طباعة

ذكر ما فعله المتوكّل بالشيعة

وزاد الخطب فداحة زمان المتوكّل، فقد كان شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتمّاً بأُمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظنّ والتهمة لهم، واتّفق له أنّ عبيد الله يحيى بن خاقان وزيره يسيء الرأي فيهم، فحسّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العبّاس قبله، وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره، فقد بعث برجل من أصحابه يقال له: الديزج، وكان يهوديّاً فأسلم، إلى قبر الحسين، وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب كلّ ما حوله، فمضى لذلك وخرّب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مئتي جريب، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء حوله، ووكّل به مسالح بين كلّ مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلاّ أخذوه ووجّهوا به إليه فقتله أو أنهكه عقوبة، حتّى قال البسامي الشاعر:
تالله إن كانت أُميّة قد أتت    قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه مثلها    هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا    في قتله فتّتبعوه رميما
واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج الرخجي فمنع آل أبي طالب من التعرّض للناس، ومنع الناس من البرّ بهم، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ إلاّ أنهكه عقوبة وأثقله غرماً، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهنّ عواري حواسر.
وكان المتوكّل ينادم ويقربّ ويجالس جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي (عليه السلام) ، منهم: أبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بن أُميّة، وعلي بن الجهم، وكان ابن الجهم هذا مأبوناً، سمعه يوماً أبو العيناء يطعن على أمير المؤمنين، فقال له: أنا أدري لِمَ تطعن على أمير المؤمنين! فقال: أتعني قصّة بيعة أهلي من مصقلة بن هبيرة؟ قال: لا، أنت أوضع من ذلك، ولكنّه عليه السلام قتل الفاعل من قوم لوط والمفعول به، وأنت أسفلهما.
وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث، وكان يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص بين يدي المتوكّل والمغنّون يغنّون: قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين، يحكي بذلك عليّاً (عليه السلام) والمتوكّل يشرب ويضحك، ففعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر فأومأ إلى عبادة يتهدّده فسكت خوفاً منه، فقال المتوكّل: ما حالك؟ فقام وأخبره، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين إنّ الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمّك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك فَكُلْ أنت لحمه إذا شئت ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه، فقال المتوكّل للمغنين: غنوا جميعاً:
غار الفتى لابن عمّه    رأس الفتى في... أُمّه
وسمعه يوماً يشتم فاطمة بنت رسول الله، فسأل أحد الفقهاء، فقال له: قد وجب عليه القتل إلاّ أنّ من قتل أباه لم يطل عمره، فقال المنتصر: لا أُبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول عمري، فقتله، فعاش بعده سبعة أشهر(1) .
وقتل العالم والأديب الكبير ابن السكِّيت على التشيّع، وقد ألزمه تعليم ولده، فقال له يوماً: أيّهما أحبُّ إليك إبناي هذان: المعتزّ والمؤيّد، أو الحسن والحسين؟ فقال له: والله إنّ قنبراً خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك، فقال المتوكّل للأتراك: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا، فمات، ووقع ابن السكِّيت في ما يحذر منه لأنّه القائل:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه    وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه    وعثرته في الرجل تبرا على مهل(2)
وأمر بضرب نصر بن علي الجهضمي أحد رجال الصحاح الستّة ألف سوط، لأنّه حدّث بحديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخذ بيد حسن وحسين وقال: " من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمّهما كان في درجتي يوم القيامة " حتّى كلّمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: هذا من أهل السُنّة، فلم يزل به حتّى تركه(3) .


____________
(1) راجع: مقاتل الطالبيين ص 478 ـ 479، تاريخ الطبري ج 5 ص 312، تاريخ ابن الأثير ج 6 ص 108 ـ 109، تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 38، الفخري في الآداب السلطانية ص 234، شرح ابن أبي الحديد ج 3 ص 123، سير أعلام النبلاء ج 12 ص 35.
(2) سير أعلام النبلاء ج 12 ص 18، وفيات الأعيان ج 6 ص 399 ـ 400.
(3) تهذيب التهذيب ج 10 ص 430.