الخلفاء ما داموا صحابة
وما دام ممثلو هذا التيار قد عرفوا بالصحابة ، وحتى لا تمسي هذه الميزة عائقا في فهم طبيعة الاغتصاب ، ولا تتحول " الصحبة " إلى أمر يضبب الرؤية في خلفيات التحريف .
كان لا بد من الوقوف عند هذا الموضوع لتبيان حقيقته ، وهدم ما علق به من تداعيات أسطورية تعيق أي محاولة لفهم حقيقة وملابسات الواقعة .
لم يكن للصحبة مفهوم على عهد رسول الله ( ص ) بالمعنى الاصطلاحي للكلمة وكل ما في الأمر إنها تعبير لغوي عن مجموعة من الناس تختلف أهواءهم وتتنوع نزعاتهم اجتمعوا حول رسول الله ( ص ) وصاحبوه في رحلته كل وفق هواه ولم تكن الصحبة تعني صك غفران يعوض امتناع الصحابي عن العمل الصالح ، أو تعصمه عن الارتداد .
ولعل ما يجعل الحديث عن الصحبة صعب مستصعب ، لا يستحمله إلا ذووا الألباب النيرة وأصحاب الحكم المتعالية . . إن اقترن وصف الصحابة بضروب من المواقف والوقائع شكلت في ذهن الجمهور قرينة على عصمتهم .
وأهم تلك القرائن إنهم حضروا بيعة الرضوان التي ذكرها القرآن ومدح أهلها ، وبعضهم ذهب بعيدا حين ذكر عشرة منهم من المبشرين بالجنة ، وآخرون ذكروا أن أهل بدر مغفور لهم ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم لحديث حاطب بن أبي بلتعة ، وهلم جرا .
لقد اختلف مفهوم الصحابي من جيل إلى جيل ، ومن مبنى إلى آخر ، ففي جيل الصحابة الأوائل لم تكن للصحبة كما ذكرنا غير ذلك المفهوم اللغوي ، بينما بدأ هذا المفهوم يتبلور في صور اصطلاحية في عصر التدوين ، وفي ضوء علم الحديث الذي بدأت قضية الجرح والتعديل فيه تقف عند رواة الأخبار . وهو عصر متأخر عن جيل الصحابة . وكانت له دوافع معينة اقتضتها عمليات الجرح والتعديل . وهي تنزيه الصحابة عن كل تجريح والأخذ بعد التهم مطلقا .
وسبق الأخذ بعدالتهم ، كلام عن تعريفهم ، بشكل يبرر مذهب المحدثين ، ويضفي عليهم مسحة اصطلاحية معينة . فالصحبة كمصطلح شرعي هو من وضع المتأخرين من رجال الحديث . كما أن مفهوم الصحبة يختلف معه مبنى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وسيرة الصحابة ، ومبنى المحدثين المتأخرين .
ولتوضيح ذلك ، نرى من الأجدر التطرق إلى مفهوم الصحابي من هذه الزوايا المتفرقة .
تعريف الصحابي وعدالته عند المتأخرين ، والرد عليهم
عرف المتأخرون الصحابي تعريفا مناقضا لروح الشريعة الإسلامية ، ومنافيا للبناء العقلائي .
فهم من جهة اعتبروا الصحابي هو كل من رأى الرسول ( ص ) ، سواء أكان كبيرا أم طفلا صغيرا . بل حتى من لم يره من العمي لتعذر الرؤية عليهم . بل ويعد صحابيا من رآه الرسول ( ص ) ولو عن بعد ، سواء جالسه أم لم يجالسه ، غزا معه أو لم يغز .
وعلى ذلك استقر رأي الجمهور . يقول في ذلك بن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة : " الصحابي من لقي النبي ( ص ) مؤمنا به ، ومات على الإسلام فيدخل في من لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ، ومن روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا معه أو لم يغز . ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض كالعمى " .
ويتبين من خلال هذا التعريف ، انحراف بالمفهوم من إطاره اللغوي الظاهر إلى دائرة الاصطلاح ، وهذا ما جعل بن حجر العسقلاني يقول : " إن اسم صحبة النبي ( ص ) مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق على اسم صحبة لغة وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة " .
وطبيعي ، إن هذا التحديد يخالفه العقلاء من حيث كونه متجاوزا للغة والعرف ، ومتقوما بتواضع المتأخرين واصطلاحهم من دون قرينة تنهض بما يخالف اللغة والعرف . وحكموا بعد إطلاق تعريفهم على عدالتهم جميعا ، واعتبروا أغلاطهم غير منافيه لعدالتهم .
وبهذا انتهى بالبعض إلى اعتبار الصحبة أقوى من الإيمان وفي ذلك خروج صريح عن منطق الإسلام الذي لا يعطي صكوكا بقدر ما يحكم على الأعمال الصالحة .
ذكر صاحب الإصابة : " اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف ذلك إلا شذوذ من المبتدعة ( 77 ) " .
وذكر النووي في التقريب : " الصحابة كلهم عدول ، من لابس الفتنة وغيرهم " . ويبدو من خلال ما اتفقوا عليه ، أن العدالة شئ ملازم للصحبة . بينما العدالة شأن اصطلاحي يختلف عن الصحبة .
فالعدالة لها ضوابط محددة ، وشرائط مسطرة . فلا لزوم بينها والصحبة . إلا من جهة التعسف الذي جرد عليه المزورون والمتحجرون . لأن تلك الملازمة لم يكن متعارف عليها في زمن الصحابة أنفسهم ، وفيما أدركوه من القرآن وسنة رسول الله ( ص ) .
فالصحابة عاشوا فترة طويلة من الصراع بعد وفاة الرسول ( ص ) عملوا فيها السيف على رقاب بعضهم البعض . وبيتوا لبعضهم البعض . وتقاتلوا فرقا فرقا .
ولو كان للصحبة مفهوم غير لغوي أو أن العدالة كانت من لوازمها . إذن لكان هذا الرهط أولى بالالتزام بهذا الأمر . وإذا كان التجريح لا يطال ، الصحابة . فكان أولى بهؤلاء أن لا يجرحوا بعضهم بعضا .
ترى فهل كانت الصحبة عاصمة للصحابة من النار كما أدرك ذلك الصحابي نفسه ، وهل أن الصحبة ملازمة للعدالة في رأي الصحابي نفسه ؟ . روى البخاري عن زيد بن ثابت : " لما خرج النبي ( ص ) إلى أحد رجع ناس من أصحابه فقالت فرقة منهم : نقتلهم ، وقالت فرقة : لا نقتلهم ، نزلت الآية الكريمة : " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا " . وحكم كل من عمار وبن مسعود بالكفر على عثمان وثاروا ضده مع جمع من الصحابة " وقالت عائشة اقتلوا نعثلا - تعني عثمان - فقد كفر ( 78 ) " .
وفي ذلك قال لها ابن أم كلاب : وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا أنه قد كفر ( 79 ) ويوم السقيفة عندما قال أناس : إتقوا سعدا ، لا تطؤوه : قال عمر : اقتلوه ، قتله الله .
وإذا تبين أن الصحابة لم يكونوا يفهمون الصحبة بذاك المعنى الذي اصطلح عليه أهل الحديث المتأخرين . أدركنا إذ ذاك أنهم رجال كباقي الرجال مرهونون هم أيضا بذنوبهم ، ومطالبون بالعمل الصالح ، وموعودون بنار جهنم .
فإذا كان هذا هو موقف الصحابي من أخيه الصحابي ، ترى أي موقف كان للرسول ( ص ) منهم ؟ . كان رسول الله ( ص ) يسكت عمن حوله ، ويسمي كل من حوله صاحب . وكان ذلك تساهلا منه وتأدبا .
وكانت كلمة صحابي تقال في مواقع مختلفة . فتارة يذكرها في السفر وأخرى في الحضر ، مرة يعني بها من صاحبه في الطريق . وأحيانا يقولها عمن صاحبه في قضيته . وأخرى لمن أحاط به وسمع كلامه . ولهذا سمى الذين هموا بقتله ب " أصحابي " ، يوم تبوك كما تقدم .
إن كلمة صحابي في عهد رسول الله ( ص ) كانت تأخذ طابعا أدبيا يشترك فيها البر والفاجر ، المؤمن والمنافق .
ولم تكن العدالة منحة رخيصة عند الصحابي في عهد رسول الله ( ص ) بل هي أمر له صلة بعمل الإنسان ، لذا قال لهم مرة : " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحثه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله ( 80 ) " .
والقرآن يتحدث عن الصحابة بكل واقعية ، ويستخدم عبارات تدل على أن الصحبة ليست ميزة في ذاتها ، بقدر ما هي مرهونة بما يقدمه الصحابي من عمل صالح ، يقول تعالى : " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود " .
فكلمة " منهم " تعبير عن اختصاص فئة معينة بالمغفرة والأجر العظيم . ليس ذلك لقاء تمحورهم وصحبتهم للرسول ( ص ) وإنما لقاء إيمانهم وعملهم الصالح . " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما " . وبمقتفى المفهوم بالمخالفة ، يبقى منهم من ليسوا من أهل الإيمان ولا من أصحاب العمل الصالح .
وعلى ذلك الأساس يحرمون المغفرة والأجر العظيم . وكان هذا هو شأن أهل بيعة الرضوان الذين قال فيهم تعالى : " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا " .
فإن تخصيص فئة منهم بالثواب أمرا اقتضاه الواقع من حالهم . إذ هناك من حضر بيعة الرضوان وهو ليس من ذاك المقام . بل هناك من عرف بالنفاق . وقد حضر بيعة الرضوان فيمن حضرها عبد الله بن أبي رأس النفاق ، وأوس بن خولي . فكونهم من أهل بيعة الرضوان يستبطن مغزى عميقا ، لا بد من البحث عنه وراء منطوق الآية الكريمة .
فالبيعة وحدها لا تكفي للحكم على أصحابها . فعنصر الزمن الذي يعكس مدى صدق هذه البيعة من خلال استمرارية أصحابها عليها أم تراجعهم عنها . فقيمة البيعة هي في مدى الالتزام بشروطها كلها ، وتنحل تلك القيمة مع خروج أصحابها عليها . وكثير ممن حضر بيعة الرضوان لم يلتزم بتلك الشروط كما سنرى . وكان ذلك متوقفا على مدى صبره واستمرارهم عليه .
وقد سمعوا ذلك من الرسول ( ص ) إذ قال لهم : " إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب وشرب لم يظمأ أبدا ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا لمن غير بعدي " ( 81 ) . وفي هذا النص الصحيح معنى صريح ، على أن ما ذهب إليه المتأخرون من تعريف للصحابي أو عدالته ، محض أوهام ، - فهم هنا - ( ص ) يقول : يعرفونني . . ومع هذا لم يشفع لهم ذلك في النجاة من النار .
وعن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : لقيت البراء بن عازب ( رض ) فقلت " طوبى لك صحبت النبي ( ص ) وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده ( 82 ) " .
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند حذيفة ، أنه قال : " قال النبي ( ص ) في أصحابي اثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وأربعة لا أحفظ ما قال فيهم " .
وفي حجة الوداع قال ( ص ) : " أترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " . هذه وأمثالها وكثير من النصوص القرآنية التي جاءت بعتاب الصحابة ولعن المنافقين منهم . وتحذير المذبذبين وتخويف المؤمنين من خطر الارتداد .
وهكذا يكون مفهوم الصحابي ليس له معنى أكثر مما يفيده لغويا وإن الصحابة مثل باقي المسلمين معرضين للارتداد وقد جاء في السيرة ، إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد أسلم وهاجر إلى المدينة وكتب الوحي للرسول ( ص ) وارتد في النهاية مشركا ( 83 ) .
وجاء في كتاب الله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد . . " . فالخطاب هنا موجه لجيل الصحابة ، لأنهم أول المعنيين به .
____________________________________
( 77 ) الإصابة / 1 / 2217 .
( 78 ) الطبري ابن الأثير .
( 79 ) الطبري ابن الأثير .
( 80 ) البخاري ج 4 ص 173 ، مسند أحمد بن حنبل .
( 81 ) صحيح البخاري ومسلم .
( 82 ) صحيح البخاري .
( 83 ) الإستيعاب / الإصابة .