أولا : صلح الإمام الحسن بن علي ( عليهم السلام) مع معاوية
روى ابن أبي الحديد في كتابة ( شرح نهك البلاغة ) عن أبي الفرج الأصفهاني عن سفيان بن أبي ليلى قال : ( أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية ، فوجدته بفناء داره ، وعنده رهط ، فقلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين وقال : عليك السلام يا سفيان . إنزل فنزلت ، فعقلت راحلتي ثم أتيته ، فجلست إليه ، فقال : كيف قلت يا سفيان ؟ قلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين . فقال : ماجر هذا منك إلينا ؟ . فقلت : أنت والله – بأبي أنت وأمي - أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة ، وسلمت الأمر إلى اللعين ابن العين ابن آكلة الأكباد ، ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك . وقد جمع الله عليك أمر الناس . فقال : يا سفيان ، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به وإني سمعت عليا يقول :
سمعت رسول الله ( ص ) يقول : لا تذهب الليالي والأيام حتى يجمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم (32) ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع لا ينظر الله إليه ، ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ، ولا في الأرض ناصر ، وإنه لمعاوية وإني عرفت أن الله بالغ أمره . ثم قال لي : ما جاءنا بك يا سفيان ؟
قلت : حبكم ، والذي بعث محمدا للهوى ودين الحق . قال : فابشر يا سفيان فإني سمعت عليا يقول : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : يرد علي الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين ، يعني السبابتين . ولو شئت لقلت هاتين يعني السبابة والوسطى ، إحداهما تفضل على الأخرى ، أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر .
والفاجر حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد ( ص ) (33)
هذه هي رؤية الإمام الحسن سلام الله عليه لتطور الأوضاع في الأمة الإسلامية ، وإنه سلام الله عليه لم يسلم الخلافة لمعاوية لأنه يعده قيادة شرعية واجبة السمع والطاعة ، وإنما في مواجهة ضرورة قاهرة أملتها ضغوطات الواقع وتخاذل المتخاذلين كما أملتها معرفته بما ستؤول إلى إقرار بشرعية الغضب والعدوان ، وها هو يرد على لسان ابن آكلة الأكباد حين خطب خطبته الفاجرة في افتتاح دولته قائلا : ( إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ، ولا لتزكوا إنكم تفعلون ذلك وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون ) (34) . فيرد عليه الإمام الحسن ) ( ع ) : ( إن الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبية وليس الخليفة من سار بالجور ذاك ركل ملك ملكا تمتع
به قليلا ثم يتنخمه ، تنقطع الذمة وتبقى تتبعه وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) .
لقد كانت الأمة في حاجة إلى هذا الخطاب الواعي من إمام الحق الذي يشخص الواقع لا أن يصبح جزءا منه ومن أدواته ، هذه هي مهمة العلماء ، فإذا قام الأئمة ( ع ) والعلماء من بعدهم بواجبهم بقيت التبعة على الذين خذلوا الحق ، وأيدوا الباطل .
لماذا أغفل الشيخ البخاري هذه الحقائق ولم يرو شيئا عنها ؟
لماذا لم يرو هؤلاء القوم شروط صلح الإمام الحسن بن علي مع معاوية ، وهي شروط تنبه المسلمين أنه مهما كانت ضغوط الواقع ، وجبروت الفراعنة فإنه لا يمكن إسباغ الشرعية على حكومات الجور والعدوان .
ونقرأ هذه الشروط ، كما رواها الشيخ الصدوق ، قال : ( بايع الحسن بن علي ، صلوات الله عليه ، معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين ، ولا يقيم عنده شهادة وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي شيئا ، وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل ويوم صفين ألف ألف درهم ) (35) .
إنه وضع للقتال وليس تسليما للرقاب من غير قيد ولا شرط ، إنه رجل تملك ملكا تمتع به قليلا ثم ( يتنخمه ) تنقطع الذمة وتبقى التبعة .
لم يحدثنا التاريخ أن الحسن بن علي ( ع ) سعى في تثبيت ملك بني أمية ، وتوعد من خالفهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وكيف يعقل أن ينتقل الحال بإمام عظيم هو الحسن ( ع ) من قيادة المواجهة ضد المد الأموي ليصبح ذيلا تابعا في نظام يتخذ من السلطة هدفا لا وسيلة لإقامة العدل ، إنني أوقن أن الحديث عن السمع والطاعة في مواجهة هذه الحكومات الجائرة هو خط مريب للأوراق ، وكان الأولى بهؤلاء الرواة أن يتنزهوا عنه .
__________________________________
( 32 ) السرم لغة : طرف المعي المستقيم والدبر .
( 33 ) أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل الطالبين ، ص 76 ط . الأعلمي - بيروت 1408 ه / 1987 م . وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة ، 4 / 16 ط . دار الهدى الوطنية - بيروت - لبنان . غير مؤرخ .
( 34 ) المصدر نفسه .
( 35 ) الشيخ الصدوق ، علل الشرائع ، 1 / 212 . وفي ما يلي نورد نص معاهدة الصلح بين الإمام الحسن ( ع ) ومعاوية :
1 - تسليم الأمر إلى معاوية ، على أن يعمل بكتاب الله ، وبسنة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وبسيرة الخلفاء الصالحين .
2 - أن يكون الأمر للحسن من بعده ، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين ، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد .
3 - أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة ، وأن لا يذكر عليا ألا بالخير .
4 - إستثناء ما في بيت مال الكوفة ، وهو خمسة آلاف ألف درهم ،= فلا يشمله تسليم الأمر . وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن ( ع ) كل عام ألفي ألف درهم ، وأن يفضل بني هاشم في العطاء والصلاة على بني عبد شمس ، وأن يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم ، وأن يجعل ذلك من خوارج دار أبجرد و ( ودار أبجرد ولاية بفارس على حدود الأهواز )
5 - على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله ، في شامهم ، وعراقهم ، وحجازهم ، ويمنهم ، وأن يؤمن الأسود والأحمر وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم ، وأن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة ( أي بحقد ) .
وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا ، وأن لا ينال أحدا من شيعة علي بمكروه ، وإن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ، وأن لا يتعقب عليهم شيئا ، ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ، ويوصل إلى كل ذي حق حقه ، وعلى ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا للتفاصيل أنظر : تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص 194 .
مقاتل الطالبيين للأصفهاني ، ص 26 . الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، ص 200 . تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/126 . ( أحداث سنة إحدى وأربعين ) .