَلي أُموركم بعدي رجال ، يعرِّفونكم ما تُنكرون ويُنكرون عليكم ما تَعرفون ، فلا طاعة لمَن عصى الله تبارك وتعالى ) ( 5 ) .
المؤلِّف : إنْ كان مقصود عبادة بن الصامت ( رضوان الله عليه ) مِن قوله : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) أبا القاسم محمداً يقول : ( إنَّه سَيَلي أُموركم بعدي رجال ... ) إلخ .
أنْ عثمان هو مِمَّن يأمر بالمُنكر ، وينهي عن المعروف ؛ فلا تجب إطاعته ؛ لأنَّه مِمَّن عصى الله تعالى .
فهذا مِمَّا يدلُّ على تفسيقه له ، وإنْ كان مقصوده :
إنَّ معاوية هو مِمَّن يأمر بالمُنكر ، وينهى عن المعروف ؛ فهذا مِمَّا يدلُّ على تفسيقه لمعاوية وعثمان جميعاً ؛ فإنَّ مَن استعمل الفاسق فاسق أيضاً .
وعلى كلَّ حال ، يظهر مِن أحاديث هذا الباب ، أنَّ أبا ذر ، وعبادة ( رضوان الله تعالى عليهما ) يجريان مَجرى واحداً ، وكانا هما مِن القوَّالين بالحَقِّ ، الآمرين بالمعروف ، والناهين عن المُنكر ، ولم يأخذهما في الله لومة لائم أبداً ؛ فأوذوا في سبيل الله ، وظُلمِوا ظُلماً شديداً .
( ... وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ )
( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ) .
ـــــــــــــــــــــ
( 1 ) فيه ثلاثة أحاديث .
( 2 ) مُستدرك الصحيحين : 3/344 .
( 3 ) سورة القمر : 26 ، وتمام الآية هكذا : ( إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ... ) الآية .
( 4 ) المُسند : 5/197 .
( 5 ) مُسند الإمام أحمد : 5/325 .
5 ـ باب ( ما جاء في فضل أبي ذر وأنَّ عثمان قد نفاه إلى الرَّبذَة ) ( 1 ) .
- الزيارات: 1558