• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

اعتراضات على البكاء

هذا، ولكنّ البعض اعترض على بكاء الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة؛ استناداً إلى وجوه واهية:
الأوّل: بما رووه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، أنّه قال: ((إنَّ الميّت يعذّب ببكاء الحيّ))(1)، أو: «إنَّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه»(2)، أو: « إنَّ الميّت يعذّب ببعض بكاء أهله عليه»(3)، أو: «الميّت يعذّب في قبره بما نيح عليه»(4).
ويرد عليه:
أوّلاً: على فرض صحّة صدوره عنه صلّى الله عليه وآله: فهو مختصّ بموت اليهودي؛ فقد رووا عن حمّاد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ذكر عند عائشة قول ابن عمر: الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه، فقالت: رحم اللّه أبا عبد الرّحمان، سمع شيئاً فلم يحفظه، إنّما مرّت على رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم جنازة يهوديّ وهم يبكون عليه، فقال: ((أنتم تبكون وإنّه ليعذّب))(5).
ثانياً: أنّه مخالف لفعل النبيّ صلّى الله عليه وآله ــ وقد ذكرنا بكاءه على ولده وعلى ابنته وزوجته، وهكذا على عمّه، وعلى فاطمة بنت أسد، وعلى غيرهم من خيار الصحابة(6) ــ وعمل الصحابة(7)، وعمل أهل البيت عليهم السّلام(8).
ثالثاً: منافاته للعقل والنّقل،‏ لا سيّما قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (9)، ولذلك نرى: أنّ عائشة أنكرت ذلك، واستشهدت بهذه الآية؛ ردّاً على مَن قال: إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه، قائلة: حسبكم القرآن: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
وعليه فأيّ جريمة على الميّت حتّى يعاني ويعذّب ببكاء أهله‏ عليه، والله عزّ شأنه يقول: لَهـَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (10)، وقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (11)، وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ  وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (12)، فكيف يعذّب البريء‏ بالسقيم، والحكم لله العليّ العظيم؟ وعلى هذا سيعذّب ابن أوّل الأنبياء هابيل لبكاء أبيه عليه السّلام عليه(13)، وابن خاتم الأنبياء إبراهيم لبكاء النبيّ صلّى الله عليه وآله عليه(14)، وهكذا موتى غيرهما من الأنبياء؛ لأنّهم بكوا عليهمسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيرا ً (15)، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداًً (16).
الثاني: صدور النهي من عمر بن الخطّاب(17)، وهو من الصحابة، وآثارهم من أقوال وأفعال حجّة، فلو لم يكن البكاءُ منهيّاً عنه لما نهى عمر عنه!
ويرد عليه:
أوّلاً: إنّ هذا لا يوافق ما ذهبوا إليه في مسألة حجّية قول الصحابي؛ لأنّهم اشترطوا في حجّية قوله: أن لا يخالف الكتاب ولا السنّة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلاف ذلك(18).
ومثل هذا الادّعاء مخالف للكتاب الكريم، ولما هو منقول عن صاحب الشرع صلّى الله عليه وآله، ومنقوض أيضاً بما اعترضته عائشة وأنكرته من: أنّ النبيّ لم يقل ولم يحدّث بهذا(19).
وقال ابن حزم: وقد روينا عن ابن عبّاس: أنّه أنكر على من أنكر البكاء على الميّت، وقال: الله أضحك وأبكى(20).
ثانياً: أنّ الخليفة قد ناقض قوله فعلاً وقولاً؛ إذ إنّه بكى على النعمان ابن مُقرّن المزني لَمّا جاءه نعيه، فخرج ونعاه إلى الناس على المنبر، ووضع يده على رأسه وصاح: يا أسفا على النعمان(21)، وإنّه بكى على زيد بن الخطّاب، وكان صحبه رجل من بني عدي بن كعب فرجع إلى المدينة، فلمّا رآه عمر دمعت عيناه، وقال:
وخلّفت زيداً ثاوياً وأتيتني!(22)
وأخرج البخاري في صحيحه: أنّ عمر أجاز النياحة والبكاء على خالد بن الوليد، واستحسنه، وقال: دعهنّ يبكين على أبي سليمان(23).
وحتّى أتباع عمر قد خالف فعلهم قولهم أيضاً؛ حيث أقاموا النياحة والبكاء والمأتم على جماعة من أكابرهم(24).
وفي ((طبقات الحنابلة)): قال محمّد بن يحيى النيسابوري ــ حين بلغه موت أحمد بن حنبل ــ: ينبغي لأهل كلّ دار في بغداد أن يقيموا على أحمد ابن حنبل النياحة في دورهم (25).
وفي ((شذرات الذهب)) قال: إنّ الناس قد أقاموا النياحة على موت الملك إسماعيل بن السلطان محمود حين مات سنة ٥٧٧ هـ ، وأكثروا من البكاء والعويل عليه،، وناحوا عليه نوح الثكلى، وفرشوا الطريق بالرماد؛ إظهاراً للحزن، وتعظيماً للمصاب(26).
ولمّا مات أحمد بن السلطان ملك شاه سنة ٤٨١ هـ مكث الناس ينوحون عليه سبعة أيّام، ولم يركب أحد فرساً، والنساء ينحن عليه في الأسواق، وسوّد أهل البلاد أبوابهم(27).
وقال ابن العماد الحنبلي: وفيها الشيخ أبو عمر المقدسي الزاهد محمّد ابن أحمد بن محمّد بن قدامة بن مقدام، الحنبلي، القدوة... ولمّا كان عشيّة الاثنين ثامن عشرى ربيع الأوّل جمع أهله، واستقبل القبلة، ووصّاهم بتقوى الله تعالى... وتوفّي رحمه الله، وغسّل في المسجد، ومن وصل إلى الماء الّذي غسّل به نشف النساء والرجال به عمائمهم، وكان يوماً مشهوداً، ولمّا خرجوا بجنازته من الدير كان يوماً شديد الحرّ... ولولا الدولة أحاطوا به بالسيوف لما وصل من كفنه إلى قبره شيء(28).
ثالثاً: إنّ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله قد نهى عمر عن هذا القول والاعتقاد، وهو لم ينسبه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله في حياته، وإنّما نسبه إليه بعد وفاته.
فقد أخرج النسائيّ، وابن ماجة، عن أبي هريرة أنّه قال: مات ميّت في آل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهنّ ويطردهنّ، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((دعهنّ يا عمر؛ فإنّ العين دامعة، والفؤاد مصاب، والعهد قريب))(29).
وأخرج الحاكم بإسناد صحّحه على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي، عن أبي هريرة، قال: خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله على جنازة ومعه‏ عمر ابن الخطّاب، فسمع نساء يبكين، فزبرهنّ عمر، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وآله: ((يا عمر، دعهنّ؛ فإنّ العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب))(30).
وكذا أحمد وابن أبي شيبة، عن أبي هريرة: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان في جنازة فرأى عمر امراة، فصاح بها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((دعها يا عمر؛ فإنّ العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد حديث))(31).
وأخرج أحمد ــ أيضاً ــ عن عمرو بن الأزرق، قال: توفّي بعض كنائن مروان، فشهدها الناس، وشهدها أبو هريرة، ومعها نساءيبكين، فأمرهنّ مروان بالسكوت، فقال أبو هريرة: دعهنّ؛ فإنّه مرّ على رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم جنازة معها بواك،‏ فنهرهنّ عمر، فقال له رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((دعهنّ؛ فإنّ النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد حديث))(32).
وقال أبو هريرة: أبصر عمر امراة تبكي على قبر، فزبرها، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((دعها يا أباحفص؛ فإنّ‏ العين‏ باكية، والنفس مصابة، والعهد حديث))(33).
الثالث: البكاء على الميّت فيه اعتراض على قضاء الله وقدره ــ وهو يرجع في الواقع إلى الاعتراض على عدل الله وحكمته، حتّى لو كان الجازع غافلاً عن هذا ــ وهو حرام بلا أشكال.
وهذا الوجه مدفوع: بفعل النبيّ صلّى الله عليه وآله، والصحابة، وأهل البيت عليهم السّلام، وبقوله صلّى الله عليه وآله ــ حين بكى على ولده إبراهيم ــ: «تدمع العين، ويخشع القلب، ولا نقول إلاّ ما يرضي الربّ»(34).
هذا، مع أنّ البكاء على الفقيد من جملة الأمور غير الاختياريّة للبعض، خصوصاً بالنسبة إلى القلوب الرحيمة، وهو أمر قهريٌ ليس باختيار الإنسان منعه، فيما إذا دهمته فاجعة في نفسه أو أهله وأحبّته.
وقالوا: إنّ مفارقة الأحبّة ملازمة لجريان الدمعة، ومن لا يحزن عند الفراق‏ ففيه شعبة من النفاق(35).
وعليه فالبكاء على الميّت ليس ممنوعاً منه في الشرع، ما لم يكن مقروناً بعدم الرّضا بقضاء الله عزّ وجلّ، ولم ينضمّ إليه محرّم آخر، وإنّه لا ملازمة بين البكاء والاعتراض على إرادة اللَّه عزّ وجلّ، كما نبّه عليه صلّى الله عليه وآله بقوله‏: ((ولا نقول إلاّ ما يرضي الربّ)).




___________
1- صحيح مسلم ٢: ٦٣٩، الحديث ٩٢٧ / ١٨ و ١٩، وانظر: صحيح البخاري ٢: ١٠١، الحديث ١٢٩٢.
2- صحيح البخاري ٢: ١٠٠، الحديث ١٢٨٦، وصحيح مسلم ٢: ٦٤١، الحديث ٩٢٨.
3- صحيح البخاري ٢: ١٠٠، الحديث ١٢٨٧، وصحيح مسلم ٢: ٦٣٨، الحديث ٩٢٧.
4- صحيح البخاري ٢: ١٠١، الحديث ١٢٩٢، وصحيح مسلم ٢: ٦٣٩، الحديث ٩٢٧ / ١٧.
5- صحيح مسلم ٢: ٦٤٢، الحديث ٩٣١.
6- تقدّم تخريجه في الصفحة: ٢٦٤.
7- صحيح البخاري ٢: ١٠٥، الحديث ١٣٠٤، ومسند الحميدي ١: ١٠٧، الحديث ٢٢٠.
8- راجع: الصفحة: ٢٦٧ – ٢٩٣.
9- سورة الأنعام، الآية: ١٦٤.
10- سورة البقرة، الآية: ٢٨٦.
11- سورة النجم، الآية: ٣٩.
12- سورة الزلزلة، الآية: ٧ ــ ٨.
13- الكافي ٨: ٩٧، الحديث ٩٢، وتاريخ اليعقوبي ١: ٣٢، وكنز العمّال ٢: ٤٠٠، الحديث ٤٣٥٦، وتاريخ الطبري ١: ١٤٥، ذكر الأحداث الّتي كانت في عهد آدم عليه السّلام بعد أن أهبط إلى الأرض.
14- تقدّم تخريجه في الصفحة: ٢٦٤.
15- سورة الإسراء، الآية: ٤٣.
16- سورة الكهف، الآية: ٤٩.
17- راجع: كنز العمال ١٥: ٧٣١ , الحديث ٤٢٩٠٩ , والحديث ٤٢٩١٠.
18- مجموعة الفتاوى ١: ٢٠٠، وكتاب الأم ٧: ٢٦٥، باب في قطع العبد.
19- تقدّم تخريجه في الصفحة: ٣١٦.
20- المحلّى ٣: ٣٧٤، المسألة ٥٨٩.
21- أنظر: العقد الفريد ٣: ١٩٧.
22- العقد الفريد ٣: ١٩٨.
23- صحيح البخاري ٢: ١٠١، مقدّمة أحاديث الباب ٣٣، وكنز العمّال ١٥: ٧٣٠، الحديث ٤٢٩٠٧، و ٤٢٩٠٨، وتاريخ دمشق ١٦: ٢٧٧، وفيهما: فقال عمر: وما عليهن أن يرقن من دموعهن على أبي سليمان. والعقد الفريد ٣: ١٩٨، وسير أعلام النبلاء ١: ٣٨٣، والبداية والنهاية ٥: ١٣٧، ذكر من توفّي سنة إحدى وعشرين، مع اختلاف يسير.
24- أنظر: العقد الفريد ٣: ٢٠١.
25- طبقات الحنابلة ٢: ٥١ / ٥٩٤.
26- أنظر: شذرات الذهب ٤: ٢٥٨.
27- البداية والنهاية ٧: ١٩٢.
28- شذرات الذهب ٥: ٢٧ ــ ٣٠.
29- السّنن الكبرى للنسائي ١: ٦١٠، الحديث ١٩٨٦، وسنن ابن ماجة ١: ٥٠٥، الحديث ١٥٨٧ ، مع اختلاف يسير.
30- المستدرك على الصحيحين ١: ٣٨١، والسّنن الكبرى للبيهقي ٤: ٧٠ ، مع اختلاف يسير، ومسند أحمد ٢: ٢٥٢، الحديث ٥٨٥٥ ، مع اختلاف يسير، والجامع الصغير ١: ٦٤٩، الحديث ٤٢١٦ وقال في الحاشية: حديث صحيح.
31- مسند أحمد ٣: ١٩١، الحديث ٩٤٣٨، والمصنّف ٣: ١٧٠، باب ٧١، الحديث ١ ، مع اختلاف يسير.
32- مسند أحمد ٢: ٦٣٧، الحديث ٨١٩٦.
33- كنز العمّال ١٥: ٧٢٨، الحديث ٤٢٨٩٩.
34- الكافي ٣: ٢٤٨، كتاب الجنائز، باب النوادر، الحديث ٤٥، وانظر: صحيح مسلم ٤: ١٨٠٧، الحديث ٢٣١٥ ، مع اختلاف يسير.
35- مهذّب الأحكام ٤: ٢٠٧.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page