• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عدم جواز نسخ الكتاب بالسُنّة

وأمّا ما يتذرّع به البعض من حمل هذه الآيات المدّعاة على نسخ التلاوة دون الحكم، أو هما معاً بالكتاب والسُنّة، فهو أشبه بالهروب من المطر إلى الوقوف تحت الميزاب.
أمّا بالنسبة لنسخ الكتاب بالسنّة، فهو ممتنع عقلا وشرعاً، لأنّها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا توجب عملا، بل أجمع المحقّقون على أنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر، لأنّه رفعٌ للمقطوع به بالمظنون، فاقتضى هذا أنّ ما كان من الأحكام المكّيّة يدّعى نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه، كما في الموافقات ـ للشاطبي ـ ج 3 ص 64، وقطع الشافعي وأكثر أصحابه وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسُنّة المتواترة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، كما في الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ ج 3 ص 138، ومالك بن أنس كما حكاه الغزّالي في المنخول ص 292، والحارث بن أسد المحاسبي، وعبد الله بن سعيد القلانسي، وأبو حامد الأسفراييني، وسهل بن محمّد الصعلوكي، وعبد القاهر البغدادي، والصيرفي، والخفّاف، والقاضي أبو يعلى الفرّاء، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، وسليم الرازي، كما في إرشاد الفحول ص 323 وما بعدها، وغيرهم.
وما أمتن ما استدلّ به الإمام الشافعي على بطلان قول القائلين بجوازنسخ الكتاب بالسُنّة كما جاء في رسالته ص 106، قال:
إنّ الله خلق الخلق لما سبق في علمه ممّا أراد بخلقهم وبهم، لا معقّبة لحكمه، وهو سريع الحساب.
وأنزل عليهم الكتاب تبياناً لكلّ شيء وهدىً ورحمة، وفرض فيه فرائض أثبتها، وأُخرى نسخها، رحمة لخلقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة في ما ابتدأهم به من نِعمِهِ، وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنّته، والنجاة من عذابه، فعمّتهم رحمته في ما أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه.
وأبان الله لهم أنّه إنّما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأنّ السُنّة لا ناسخة للكتاب، وإنّما هي تبع للكتاب بمثل ما نزل نصّاً، ومفسّرة معنى ما أنزل الله منه جملا.
قال الله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم) (1) .
فأخبر الله أنّه فرض على نبيّه اتّباع ما يوحى إليه، ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه.
وفي قوله: (ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي) بيان ما وصفت من أنّه لا ينسخ كتاب الله إلاّ كتابه، كما كان المبتدئ لفرضه، فهو المزيل المثبت لما شاء منه جلّ ثناؤه ولا يكون ذلك لأحد من خلقه.
وكذلك قال: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب) (2) .
وقد قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ـ والله أعلم ـ دلالة على أنّ الله جعل لرسوله أن يقول من تلقاء نفسه بتوفيقه في ما لم ينزل به كتاباً، والله أعلم.
وقيل في قوله: (يمحو الله ما يشاء) وهذا يشبه ما قيل: والله أعلم.
وفي كتاب الله دلالة عليه، قال الله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير) (3) .
فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلاّ بقرآن مثله.
وقال: (وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم يما ينزّل قالوا إنّما أنت مفتر) (4) (5) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا ينسخ القرآن إلاّ قرآن يجيء بعده، والسُنّة تفسّر القرآن، واستظهر أصحابه أنّه منع منه عقلا وشرعاً.
قال أبو يعلى الفرّاء الحنبلي في العدّة: لا يجوز نسخ القرآن بالسُنّة شرعاً، ولم يوجد ذلك، نصّ عليه أحمد في رواية الفضل بن زياد، وأبي الحارث، وقد سئل: هل تنسخ السُنّة القرآن؟ فقال: لا ينسخ القرآن إلاّ بقرآن يجيء بعده، والسُنّة تفسّر القرآن، وبهذا قال الشافعي(6) .
وقال أبو الخطّاب الحنبلي في التمهيد: فأمّا نسخ القرآن بالسُنّة المتواترة، فقال شيخنا: لا يجوز ذلك شرعاً، ويجوز عقلا، إلاّ أنّ أحمد قال في رواية الفضل بن زياد وأبي الحارث: لا ينسخ القرآن إلاّ قرآن يجيء بعده، والسُنّة تفسّر القرآن، فظاهره أنّه منع من نسخه شرعاً وعقلا، وبه قال الشافعي(7) .
وقال ابن قدامة الحنبلي في روضته: فأمّا نسخ القرآن بالسُنّة المتواترة، فقال أحمد ـ رحمه الله ـ لا ينسخ القرآن إلاّ قرآن يجيء بعده، قال القاضي: ظاهره أنّه منع منه عقلا وشرعاً.
ثمّ ردّ على أدلّة المحتجّين بالجواز، وقال: والسُنّة لا تساوي القرآن، ولا تكون خيراً منه.
وقد روى الدارقطني فى سننه عن جابر، أنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: القرآن ينسخ حديثي، وحديثي لا ينسخ القرآن.
ولأنّة لا يجوز نسخ تلاوة القرآن وألفاظه بالسُنّة، فكذلك حكمه(8) .
وقال عبد المؤمن البغدادي الحنبلي في قواعده: ويجوز نسخ القرآن، والسُنّة المتواترة والآحاد بمثلها، والسُنّة بالقرآن، لا هو بمثلها(9) .
وقال الماوردي: القرآن ينسخ بالقرآن، والسُنّة تنسخ بالسُنّة، ولا يجوز نسخ القرآن بالسُنّة(10) .
وقال الإمام أبو المظفّر السمعاني في قواطع الأدلّة: نصّ الشافعي رحمه الله في عامّة كتبه أنّه لا يجوز نسخ القرآن بالسُنّة بحال وإن كانت السُنّة متواترة، ثمّ اختلف الوجه على مذهب الشافعي أنّه يمنع منه العقل أو الشرع، فالظاهر من مذهبه أنّه يمنع العقل والشرع جميعاً.
والوجه الثاني: أنّه منع منها الشرع دون العقل، ثمّ اختلف من قال بهذا، فقال ابن سريج: إنّ الذي يمنع منه أنّ الشرع لم يرد به... وقال أبو حامد الأسفرائيني: الشرع منع منه ولم يكن مجوّزاً فيه.
واحتجّ من جوّز بالعقل أنّه لو لم يجز لكان لنا أن لا نجوّز في القدرة أو في الحكمة.
والأوّل: لا يجوز لأنّه معلوم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) كان يقدر على أنواع الكلام، ولو أتى بكلام موضوع لرفع حكم من أحكام الكتاب صحّ ذلك ودلّ على ما هو موضوع له.
والثاني: لا يجوز أيضاً لأنّه لو امتنع في الحكمة لكان وجه امتناعه أن يكون منفّراً عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وموهماً أنّه (عليه السلام) يأتي بالكلام من قبل نفسه وهذا لو نفّر عنه لنفر عنه من حيث أن أزال حكماً شرعياً وأوهوم أنّه أُوحي إليه بإزالته، وهذا قائم في نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السُنّة بالسُنّة...
إلى أن قال: وأمّا دليلنا قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) والسُنّة لا تكون مثل القرآن ولا خيراً منه، فوجب أن لا يجوز النسخ بها، وأيضاً فإنّه تعالى قال: (نأت بخير منها أو مثلها) فهذا يدلّ على أنّه هو المتفرّد بالإتيان بخير من الآية وذلك لا يكون إلاّ نسخاً، والناسخ قرآن، وأيضاً فإنّه تعالى قال: (نأت بخير منها) وقوله:
(منها) يفيد أنّه يأت من جنسه، وجنس القرآن قرآن، والإستدلال بالآية معتمد يدلّ عليه أنّه تعالى ساق الآية إلى قوله: (ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير) وهذا يدلّ أنّ غيره يعجز عنه.
فإن قيل: المراد من الآية: نأت بخير منها أو مثلها في الثواب، وقد يكون في السُنّة ما هو خير من المنسوخ في الثواب، وربّما يعبّرون عن هذا فيقولون: معنى الآية: نأت بخير منها أو مثلها في النفع، وأمّا قولكم: إنّه قال: (نأت) فقد أضاف الإتيان بالناسخ إلى نفسه.
قلنا: إذا دلّ الدليل على نسخ القرآن بالسُنّة فالذي أتى بذلك هو الله عزّ وجلّ، ألا ترى أنّ الله هو الناسخ على لسان نبيّه (صلى الله عليه وسلم) كما أنّه هو المثبت لسائر الشرائع على لسان نبيّه (صلى الله عليه وسلم) .
قالوا: وعلى هذا سقط تعلّقكم بقوله تعالى: (ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير) إنّ الله تعالى إذا كان هو الناسخ في الحقيقة على لسان نبيّه (صلى الله عليه وسلم) فالقدرة في ذلك له دون غيره، وأمّا قولهم إنّ قوله: (نأت بخير منها) يقتضي أن يكون ما يأتي من جنسه.
قال: هذا لا يفيد ما قلتم، فإنّ الإنسان إذا قال: ما أخذت منك من ثوب آتيك بما هو خير منه، احتمل أن يأتيك بثوب ويحتمل أن يأتيك بشيء آخر، وإذا أتاه بشيء آخر هو أنفع منه سواءً كان ثوباً أو غيره، فقد صدق في قوله ووعده، ثمّ ذكروا سؤالا آخر حكوه عن أبي هاشم ثمّ المتكلّم، وهو أنّ قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) ، ليس فيه أنّه يأت بخير منها ناسخاً، بل لا يمتنع أن يكون الذي يأتي به ممّا هو خير منها، أنّه في حكم آخر بعد نسخ الآية، ويكون الناسخ غير الآية.
الجواب:
إنّ الإستدلال بالآية قائم، ونقول على سؤالهم الأوّل: إنّ قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) يقتضي أنّ الذي يأتي به خير من الآية المنسوخة على الإطلاق، وهذا لا يوحي الله تعالى إليه ما يوجد إلاّ في نسخ القرآن بالقرآن، فأمّا في نسخ القرآن بالسُنّة لا يوجد، لأنّه لا تكون السُنّة خيراً من القرآن على الإطلاق بحال، بل يجوز أن يكون خيراً في الثواب أو أنفع منه، وهذا لا يقتضي أن يكون خيراً على الإطلاق، بل الخير على الإطلاق أن يكون خيراً من كلّ وجه.
فإن قيل: إذا دخلتم في أمثال هذا فلا يتصوّر أن يأتي بخير من الأوّل بحال، وإن نسخ القرآن بالقرآن، لأنّ القرآن لا تكون بعض آياته خيراً من البعض.
قلنا: يجوز أن يكون في الثواب أو في إظهار الإعجاز أمثل بتوقّي الإخلاص والإخلاص أكثر في الثواب من غيره وقوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) (11) أبلغ في الإعجاز من غيره، فإذا نسخ القرآن بالقرآن يجوز أن يظهر الخيرية المطلقة، فأمّا إذا نسخ القرآن بالسُنّة فلا يظهر الخيرية المطلقة، لأنّه إن كان خيراً في الثواب فالقرآن خير منه في نفسه في الإعجاز، فإنّه كلام الله عزّ وجلّ وإنّه ينال الثواب بقراءته إلى غير ذلك.
قال الخطّابي: إنّ الشيء إذا أُطلق أنّه خير من الشيء فلا يجوز أن يكون دونه على وجه من الوجوه.
أما قولهم: إنّا إذا نسخنا القرآن بالسُنّة فيكون الذي يأتي بالناسخ هو الله عزّ وجلّ أيضاً، قلنا: لا ننكر هذا لكنّ الحكم المضاف إلى الله تعالى في حقّ الظاهر والإطلاق هو ما أوجبه في كتابه وافترضه نصّاً فيه، وأمّا الذي ثبت بالسُنّة فهو وإن كان صدروه عمّن لا ينطق عن الهوى، لكن على إطلاقه يضاف إلى الرسول وإلى سنته.
هذا كما إنّ الوحي يختلف، فمنه ما يكون رؤيا ومنه ما يكون إلهاماً ونفثاً في الروح، ووحي الكتاب مخالف لكلّ هذا، إذ هو الأعلى والمتقدّم على سائر أنواعه، كذلك هاهنا يكون الحكم الثابت بالكتاب ثابت على وجوه ما يثبت به.
أمّا قولهم على قولنا: إنّ قوله: (بخير منها) يقتضي أن يكون من جنسه، أنّه يجوز أن يكون من جنسه ويجوز أن يكون من غير جنسه والاستشهاد الذي قالوه.
قلنا: لا، بل يفيد أن يكون الذي يأتي به من جنس الأوّل وهذا الذي يفهم عند إطلاق ذلك اللفظ، فأمّا قول القائل: ما أخذت منك من ثوب آتيك بما هو خير منه، إنّما يفيد ما ذكرتم لأنّه ذكر لفظ ما، وهذا اللفظ يقع على الثوب وعلى غيره وليس كذلك الآية، لأنّ الله تعالى لم يقل: بما هو خير منها، وإنّما قال: (نأت بخير منها) ، فنظير قول القائل: ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه، وهو مفيد ثوباً خيراً من الثوب الأوّل.
وأمّا الذي نسبوه إلى أبي هاشم من السؤال، فليس بشيء، لأنّه خلاف قول المفسّرين، بل خلاف قول جميع الأُمّة، وقد قال كلّ من تكلّم في هذه الآية من العلماء: إنّ الآية التي تأتي هاهنا هي الناسخة والأُخرى هي المنسوخة، وهذا السؤال من أبي هاشم سؤال جدلي لا يجوز أن يعترض به على إجماع المفسّرين.
ونقول أيضاً على قولهم: إنّ ما يثبت بالسُنّة قد يكون أنفع وأفضل في الثواب.
قلنا: هذا محال، لأنّ الثابت بالسُنّة إن كان أنفع عملا فيبقى أن الكتاب أنفع لاستحقاقه الثواب بتلاوته وهذا لا يوجد في السُنّة، والاعتماد فى المسألة على هذه الآية وقد تأيد الاستدلال بهذه الآية بقوله تعالى: (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أُبدّله من تلقاء نفسي إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ) (12) ، فأخبر أنّ تبديل القرآن ونسخه يكون من عند الله عزّ وجلّ لا من عند نفسه، وسؤالهم على هذا بما قالوا إنّه وإن كان من عند الرسول (صلى الله عليه وسلم) بصورة ولكنّه من عند الله حقيقة، وقد أجبنا عن هذا، وهذا لأنّه إنّما يضاف إلى الله عزّ وجلّ ما اختصّ به ويضاف إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ما اختصّ به، ولو كانا مضافين إلى الله عزّ وجلّ لم يجز إضافة أحدهما إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) .
ثمّ قال: وأمّا تعلّقهم بالمواضع التي استدلّوا بها في وجوب نسخ الكتاب بالسنّة فهي دلائل ضعيفة وسنبيّن الكلام على واحد واحد من ذلك... إلى آخره(13) .
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في اللمع: وأمّا نسخ القرآن بالسُنّة: فلا يجوز من جهة السمع، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز من جهة السمع ولا من جهة العقل....
والدليل على أنّه لا يجوز من جهة السمع قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) والسُنّة ليست من مثل القرآن، ألا ترى أنّه لا يثاب على تلاوة السُنّة كما يثاب على تلاوة القرآن، ولا إعجازفي لفظه كما في لفظ القرآن؟! فدلّ على أنّه ليس مثله(14) .
وقال أيضاً في التبصرة: لا يجوز نسخ القرآن بالسُنّة آحاداً كانت أو متواترة، مستدلاّ بقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ، وقال: فأخبر أنّه لا ينسخ آية إلاّ بمثلها، أو بخير منها، والسُنّة ليست مثل القرآن، ولا هي خير منه، فوجب أن لا يجوز النسخ بها.
فإن قيل: المراد نأت بخير منها أو مثلها في الثواب، وقد يكون في السُنّة ما هو خير من المنسوخ في الثواب.
قيل: هذا لا يصلح لوجوه:
منها: إنّه قال: (نأت بخير منها) ، وهذا يقتضي أن يكون هو الذي يأتي به، والسُنّة إنّما يأتي بها النبيّ (عليه السلام) .
ولأنّه قال في سياق الآية: (ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير) والذي يختصّ الله بالقدرة عليه هو القرآن.
ولأنّه قال: (نأت بخير منها أو مثلها) وهذا يقتضي أن يكون المثل من جنس المنسوخ، كما إذا قال: لا آخذ منك ثوباً إلاّ أُعطيك خيراً منه، اقتضى خيراً منه من جنسه.
ولأنّ المثل يقتضي أن يكون مثله من كلّ وجه، والسُنّة قطّ لا تماثل القرآن في الثواب في تلاوته، ولا في الدلالة على صدق النبيّ (عليه السلام) بنظمه.
فإذا قيل: لو كانت السُنّة لا تماثل القرآن، فالقرآن أيضاً لا يكون بعضه خيراً من بعض، فيجب أن يكون المراد به الأحكام.
قيل: قد يكون بعض القرآن خيراً من بعض فى الثواب، ألا ترى أنّ سورة الإخلاص، ويس، وغيرهما أفضل من غيرهما من القرآن في الثواب؟! وقد يكون بعضها أظهر في الإعجاز من بعض، ألا ترى أنّ قوله عزّ وجلّ: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) أبلغ في الإعجاز من غيره؟!
فإن قيل: قوله: (نأت بخير منها) ليس فيه أنّ ما يأتي به هو الناسخ ويجوز أن يكون الناسخ غيره.
قلنا: قوله تعالى: (ما ننسخ من آية) شرط، وقوله: (نأت بخير منها) جزاء، ولهذا جزم قوله: (ما ننسخ) ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون ما يأتي به لأجله وبدلا عنه، كما إذا قال: ما تصنع أصنع، وما أخذُه أُعط مثله، اقتضى أن يكون الجزاء لأجل الشرط وبدلا عنه، فدلّ على أنّه هو الناسخ.
فإن قيل: النسخ إنّما يقع في الحكم لا في التلاوة، ولا مفاضلة بين حكم الكتاب وحكم السُنّة، وإنّما المفاضلة بين لفظيهما، والنسخ لا يقع إلاّ في اللفظ.
قيل: الخلاف في نسخ التلاوة والحكم واحدة، فإنّ عندهم لو تواترت السُنّة بنسخ التلاوة وجب النسخ بها ولا ممّاثلة بينهما، وعلى أنّ نسخ الحكم أيضاً يقتضي نسخ الآية، ألا ترى أنّه إذا نسخ الحكم الآية قيل هذه آية منسوخة؟! فيجب أن لا يكون ذلك إلاّ بمثلها أو بخير منها.
ويدلّ عليه: هو أنّ السُنّة فرع للقرآن، ألا ترى أنّه لولا القرآن لما ثبتت السُنّة؟! فلو جوّزنا نسخ القرآن بها لرفعنا الأصل بفرعه، وهذا لا يجوز، ولأنّ السُنّة دون القرآن في الرتبة، ألا ترى أنّها لا تساويه في الإعجاز في لفظه، ولا في الثواب في تلاوته؟! فلم يجز نسخه بها.
ويدلّك عليه: إنّ القياس لمّا كان دون الخبر في الرتبة لم يجز نسخه به فكذلك هاهنا.
واحتجّوا بقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم) (15) والنسخ بيان للمنزل، فيجب أن يكون ذلك بياناً له.
والجواب: هو أنّ البيان يراد به الإظهار والتبليغ، ألا ترى أنّه علّقه على جميع القرآن، والنسخ لا يجوز أن يتعلّق بجميع القرآن؟! فدلّ على أنّ المراد به ما ذكرناه.
ولأنّ النسخ ليس بياناً للمنسوخ، وإنّما هو إسقاط ورفع، فلا يدخل في الآية.
قالوا: ولأنّه دليل مقطوع بصحّته فجاز نسخ القرآن به كالقرآن.
قلنا: هذا يبطل بالإجماع، فإنّه مقطوع بصحّته، ثمّ لا يجوز النسخ به.
وعلى أنّه لا يمتنع أن يتساوى القرآن والسُنّة في القطع، ثمّ يجوز النسخ بأحدهما دون الآخر، ألا ترى أنّ الخبر والقياس يتساويان في أنّ كلّ واحد منهما مظنون، ثمّ يصحّ النسخ بأحدهما دون الآخر.
ثمّ المعنى في القرآن أنّه يماثل المنسوخ في التلاوة والإعجاز، فجاز نسخه به، وليس كذلك هاهنا، فإنّ السُنّة دون القرآن في الثواب والإعجاز فلم يجز نسخه بها.
قالوا: ولأنّ النسخ إنّما يتناول الحكم والكتاب والسُنّة المتواترة في إثبات الحكم واحد، وإن اختلفا في الإعجاز، فيجب أن يتساويا فى النسخ.
قلنا: هما وإن تساويا في إثبات الحكم إلاّ أنّ أحدهما أعلى رتبة من الآخر فجاز أن يختلفا في النسخ، ألا ترى أنّ الخبر والقياس يتساويان في إثبات الحكم، ثم يجوز نسخ السُنّة بأحدهما دون الآخر لما اختلفا في الرتبة؟! فكذلك هاهنا.
قالوا: ولأنّ المانع من ذلك لا يخلو، إمّا أن يكون فضله على السُنّة في الثواب، أو فضله عليها في الإعجاز، ولا يجوز أن يكون المانع بفضل الثواب، لأنّه يجوز نسخ أكثر الآيتين ثواباً بأقلّهما ولا يجوز أن يكون المانع فضل الإعجاز، لأنّه يجوز نسخ الآية المعجزة بالآية التي لا إعجاز فيها، وإذا بطل هذا الوجهان لم يبق ما يتعلّق به المنع، فوجب أن يجوز.
قلنا: المانع عندنا معنىً آخر، وهو رفع كلام الله تعالى بغير كلامه، وهذا لم يدلّوا على إبطاله، أو المانع من ذلك رفع الأصل بفرعه، وهذا أيضاً لم يدلّوا عليه.
ولأنّا لو جعلنا المانع ما ذكروه من فضل القرآن على السُنّة بالإعجاز لصحّ، وما ذكروه من نسخ الآية المعجزة بغير المعجزة، لا يصحّ، لأنّ الناسخ كالمنسوخ في الإعجاز، ألا ترى أنّ كلّ واحد منهما إذا طال وكثر كان معجزاً، وإذا لم يطل لم يكن معجزاً؟!
واحتجّ من أجاز النسخ بأخبار الآحاد خاصّة: أنّ ما جاز نسخ السُنّة به، جاز نسخ القرآن به، كالقرآن.
والجواب: هو أنّه ليس إذا جاز أن يسقط به مثله، جاز أن يسقط به ما هو أقوى منه، ألا ترى أنّ القياس يجوز أن يعارض مثله، ولا يجوز أن يعارض الخبر؟!
قالوا: ولأنّ النسخ إسقاط لبعض ما يقتضيه ظاهر القرآن، فجاز بالسُنّة، كالتخصيص.
والجواب: هو أنّه لا يمتنع أن يجوز التخصيص به ولا يجوز النسخ به، ألا ترى أنّ تخصيص الخبر بالقياس(16) جائز، ونسخه به لا يجوز؟!
ولأنّ التخصيص إسقاط بعض ما اشتمل عليه اللفظ بعمومه، فجاز تركه بخبر الواحد، وليس كذلك النسخ، فإنّه إسقاط اللفظ بالكلّيّة، فلم يجز بما دونه.
قالوا: ولأنّه إذا جاز النسخ إلى غير بدل، فجوازه إلى بدل ثبت بلفظ دونه أَوْلى.
قلنا: لو كان هذا صحيحاً، لوجب أن يجوز بالقياس، فيقال: إنّه إذا جاز رفعه إلى غير بدل، فلأن يجوز إلى بدل يثبت بالقياس أَوْلى.
ولأنّ النسخ إلى غير بدل لا يؤدّي إلى إسقاط القرآن بما دونه، لأنّه يجوز أن يكون قد نسخ بمثله أو بما هو أقوى منه، والنسخ بالسُنّة يؤدّي إلى إسقاط القرآن ورفعه بما هو دونه، وهذا لا يجوز(17) .
هذه بعض أقوال وحجج أعلام أهل السُنّة وأئمّتهم بما فيهم أئمّة المذاهب سوى أبي حنيفة وهو في عداد أهل الرأي، وارتأينا أن نأتي باستدلالهم وردودهم حتّى يكون أبلغ في الحجّة وأقطع للعذر، في ردّ قول القائلين بجواز نسخ الكتاب بالسُنّة.
على أنّ أغلب القائلين بجوازه هم جوّزوه عقلا لا شرعاً وهم بعض الأشاعرة وأصحاب الرأي والكلام، وقليلٌ منهم قالوا بوقوعه سمعاً، ولكن حتّى هذا ليس بتامّ وفق قواعدهم وأُصولهم، وسنردّ عليه نقضاً وحلاّ.


____________
(1) سورة يونس 10: 15.
(2) سورة الرعد 13: 39.
(3) سورة البقرة 2: 106.
(4) سورة النحل 16: 101.
(5) انظر: أحكام القرآن ـ للشافعي، جمع البيهقي ـ ص 42.
(6) العدّة في أُصول الفقه ج 3 ص 788.
(7) التمهيد في أُصول الفقه ج 2 ص 369.
(8) روضة الناظر وجنّة المناظر ج 1 ص 258 ـ 263.
(9) قواعد الأُصول ص 87.
(10) الحاوي الكبير ج 17 ص 11 ـ كتاب الحدود.
(11) سورة هود 11: 44.
(12) سورة يونس 10: 15.
(13) قواطع الأدلّة في الأُصول ج 1 ص 450 ـ 454.
(14) اللمع في أُصول الفقه ص 59 ـ 60.
(15) سورة النح 16: 44.
(16) لا يخفى أنّ القياس عندنا ليس بحجّة.
(17) التبصرة في أُصول الفقه ص 264 ـ 269.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page