• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

فصل في تتبع كلامه في الاستدلال على وجوب الإمامة من جهة السمع

قال صاحب الكتاب:
" قد اعتمد شيخانا (1) في ذلك ما ورد به الكتاب من إقامة الحدود كقوله تعالى (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (2) وكقوله (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) (3) وقد ثبت أن ذلك من واجبات الإمام دون سائر الناس، فلا بد من إمام يقوم به فإذا لم يمكن كون الإمام إلا بإقامة الله تعالى [ ورسوله ] (4) أو بإقامتنا بعد معرفة الصفة فلا بد من حصوله ببعض هذه الوجوه، فإذا فقد النص فليس إلا وجوب إقامتنا... " (5) ثم قال: " فإن قيل: هلا قلتم: إن إقامة الحدود (6) تجب بشرط حصول الإمام، كما تجب الزكاة بشرط حصول النصاب فكما لا يدل وجوب الزكاة على وجوب اكتساب المال فكذلك لا يدل على وجوب إقامة الحد على وجوب [ ما لا يتم إلا به من ] (7) إقامة الإمام؟.
قيل له (8): إنما يمكن ما ذكرته متى ثبت في وجوب الشئ أنه متعلق بشرط، فأما إذا لم يثبت فيه ذلك. فوجوبه يقتضي وجوب ما لا يتم إلا به، ولا يمتنع من أن نصف ذلك بأنه شرط لكنه مع كونه شرطا فلا (9) يصير واجبا من حيث تضمن وجوب ذلك الأمر وجوبه، وهذا الذي يقتضيه [ قضية ] (10) العقل من أن وجوب الشئ يقتضي وجوب ما لا يتم إلا به. إلا أن يمنع مانع بأن نعلم أنه إنما يجب عند ذلك. ولولاه كان لا يجب، (11)... " فيقال له: أما قطع السراق وجلد الزناة فهما من فروض الكفايات (12) على الأئمة ولا بد أن يكونا مشروطين بحصول المخاطب إماما، كما أن الزكاة تجب على مالك النصاب، والحج يجب على واجد الزاد والراحلة والتكليف فيهما مشروط بحصول النصاب ووجود الزاد والراحلة فكما لا يجب التوصل إلى تملك النصاب وتحصيل الزاد والراحلة ليلزم الزكاة والحج فكذلك لا يجب التوصل إلى إقامة الإمام ليجب عليه إقامة الحدود.
فأما دعواه " أن الذي يقتضيه العقل من أن وجوب الشئ يقتضي وجوب ما لا يتم إلا به إلا أن يمنع مانع " فلا فصل بينه وبين عن عكس قوله وقال: إن الأصل فيما يدل على العقل من هذا الباب أن الفعل الموجب إذا كان مشروطا بصفة فغير واجب تحصيل تلك الصفة والتوصل إليها، بل الواجب التزام الفعل عند حصول الشرط إلا أن يمنع مانع أو يدل على أن التوصل إلى حصول الشرط واجب فيقال به وإلا فالواجب ما ذكرناه، ويجب على هذا القول أن يكون لو خلينا والظاهر لم نوجب على المحدث الصلاة، وإنما أوجبناها وأوجبنا عليه تحصيل شرطها من وضوء وغيره لدليل دل على ذلك وإلا كانت تلحق بوجوب الزكاة والحج.
فإن قال: فكيف الصحيح عندكم في هذا؟ وهل ظاهر إيجاب الفعل إذا كان مشروطا بحصول غيره يقتضي تحصيل شرطه أم لا يقتضي ذلك، بل يلزم الفعل عند حصول الشرط ولا يلزم التوصل إليه؟
قيل له: الذي حكيناه إنما ذكرناه على سبيل المعارضة. (13) ومقابلة الدعوى الباطلة بمثلها، والصحيح عندنا أن ظاهر الإيجاب إذا كان مشروطا بحصول صفة من الصفات لا يقتضي تحصيل تلك الصفة. وكما أنه لا يوجب تحصيلها فهو أيضا غير موجب بظاهره القطع على أن تحصيلها غير واجب، بل فرض المخاطب عندنا الوقوف وتجويز ورود البيان بالتزامه تحصيل الصفة أو وروده بأن تحصيلها غير لازم، ثم يقال له: إذا كان لا يتم الشئ إلا به على ضربين عندك.
أحدهما لا يجب كتحصيل النصاب والزاد والراحلة والآخر يجب كالوضوء وما يجري مجراه فمن أين لك أن إيجاب الحدود من القسم الذي يوجب ما لا يتم إلا به؟
فإن قال: لأن ظاهر الإيجاب يقتضي وجوب ما لا يتم إلا به.
وإنما فرقت بين الزكاة وبين غيرها في هذا الباب فإن الاجماع حاصل على أن تحصيل النصاب غير واجب، ولولا الدليل لأوجبت تحصيل النصاب.
قبل له: ما الفصل بينك وبين من قال: بل ظاهر الإيجاب المشروط يقتضي وجوب الفعل عند حصول شرطه، ولا يوجب التوصل إلى الشرط: وإنما قلنا بوجوب الصلاة على المحدث وإن لم يتكامل شرطه لأن الاجماع حاصل على لزوم الصلاة له، ووجوب تحصيل شرطها عليه، ولولا ذلك لأجرينا الصلاة مجرى الزكاة والحج.
ثم ذكر بعد ما حكينا سؤالا أطاله جدا لا يسأل عن أكثره ابتدأ به، " فإن قالوا: إنما يصح ذلك إذا كان كلا الأمرين يجب على مكلف واحد، ويصحان منه، فوجوب أحدهما يتضمن وجوب الآخر إذا لم يتم إلا به... (14) " وأجاب عنه بما جملته مبني [ على ] (15) أن وجوب الشئ يقتضي وجوب ما لا يتم إلا به، وقد بينا أن ذلك ينقسم. وضربنا له أمثالا بالزكاة والحج. ودللنا على أن الظاهر من إيجاب الشئ إذا كان مشروطا بصفة لا يقتضي تحصيل الصفة فكما لا يقتضي ذلك فهو غير مقتض أيضا للقطع على أنها غير واجبة وأن الفعل يلزم عند حصول الصفة، بل الواجب أن يكون الأمر فيه موقوفا على الدليل، وليس لأحد أن يقول: فيجب أن يكون إيجاب المسبب ليس بإيجاب للسبب، وهذا إن ارتكبتموه بأن فساد قولكم لكل أحد، وإن منعتم منه وكان وجوب السبب لأجل إيجاب المسبب إنما هو من حيث كان لا يتم المسبب إلا به فهذا قائم فيما ذكرتموه فدفعتموه من إيجاب الحدود لأنه معلوم أن إقامتها لا يمكن إلا بالأئمة وذلك أن بين السبب وإيجاب لأجل وجوب المسبب وبين إقامة الحدود وما أشبهها فرقا واضحا، والأصل فيه أن كل شئ لا يتم إلا بغيره وكان إيجابه دون إيجاب الغير الذي لا يتم إلا به جائزا لا يجب أن ما دل على وجوبه ولزومه دالا على وجوب ذلك الغير، وإن كان الشئ الذي لا يتم إلا بغيره لا يجوز إيجابه دون إيجاب الغير كان إيجابه دالا على إيجاب ذلك الغير.
فمثال الأول ما ذكرناه الزكاة والحج لأنهما لا يتمان إلا بوجود النصاب والزاد والراحلة، وغير ممتنع أن يوجبا من غير إيجاب تحصيل الزاد والراحلة والنصاب، وإقامة الحدود لاحق بهذا الوجه لأنه غير ممتنع أن يوجب على الأئمة وإن لم يجب التوصل إلى جعلهم أئمة.
ومثال الثاني: السبب والمسبب لأنه يستحيل أن يوجب المسبب بشرط حصول السبب، لأن السبب إذا حصل كان المسبب في حكم الموجود إلا أن يمنع مانع، ومحال أن يوجب على المكلف إيجاد ما هو موجود، ولا بد من هذا الوجه أن يكون في إيجابه إيجاب السبب لأنه لا يمكن فيه غير ما ذكرناه.
فأما ما ذكره من العبادات الشرعية ووجوبها لكونها ألطافا في العقليات فمعارض (16) أيضا لما تقدم مما يجوز أن يجب ولا يجب، لأن العبادات الشرعية إذا ثبت كونها ألطافا في غيرها جرت مجرى ما هي لطف فيه في وجوب وغيره وليس كذلك شروط العبادات الشرعية، لأن فيها ما لا يجب لوجوب نفس العبادة كشروط الزكاة والحج، وفيها ما يجب كشروط الصلاة وما ماثلها.
فأما قوله: " فإن قيل: إن من يصلح للإمامة ليس يلزمه غير قبول العقد (17) على قولكم. ولا يلزمه التوصل إلى نصب إمام فكيف يصح ما ذكرتم؟
قيل له: إن لم تكن الإمامة واجبة فقبول العقد ليس بواجب فإذا صح بما ذكرناه وجوب القبول ثبت وجوب إقامة الإمام على غيره. لأنه إن صح من الغير ترك الإقامة ولم (18) يلزمه ذلك صح منه ترك القبول، لأن وجوب أحدهما متعلق بوجوب الآخر، على أن الأمر بخلاف ما قدره السائل، لأن الجماعة إذا صلحت للإمامة فواجب على كل واحد منهم الإقامة والقبول على الوجه الذي يصح وجوبه عليه، إلى آخر كلامه (19)... ".
فإنا لا نسأله - أيضا - عن هذا السؤال لأنا نعرف مذهبه في وجوب إقامة الإمام وأنه فرض لازم للجماعة، وإن كان على حد الكفاية، غير أن الذي قدمه في صدر جوابه غير صحيح ولا مبطل كما ألزمه، لأنه غير ممتنع أن يجب على الإمام عند العقد القبول، وإن كان العقد في الأصل غير واجب، لأن أحد الأمرين ينفصل عن الآخر. فلا يمتنع وجوبه دونه، وليس من حيث كان أحدهما كالأصل والآخر كالفرع بحسب ما ظنه، لأنا لا نعلم أن التكليف كالأصل لوجوب الألطاف وأنه متقدم له، ومع هذا فإن التكليف تفضل، والألطاف بعد التكليف واجبة. ونظائر ما ذكرناه كثير جدا في العقليات والشرعيات معا، لأن قبول الوديعة غير واجب وقد يلزم بعد قبولها الرد عند المطالبة وإن كان القبول كالأصل من حيث كان لولاه لم يلزم الرد، وكذلك عقد النكاح غير واجب في الأصل وإذا وقع وجب المهر عند حصول شرطه (20) وإن كان لولا العقد المتقدم الذي يجب لم يكن واجبا لما وجب، فإذا صح ما ذكرناه لم يكن منكرا أن يتعبد الإمام بقبول العقد، وإن كان من يختاره للإمامة مخيرا في اختياره له.
فأما قوله: " فإن قيل: إنه قبل أن يصير إماما ليس بمخاطب بإقامة الحدود إلا بشرط أن يصير إماما، وله أن يقول: لا أصير نفسي إماما لكي (21) أقيم الحدود، وإنما يلزمني ذلك إذا صرت إماما لأن الله تعالى كأنه قال: (والسارق والسارقة فاقطعوا) - أيها الأئمة - (أيديهما) (22)، فمن لا يكون بهذه الصفة لا يدخل تحت الخطاب.
قيل له: ليس الأمر كما قدرته لأن الأئمة يتجدد كونهم أئمة والخطاب لا يتجدد فلا بد من أن يكون الخطاب متناولا لجميعهم قبل أن يصيروا أئمة. فإذا صح ذلك فمن يصلح للإمامة إذا كان المعلوم أنه يصير إماما قد تناوله الخطاب فيلزمه التوصل إلى ذلك وإن كان في الوقت لا يحل له إقامة الحد، كما أن المحدث قد خوطب بالصلاة ويلزمه التوصل إلى إزالة حدثه وإن كان في الوقت لا يمكنه الأداء، فكما ليس للمحدث أن يقول لم أخاطب بذلك من حيث لا يمكنني الأداء وأنا على ما أنا عليه فكذلك ليس لمن يصلح للإمامة أن يقول [ لم أخاطب بذلك من حيث لا يمكنني الأداء وأنا على ما أنا فيه فكذلك ليس لمن يصلح للإمامة أن يقول ] (23) ما سألت عنه، (24)... " فظاهر البطلان، لأن ملك النصاب (25) والزاد والراحلة - أيضا - يتجدد كونه كذلك والخطاب لا يتجدد، فإن جعل كلا من المعلوم أنه يصير مالكا للنصاب والزاد والراحلة مخاطبا بالزكاة والحج فيجب أن يوجب عليه اكتساب المال كما أوجب على أهل الاختيار إقامة الإمام وإن جعله مخاطبا ولم نوجب ذلك عليه لأن الخطاب يتعلق بشرط حصول الصفة قيل له في الإمامة مثله وإن لم يجعله مخاطبا قبل ملك النصاب ثم صار مخاطبا عند حصوله وإن لم يكن الخطاب متجددا، بل ألحقه حكمه فمثل ذلك يمكن أن يقال في الإمام حذو النعل بالنعل (26)، وما جعله مثالا لأمر الإمامة من حال المحدث وجوب الصلاة عليه ليس هو بأن يجعله مثالا للإمامة أولى منها إذا جعلنا مثل الإمامة ووجوب إقامة الحدود على من حصل إماما ما ذكرنا من الزكاة والحج، فإن عاد إلى أن يقول: الأصل في الكل ما ذكرته في الصلاة. وإنما أخرجت الزكاة والحج بدليل، فقد مضى ما يفسد هذا مستقصى.
وقوله في من يصلح للإمامة: " إذا كان المعلوم أنه يصير إماما قد يتناوله الخطاب " تصريح بأن من لا يعلم من حاله أن يصير إماما لم يتناوله الخطاب، وهذا نقض لأصل الباب الذي شرع في نصرته. والاستدلال عليه، بل لأكثر الأصول لأنه يوجب عليه لو علم الله تعالى من حال أهل العقد ومن يصلح للإمامة بأنهم لا يقيمون إماما ولا يختارون أحدا للإمامة أن يكونوا معذورين في ترك الإمامة من حيث لم يكونوا مخاطبين بها. لأنهم إنما يلزمهم الحرج بترك الاختيار إذا كانوا مخاطبين بإقامة الحدود والتوصل إلى إقامتها، وصاحب الكتاب لم يزل يجهد نفسه حتى صرح بما يوجب سقوط الإمامة، ويبسط عذر من ترك إقامتها، وعدل عن الاهتمام بها، ويجب عليه - أيضا - أن يكون كل من علم تعالى حاله أنه لا يفعل بعض العبادات غير مخاطب بها ولا مكلف وفي هذا من هدم الدين ما فيه.
فأما قوله: " على أن لا خلاف بين المسلمين أن ما أمر الله تعالى بفعله من إقامة الحدود وما يجري مجراها لا يجوز تضييعه ما أمكن، وإنما اختلفوا في أنه يحرم تضييعه على أي وجه؟ فمنهم من قال: " يحرم ذلك إذا حصل الإمام " ومنهم من يقال: " يحرم قبل حصوله " فإذا لم يكن بين الحالين (27) فرق في أن التضييع وترك التضييع ممكن فيجب أن يحرم التضييع متى أمكن العدول عنه... (28) " فما زاد على أن ادعى أنه لا فرق بين الحالين، ولو لم يكن بينهما فرق إلا أن الاجماع حاصل على تحريم تضييعه عند حصول الإمام والخلاف واقع فيه قبل حصول الإمام لكفى في بطلان قوله على أن إقامة الحدود من فروض الإمام وعباداته وكذلك ما حرم تضييع إقامتها عليه مع الإمكان، وليس إقامة الإمام واختياره من فروضنا فيلزمنا إقامته. ولا نحن المخاطبون بإقامة الحدود فيلزمنا الذم بتضييعها لأنه إن ادعى ذلك كان مدعيا نفس المسألة وبعد، فإنه إنما يطلق لفظ التضييع فيما قد دل الدليل على وجوبه ولزومه دون ما هو غير واجب. وليس في إجماع الأئمة على تحريم إضاعة الحدود دلالة على ما يريده. لأن للخصم أن يقول له دل [ الدليل ] على أن إقامة الإمامة واجبة علينا أن نحن المخاطبون بإقامة الحدود أو لا؟ حتى يسوغ لك إجراء لفظ التضييع على ما يرتفع من الحدود عند عدم الإمام؟
وإذ كنت لم تقل ذلك لم يستقم كلامك، ولم يكن في الاجماع على تحريم إقامة الحدود متعلق لك.
وقوله: " وفيهم من قال يحرم تضييعها إذا حصل الإمام " تمويه طريف وإيهام أن فيه خلافا بين الأمة، ولا خلاف بينهم في أن إقامة الحدود لا تسوغ إضاعتها عند حصول الإمام من الإمكان لأنها من فروض الإمام وعباداته، وإنما الخلاف فيها قبل إقامة الإمام فهاهنا يحسن أن يقال: " ومنهم من قال يحرم تضييعها قبل إقامته " ولا يحسن في الأول لأنه لا خلاف فيه.
فأما قوله: " وقد صح في أنه لو كان في الزمان إمام وهو مع ذلك مغلوب أن الواجب التوصل إلى إزالة الغلبة عنه والمنع، لكي يقيم الحدود (29) الواجبة عليه فلذلك تجب إقامته، ولو لم تجب الإقامة لم يجب التوصل إلى إزالة الغلبة عنه [ والاستنقاذ من الأسر، إلى غير ذلك ] (30) لأن جميع ذلك إنما يجب للتوصل إلى ما ذكرناه... (31) " فغير مسلم له، لا لأن (32) وجوب إزالة الغلبة عن الإمام إنما كان ذكره، بل قد يجوز أن يكون واجبا لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويجوز أيضا أن يكون وجوبه لعلة لا نعرفها، وإن كنا نعرف في الجملة أنه من مصالحنا، والذي يبين أن الأمر بخلاف ما ظنه أن إزالة الغلبة والأسر والقهر وما جرى مجرى هذه الأمور قد يجب علينا في غير الإمام من الصالحين ومن جماعة المسلمين. ألا ترى أنا لو عرفنا أن بعض الصالحين مغلوب مأسور في يد بعض الأعداء لوجب علينا تخليصه مع الإمكان، وإن كان مما لا تعلق لإقامته الحدود به، وقد يجب علينا أيضا مثل هذا في الإمام نفسه وإن بلغ إلى حد من الضعف والكبر يعجز معه عن القيام بأمر الإمامة وإقامة الحدود، فإن كانت العلة ما ذكره (33) لسقط عنا إزالة الغلبة عن الإمام إذا بلغ إلى هذا الحال (34).
فأما قوله " ولهذه العلة قلنا: إن الإمام إذا كان مغلوبا لا يمكن استنقاذه يجب على الناس إقامة أمير ليقوم بهذه الأمور، لأن إقامته (35) من قبله قد تعذر [ ت ] فيلزمهم إقامته ليقوم بالحدود (36) [ وغيرها ]، لأن من يقوم بالأصل يجوز أن يقوم بما يجري مجرى الفرع... (37) " فبناء على أصله وحكاية لقوله ومن يخالفه في وجوب الإمامة ينازعه في هذا ويقول:
ليس يجب علينا إقامة الأمراء إذا كان الإمام مغلوبا كما لا يجب علينا إقامة الإمام في الأصل، فإن في الناس من يذهب إلى أن إقامة الأمراء لا يسوغ لنا جملة لأنه [ من ] فروض الأئمة وعباداتهم التي يختصون بها كما أن [ إقامة ] الحدود من فروضهم التي تختص بهم.
ويقولون: لو ساغ لنا إقامة الأمراء لساغ لنا إقامة الحدود.
فأما قوله: " على أنه لا خلاف أن الإمام إذا حصل فواجب عليه نصب الأمراء والحكام في البلاد التي لا يمكن فيها النظر بنفسه، وقد علمنا أن ذلك إنما يجب للتوصل إلى هذه الأمور كما يجب عليه التوصل بالتولية فكذلك يمكن أهل الحل والعقد التوصل إلى إقامة إمام ليقوم بهذه الأمور، فيجب أن يكون ذلك واجبا. لأنه لا يمكن أن يقال: إنما لزم الإمام لأن ذلك من واجباته فيلزمه إذا لم يفعل بنفسه أن يفعل بغيره، وذلك لا يجوز أن يلزمه (38) بنفسه ما لا يمكن الوفاء به فليست العلة (39) إلا ما قدمنا ذكره.. (40) " فلخصمه أن يقول: إقامة الأمراء ونصب الحكام من فروض الإمام وعباداته التي يختص بها، وليس يجب أن يكون له علة معروفة سوى ما نعلمه من كونه مصلحة في الجملة، وقد يجوز أن تقتضي المصلحة تولي الإمام ذلك وإيجابه عليه لا يقتضي مثله فينا ولو ساغ لصاحب الكتاب سلوك مثل هذه الطريقة لساغ لغيره أن يقول أيضا: قد ثبت وجوب الزكاة على مالك النصاب ولم أجد في وجوبها علة إلا كونها نفعا للفقراء، وهذه العلة حاصلة في من لا نصاب معه وهو متمكن من الاكتساب وتحصيل النصاب ويوجب بهذا الاعتبار اكتساب المال ليتوصل به إلى نفع الفقراء كما أوجب صاحب الكتاب على الإمام إقامة الأمراء من حيث ظن أن العلة فيه التوصل إلى إقامة الحدود، فليس له أن يقول:
" إن الاجماع منعقد على نفي وجوب اكتساب المال، فلهذا فرقت بين الأمرين " وقلت أن الاجماع لا يجوز أن يقتضي المناقضة، بل حصوله يدلنا أن الزكاة لم تجب على مالك النصاب من حيث كانت نفعا للفقراء فقط، بل لأمر زائد، وإذا صح هذا فكذلك غير ممتنع أن يكون إقامة الأمراء لم يلزم الإمام لأجل التوصل المطلق إلى إقامة الحدود، بل لأمر يخص الإمام ولا يجب أن يحمل حالنا فيه على حاله.
وقوله: " لا يجوز أن يكون من واجباته ما لا يمكن الوفاء به " (41) ليس المعني فيه ما قدره، لأنه ظن أن ذلك يلزمه في كل بلد على سبيل الجمع. وليس المراد هذا وإنما هو أن الإمام مكلف بهذه الأمور وأنه يتولاها بنفسه أو يستخلف فيها على سبيل البدل، وليس يجب - إذا تعذر عليه تولي الكل بنفسه - أن يخرج الكل من وجوبه على الوجه الذي رتبناه. لأنه لا بلد من البلدان ولى الإمام فيه أمراء وحكاما إلا وقد كان يجوز أن يتولى ما ولاهم إياه بنفسه. فالذي توهمه في هذا الموضع فهو غير صحيح.
فأما قوله: " وبعد، فلو كان إقامة الرئيس (42) غير واجبة لكان من يصلح للإمامة - إذا اختير لذلك - لا يلزمه القبول... (43) " فقد مضى بياننا أن أحد الأمرين ينفصل عن الآخر، وأنه غير ممتنع أن يلزمه القبول وإن كانت إقامته غير لازمة. وضربنا لذلك أمثالا فلا طائل (44) في إعادة ذكرناه.
فأما قوله: " ولو كان الأمر كذلك لكان بعد دخوله فيه لا يلزمه الثبات على الإمامة، بل كان يجب أن يكون مخيرا في قبول العقد (45)... " فليس الأمر كما توهمه، وغير ممتنع أن يكون القبول غير لازم له، وإن كان الثبات بعد القبول لازما لأنه ليس لأحدهما بالآخر من التعلق ما يقتضي وجوب اشتراكهما فيما ذكره، ولو كان ما اعتل به صحيحا لوجب أن يكون المتبايعان بعد قبولهما عقد البيع وتفرقهما وحصول جميع الشرائط يسوغ لهما الرجوع في البيع من غير عيب من حيث كان قبول البيع وعقده في الأصل غير واجب، وكذلك كان يجب للمرأة أن يحل لها بعد قبولها عقد النكاح ودخولها فيه الخروج منه، ولا يلزمها الثبات عليه لما لم يكن القبول واجبا عليها، وإذا فسد كل هذا ثبت أن الذي اعتل به من أن القبول لازم من حيث لزم الثبات ظاهر البطلان.
فأما قوله: " يبين صحة ذلك أن الإمام إذا كان (46) مخيرا في العدول عن إقامة أمير إلى نفسه (47) وعن توليته بنفسه إلى إقامة أمير وعن (48) أمير إلى
أمير كان للأمير أن يختار الخروج عن الإمارة ما لم يلزم الإمام صفة زائدة على إقامته أميرا. فكذلك كان يجب في الإمام لو لم تكن إقامته واجبة، (49)... " فمنتقض أيضا بما ذكرناه في البيع. لأن للمتبايعين أن يعدلا عن مبيع إلى مبيع ولهما أن لا يتبايعا جملة لأنهما مخيران في ذلك وليس بواجب عليهما ومع ذلك فليس لهما ولا لكل [ و ] أحد منهما بعد عقد البيع وقبول وتكامل شرائطه الخروج عنه وفسخه. وكما لا يدل هذا على أن البيع في الأصل واجب فكذلك لا يدل تحريم الخروج عن الإمامة بعد الدخول فيها على أنها واجبة ولازم قبولها.
على أن ما ذكره منتقض من وجه آخر، وهو أن جائز عنده أن يكون في العصر جماعة قد تكاملت شروط الإمامة فيهم، وعلم من كل واحد صلاحه لها واضطلاعه بها من غير أن يكون لأحدهم على الآخر مزية في معنى الصلاح للإمامة وإن لم يجوز أن يكون جماعة بهذه الصفة فليس يمكن أن يدفع وجود اثنين يصلحان لها على الوجه الذي ذكرناه.
ونحن نعلم أنه إذا اتفق هذا كان أهل الاختيار مخيرين في اختيار كل واحد منهما وعرض الأمر عليه، ولا يكون الذي يختار ويعرض الأمر عليه مخيرا في القبول والرد ولا في الثبات بعد القبول، بل عندهم أنه يجب عليه القبول وكذلك يلزمه الثبات فيبطل أن يكون العلة في جواز خروج الأمير عن الإمارة ما ذكره من كون الإمام مخيرا في اختياره وإقامته أميرا، لأن العلة لو كانت هذه لوجب في الاثنين اللذين ذكرنا حالهما جواز خروجهما عن الإمامة بعد قبولهما من حيث كان من يختارهما مخيرا بينهما.
فأما قوله: " وبعد، فقد ثبت في الشرع أن الذي لأجله يقام الإمام هو ما يقوم بمصلحة الدنيا والدين من اجتلاب المنافع، ودفع المضار من غير تخصيص بعين (50)، بل ولا أحد منهم إلا وله في ذلك حظ حاصل أو مجوز.
وقد علمنا أن ما هذا حاله يلزم التوصل إليه لأنه توصل إلى دفع المضار المظنونة أو المعلومة، وقد بينا من قبل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان على الوجوه التي ذكرناها، وما يقوم به الإمام إن لم يزد حاله على حالهما لم ينقص فيجب التوصل إليه... (51) فليس يخلو حال الإمامة عنده من وجوه:
إما أن يجب لمصالح الدين أو لمصالح الدنيا أو لهما، فإن وجب لأنها من مصالح الدين وجبت الإمامة من طريق العقول، ولم يفتقر فيها إلى السمع والشرع كما يجب نظائرها من مصالح الدين بالعقول.
وهذا إن أراده فهو دخول في مذهبنا ولحوق بنا.
وإن وجبت للأمرين أيضا وجب ما ذكرناه لأن هذا القسم مشتمل على القسم الأول وزائد عليه وإن وجبت من حيث مصالح الدنيا ولاجتلاب المنافع ودفع المضار الدنيوية لم يخل من أن يكون تلك المنافع والمضار مما يجب اجتلابها والتحرز منها أو لا يجب.
فإن كان مما يجب ما ذكرناه فيها وجبت الإمامة أيضا من طريق العقول، لأن اجتلاب المنافع ودفع المضار التي يجب في كل حال. ولا يجوز أن تكون غير واجبة يجب فيها الاجتلاب والتحرز بالعقل، وإن كانت مما يجوز أن يجب وأن لا يجب فالواجب على صاحب الكتاب أن يورد في إثبات وجوبها دليلا سمعيا يخصها ويدل على وجوبها، لأنه إذا كان وجوبها مجوزا حصوله وسقوطه من طريق العقل لزم من أثبته سمعا إيراد دليل سمعي فيه، وتعلقه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يغني عنه شيئا لأن لمن يخالفه أن يقول: إنني أثبت ذلك بالسمع المخصوص ولإجماع الأمة عليه، والإمامة خارجة عند لأنه لا إجماع فيها ولا سمع يقتضي وجوبها على التخصيص، ومن ادعى لحوقها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجب عليه أن يستدل على دعواه ويبين وجه دخولها في باب الأمر بالمعروف.
وليس لأحد أن يقول: إن الإمامة تجب لمصالح الدين وإن لم تجب من طريق العقول - كالصلاة وغيرها مما يكشف السمع عن كونه مصلحة في الدين - لأنا قد بينا أن الوجه في وجوبها معلوم في العقول ومستدرك قبل ورود السمع، ولو تجاوزنا ذلك لم يجب لحوقها بالصلاة من حيث علم بالسمع أن فيها مصلحة. لأنه غير ممتنع أن تثبت المصلحة فيها على وجه لا يقتضي الاستمرار، وإن اقتضى الاستمرار لم يقتض الوجوب، فقد علمنا أن لنا في جميع النوافل مصالح وإن لم تكن واجبة. فليس يجب إذا علم بالسمع بثبوت المصلحة الراجعة إلى الدين في الإمامة أن تكون واجبة، فيلزمه إذا ادعى وجوبها ولحوقها بالواجبات من العبادات كالصلاة وغيرها أن يدل على موجب دعواه، وتنفصل من خصمه إذا ألحقها بالنوافل الشرعية التي فيها مصالح دينية وهي مع ذلك غير واجبة.
فأما قوله: " وقد اعتمدا (52) وغيرها على ما ثبت من إجماع (53) الصحابة لأنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله فزعوا إلى إقامة الإمام على وجه يقتضي أن لا بد منه، وما نقل من الأخبار، وتواتر في ذلك يدل على ما قلناه من حالتهم عند العقد لأبي بكر يوم السقيفة، ثم بعده لعمر، ثم بعده في قصة الشورى وما جرى فيه [ ا ]، وبعده لأمير المؤمنين [ علي ] عليه السلام. وقد علمنا أن التشدد في ذلك على الوجوه التي جرت منهم حالا بعد حال لا يكون إلا في الأمر الواجب الذي لا بد منه،... (54) ".
فالذي ذكره يدل - إن كان دالا - على حسن إقامة الإمام وجواز نصبه، ولا يدل على وجوب ذلك في كل عصر وزمان لأنه لا يمتنع أن يكون العاقدون لأبي بكر والمجتمعون للشورى إنما بادروا إلى ما بادروا إليه وحرصوا عليه لأن الحال اقتضته، ولأنه غلب في ظنونهم أن إهمال العقد فيه فساد وانتشار، وليس في من يخالف في وجوب الإمامة - على كل حال - من ينفي حسنها ويدفع أن يقتضي بعض الأحوال الفزع إليها فيكون ما ذكره حجاجا له (55)، بل من قولهم: إن الإمام قد يجوز أن يستغنى عنه في بعض الأحوال التي تغلب في الظن أن الناس فيها يلزمون الصلاح والسداد في الأكثر وإن كان غير مستغن عنه في الأحوال التي تغلب في الظن أن الفساد يقع عند إهمال نصبه، وسائر ما ذكره من التشدد والحرص لا يدل على وجوب الإمامة في كل حال. لأن الذي ذكرناه من اقتضاء الحال لها يستعمل فيه من التشدد والمبادرة مثل ما استعمله العاقدون لأبي بكر وأكثر.
فأما قوله: " ومما يبين صحة الاجماع في ذلك أن كل من خالف فيه لا يعد في الاجماع لأنه إنما خالف في ذلك بعض الخوارج، وقد ثبت أنهم لا يعدون في الاجماع، فأما ضرار (56) فأبعد من أن يعد في الاجماع، وأما الأصم (57) فقد سبقه الاجماع، وإن كان شيخنا أبو علي قد حكى عنه ما يدل على أنه غير مخالف في ذلك، وأنه إنما قال: " لو أنصف الناس بعضهم بعضا وزال التظالم وما يوجب إقامة الحد لاستغنى الناس عن إمام، والمعلوم من حال الناس خلاف ذلك فإذن يلزم من قوله إن إقامة الإمام واجبة (58)... " فليس يخلو ادعاؤه الاجماع من أن يكون في فعل الصحابة ما حكاه من المبادرة إلى العقد والتشدد فيه، أو يكون في (59) أن الإمامة واجبة في كل حال، فإذا كان الأول فذلك مما لا يخالف فيه عاقل لا خارجي ولا غيره وليس في ثبوته دلالة على ما قصده، لأنا قد بينا ما يمكن أن يكون التشدد من أجله وأوضحناه، وما نظنه أراد هذا الوجه بل لم يرده لأن كلامه يدل على الثاني، فإن كان أراده فما كانت به حاجة إلى أن يتمحل (60) الأدلة على وجوب الإمامة من أول الباب إلى هاهنا ويستعمل ضروب الطرق، فتارة يتعلق بالقرآن، وتارة بأفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرى بقياس الإمامة على الإمارة واستخراج علة وجوب إقامة الأمراء على الأئمة ونقلها إلى وجوب الإمامة، وما فيه إجماع لا يحتاج في تثبيته إلى شئ مما تكلفه، فصاحب الكتاب بين أمرين إما أن يكون ما ادعاه من الاجماع حقا والمخالف فيه شاذا لا يعد خلافه خلافا، أو أن يكون الاجماع فيما ادعاه، فإن كان الأول بطل أن يكون فيما تكلفه من الكلام والاستدلال على المسألة غرض صحيح، وجرى جميع ما أورده مجرى العبث، وقام فيه مقام المستدل بدقيق الأدلة وضروب الطرق على أن النبي صلى الله عليه وآله أمر بصلوات خمس، ودعا إلى حج الكعبة، وإن كان الأمر على الوجه الثاني فقبيح بمثله أن يدعي الاجماع في موضع لا إجماع فيه، وعلى أن ما توهمه من الاجماع غير ثابت لأن الخوارج وهي فرقة من فرق الأمة التي إذا عددنا فرق الأمة لم يكن بد من إلحاقهم بها، وعد فرقهم في جملة الفرق، تخالف في ذلك وتذهب إلى خلاف مذهبه.
وليس قوله: " إنني لا أعدهم في الاجماع " بحجة لأن للخوارج أن يقولوا له مثل قوله بحدوث فرقتهم (61) وزمان حدوثهم وابتداء أصل مقالتهم معروف كما أن ذلك معروف في مقالة الخوارج.
فأما ضرار والأصم فإخراجهما أيضا من الاجماع مع كثرة من يذهب إلى مذهبهما في ذلك لا معنى له، ويطرق قوله: " إن الاجماع قد سبقهما عليه " أشياء كثيرة نحن أغنياء عن ذكرها، فليس في شيوخه الأدنين والأقصين إلا من ذهب إلى قول قد سبقه الاجماع إلى خلافه.
فإن قال: أليس قد احتج كثير من أصحابكم في وجوب الإمامة بالاجماع مع علمه بخلاف الخوارج والأصم وغيرهم؟ فكيف طعنتم على الاحتجاج بهذه الطريقة؟.
قيل له: ليس يصح قبل ثبوت وجود المعصوم الاستدلال بالاجماع على وجوب الإمامة ولا على غيرها، وإنما صح استدلال بعض أصحابنا بالاجماع في وجوب الإمامة ولم يحفل (61) بخلاف من خالف في وجوبها بعد أن ثبت له وجود إمام معصوم في جملة الفرقة المحقة التي هي الإمامية، وأمن بذلك من اجتماعها على الخطأ، فلو لم يقل بوجوبها إلا فرقة الإمامية وخالفها سائر الفرق لكانت الحجة ثابتة بقولها من الوجه الذي ذكرناه، وليس يمكن الخصوم مثل هذا في مذاهبهم، فمن هاهنا دفعناهم عن الاحتجاج بما ذكره، وأوجبنا عليهم الاعتبار لمن خالفهم في وجوب الإمامة.
فأما ما حكاه عن أبي علي من تأوله قول الأصم وظنه أن قوله موافق لقولهم في باب الإمامة فغير مجد عليه، لأن الأصم يقول: " إنه غير ممتنع أن يغلب في ظن الناس في بعض الأحوال زوال التظالم، واستعمال طريقة الإنصاف فيستغنون عن إمام، وإن ذلك مما يجوز حصوله في كل حال يشار إليها " (62) وهذا تصريح بخلاف القوم الذاهبين إلى وجوب إقامة الإمام في كل حال وأوان، والجاعلين الأحوال كلها متساوية في الحاجة إليه.
فأما قوله: " ولا يمكن الاعتماد في ذلك على قوله عليه السلام:
" إن الأئمة من قريش " (63) وأنه إذا أوجب فيها هذه الصفة دل على وجوبها، وذلك لأنه عليه السلام قد بين الصفة التي لا تصح العبادة إلا معها ويكون نقلا لما قد يتبين كونها واجبة فمن أين أنه أراد الإمامة الواجبة من قريش دون غيرهم، دون أن يريد أن الإمامة المستحبة أو التي ندبتم إليها، أو التي يلزمكم في حال دون حال... (64) " فقد استعمل صاحب الكتاب في الرد على من تعلق بالطريقة التي ذكرها مثل ما استعملناه في الرد على طريقته التي ابتدأ بها هذا الباب وقام في دفعها مقامنا في دفع ما اعتمده، لأنا نعلم أن قوله (الأئمة من قريش) وإن كان بصورة الخبر فهو أمر، وتقدير الكلام اختاروا من قريش أو إذا اخترتم إماما فليكن من قريش، ولو لم يكن بمعنى الأمر وإن كان له لفظ الخبر لما ساغ الاحتجاج به على الأنصار، ولا يكون الحجة ثابتة عليهم إلا إذا كان أمرا في الحقيقة. أوله معنى الأمر، فإذا لم يمتنع عنده أن يريد بذلك إذا أقمتم إماما فليكن من قريش فيكون الخبر مفيدا لصفة الإمام الذي هم مخيرون في إقامته غير مقتض لوجوب إقامته فكذلك قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (65) وتوجيهه تعالى هذا الخطاب إلى الأئمة دون غيرهم لا يقتضي وجوب إقامة الأئمة بل هو خطاب لمن كان إماما بقطع السراق ويكون تقدير الكلام والسارق والسارقة فليقطع أيديهما من كان إماما.
وقوله: " من أين أن الإمامة الواجبة من قريش دون المستحبة أو التي ندبتم إليها "؟ فكذلك يقال من أين أن خطابه تعالى بقطع السارق متوجه إلى الأئمة الذين تجب إقامتهم دون الذي ندب إلى إقامتهم أو دل على استحبابها، وهذا ما لا فصل فيه (66).
فأما قوله: " ولا يمكن الاعتماد في ذلك على ما كان من استصواب النبي صلى الله عليه وآله في إقامتهم خالد بن الوليد يوم مؤتة أميرا (67) وذلك إن الكلام هو في وجوبه لا في كونه صوابا، ولأن الرجوع في الإمامة إلى طريق القياس لا يصح " (68) فهو إنكار لما قد استعمله، وعول عليه (69) لأنه قد سلك طريقة القياس في إثبات وجوب الإمامة



____________
(1) يريد بهما أبا علي وابنه أبا هاشم الجبائيين.
(2) من الآية 38 سورة المائدة.
(3) سورة النور رقم الآية 2.
(4) التكملة من المغني.
(5) المغني 20 ق 1 / 41.
(6) غ " الحد ".
(7) التكملة من المغني.
(8) قال محقق المغني: الأولى حذف " له ".
(9) " فلا " ساقطة من المغني.
(10) التكملة من المغني.
(11) المغني 20 ق 1 / 41.
(12) الكفايات جمع كفاية، وفرض الكفاية هو ما لو قام به بعض المكلفين سقط عن الآخرين.
(13) المعارضة: المقابلة، يقال: عارض الكتاب بالكتاب: أي قابله.
(14) المغني 20 ق / 1 / 42.
(15) الزيادة يقتضيها السياق.
(16) فمقارف، خ ل.
(17) غ " إنما يلزمه قبول العقد على قولكم ".
(18) غ " ولا ".
(19) المغني 20 ق 1 / 44.
(20) في الأصل " لكن " وأصلحناه على المغني.
(21) سورة المائدة 28.
(22) التكملة بين المعقوفين من المغني.
(23) المغني 20 ق 1 / 44 و 45.
(24) النصاب القدر من المال الذي تجب فيه الزكاة.
(25) حذو النعل بالنعل: تقدير كل واحدة منهما على صاحبتها. ويضرب هذا المثل للمشاكلة والمجانسة.
(26) غ " الحالتين ".
(27) المغني 20 ق 1 / 45.
(28) غ " يقوم بالحدود ".
(29) الزيادة من غ.
(30) المغني 20 ق 1 / 45.
(31) في الأصل " أو لا أن ".
(32) وهي إقامة الحدود.
(33) في الأصل " لوجب لسقوط إزالة الغلبة عن الإمام إذا بلغ إلى هذه الحال عنا ".
ولا يستقيم بها المعنى.
(34) أي إقامة الأمير.
(35) " بالحقوق ".
(36) المغني 20 ق 1 / 45.
(37) فاعل يلزمه الاسم الموصول.
(38) وهي التوصل إلى إقامة الحدود.
(39) المغني 20 ق 1 / 47.
(40) لا يخفى أن ما نقله الشريف من كلام القاضي هنا نقله بمعناه لا بحروفه وكثيرا ما يفعل ذلك.
(41) غ " الإمام ".
(42) المغني 20 ق 1 / 46.
(43) ولا طائل. خ ل.
(44) المغني 20 ق 1 / 46.
(45) غ " لو كان ".
(46) غ " لنفسه ".
(47) في " وعن أمير " فأثبتنا ما في المغني.
(48) المغني 20 ق 1 / 47.
(49) من غير تعيين، خ ل.
(50) المغني 20 ق 1 / 47.
(51) يريد شيخيه الجبائيين كما تقدم.
(52) اجتماع، خ ل.
(53) المغني 20 ق 1 / 47.
(54) محتاجا له، خ ل.
(55) هو ضرار بن عمرو. من أئمة المجبرة، ومن آرائه أفعال العباد مخلوقة لله حقيقة والعبد مكتسبها حقيقة وحصول الفعل بين فاعلين جائز. وزعم أن الإمامة تصلح في غير قريش، وكان ينكر حرف ابن مسعود وحرف أبي بن كعب ويقطع بأن الله لم ينزلهما.
(56) حكى قول الأصم في الاستغناء عن الإمام وتوجيه المعتزلة لكلامه هذا ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة ج 2 / 308.
(57) المغني 20 ق 1 / 43.
(58) من، خ ل.
(59) التمحل: الاحتيال والمراد به هنا التكلف.
(60) أي المعتزلة.
(61) يحفل: يبالي.
(62) نقل القاضي كلام أبي علي في المغني باختصار ونقل هذا التخريج لكلام الأصم ابن أبي الحديد في شرحه على النهج 2 / 308 عن المتأخرين من أصحابهم.
(63) هذا الحديث احتج به أبو بكر يوم السقيفة على الأنصار ولكن الجمع بينه وبين قوله عمر: " لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفه " يوقع الباحث في حيرة لأن سالما ليس بقرشي.
(64) المغني 20 ق 1 / 48.
(65) سورة المائدة: 41.
(66) لا فصل فيه: أي لا تفريق فيه.
(67) كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد سمى لإمارة الجيش الذي بعثه إلى مؤتة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وقال صلوات الله عليه وآله:
" فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون من بينهم رجلا فليجعلوه عليهم " فلما قتل عبد الله رواحة وهو آخر من سماهم انهزم المسلمون في كل وجه، ثم تراجعوا فأخذ ثابت ابن أرقم اللواء ودفعه إلى خالد فحمل به ساعة فانحاز بالمسلمين وانكشفوا راجعين وليس فيما رواه علماء السيرة استصواب النبي صلى الله عليه وآله لإمارته، إلا أنه لما رجع بالناس إلى المدينة استقبلهم أهلها باللوم والتثريب وعيروهم بالفرار حتى جلس الكبراء منهم في بيوتهم استحياء من الناس، فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يخفف عنهم ويكف الناس عن لومهم فقال: " ليسوا بالفرار ولكنهم كرار إن شاء الله " نقل ذلك ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 15 / 70 عن مغازي الواقدي وكذلك هو في سيرة ابن هشام 4 / 24.
(68) المغني 20 / 48.
(69) في الأصل " عليها ".
(70) هما أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم كما تقدم.
(71) المجتمعين، خ ل.
(72) غ " إلى ذلك ".
(73) كنز العمال ج 6 ص 5 ونقل أوله في المغني فقط.
(74) المغني 20 ق 1 / 49.
(75) المجمعين، خ ل.
(76) غ " والفرض لها ".
(77) غ على الجملة.
(78) من أمور الإمامة.
(79) المغني 20 ق 1 / 49.
(80) أي ما وقفهم عليه من الأحكام.
(81) في الأصل " وإذا كان ذلك " ولا يستقيم المعنى إلا بحذف إذا لعدم الجزاء في الكلام.
(82) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(83) في الأصل " مع ".
(84) المغني 20 ق 1 / 49.
(85) يراجع في تفصيل وقائع السقيفة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 من ص 21 إلى 61 وص 218 و ج 6 من ص 5 - 45.
(86) أي في جماعة الأنصار.
يسهبون: يكثرون الكلام.
(87) يتعاطى: يخوض فيه.
(88) سورة المائدة 55 وسيأتي التعليق عليها في الفصل الذي عقده المرتضى لإبطال ما دفعه القاضي من النص على الإمامة.
(89) في مختار الصحاح: " شتان ما هما، وشتان ما زيد وعمرو أي بعد ما بينهما.
قال الأصمعي: لا يقال شتان ما بينهما، وقال الشاعر: (لشتان ما بين اليزيدين في الندى) ليس بحجة لأنه مولد وإنما الحجة قول الأعشى.
شتان ما يومي على كورها    ويوم حيان أخي جابر "
انتهى.
وقد تمثل أمير المؤمنين عليه السلام بقول الأعشى هذا في خطبته المعروفة بالشقشقية.
(90) انتحاله: المتذهب به.
(91) يعني من اعتقد أن الإمامة بالنص لا بالاختيار.
(92) بأسرها: بأجمعها، والأسار - بكسر الهمزة -: القد الذي يشد به العشب ونحوه، فإذا قيل هذا لك بأسره أي بقده والمعنى بجميعه.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page