• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

موضوع الخطبة ومحور إيرادها

لا يخفى أن ماحثت سيدتنا الزهراء عليها السلام لإيراد الخطبة أمام حشد من الصحابة محتجة بها على أبي بكر هو (فدك) التي نحلها رسول الله صلى الله عليه وآله فأخرجها أبو بكر من يدها متزعماً أنها من تركة النبي صلى الله عليه وآله، وتركته صدقة لعموم المسلمين. وهي عليها السلام قد تعرضت لدفع هذه الأحدوثة والأكذوبة، وسنتعرض إنشاء الله تعالى في الفصل الآتي للأهداف التي استهدفتها بإيراد هذه الخطبة، فلنتكلم في هذا الفصل أولاً على شأن فدك وما مر عليها من الأحداث، وثانياً في أن الزهراء عليها السلام ادعت فيها أربع دعوات: أحدها أن فدكاً كانت نحلة نحلها رسول الله صلى الله عليه وآله إياها في حياته، والثانية: أنها إرثها من النبي صلى الله عليه وآله كما يرث كل ولد من أبيه، والثالثة دعوى سهم ذوي القربى، والرابعة دعوى الخمس.
ما هي فدك؟
1ـ قال ابن المنظور في اللسان: فدك القطن تفديكاً: نفشه... فدك قرية بخيبر، وقيل: بناحية الحجاز، فيها عين ونخل، أفاءها الله على نبيه صلى الله عليه وآله... فذكر علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله كان جعلها في حياته لفاطمة رضي الله عنها.
2ـ قال الفيومي في (المصباح المنير): فدك بفتحتين: بلدة بينها وبين مدينة النبي صلى الله عليه وآله يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، وهي مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وآله وتنازعها علي والعباس في خلافة عمر، فقال علي: جعلها النبي صلى الله عليه وآله لفاطمة وولدها...
3ـ قال العلامة الشيخ فخر الدين الطريحي في (مجمع البحرين): فدك، بفتحتين: قرية من قرى اليهود، بينها وبين مدينة النبي صلى الله عليه وآله يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، وهي مما أفاء الله على رسوله، منصرف وغير منصرف، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله لأنه فتحها هو وأمير المؤمنين عليه السلام لم يكن معهما أحد، فزال عنها حكم الفيء ولزمها اسم الأنفال. فلما نزل (وآت ذا القربى حقه)(1) أي أعط فاطمة عليها السلام فدكاً، أعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله إياها، وكانت في يد فاطمة عليها السلام إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخذت من فاطمة بالقهر والغلبة. وقد حدها علي عليه السلام: حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل ـ يعني الجوف ـ.
4 ـ قال المؤلف الكبير البلاذري: ولما كانت سنة عشر ومائتين أمر أمير المؤمنين المأمون عبد الله بن هارون الرشيد فدفعها إلى ولد فاطمة، وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله في المدينة: (أما بعد فإن أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله، والقرابة أولى من استن سنته... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أعطى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله فدك وتصدق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله صلى الله عليه وآله... فرأى أمير المؤمنين أن يردها إلى ورثتها ويسلمها إليهم تقرباً إلى الله تعالى...)(2).
5ـ قال الشيخ شهاب الدين ياقوت الحموي في (معجم) البلدان: فدك، بالتحريك وآخره كاف، قال ابن دريد: فدكت القطن تفديكاً إذا نفشته. وفدك قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاثة، أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وآله في سنة سبع صلحاً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاث، واشتد بهم الحصار، راسلوا رسول الله صلى الله عليه وآله يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة، وهي التي قالت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ إن رسول الله نحلنيها، فقال أبو بكر: أريد لذلك شهوداً، ولها قصة...
6 ـ قال المؤرخ المشهور محمد بن جرير الطبري المتوفى 310: قال ابن إسحاق: وأتي رسول الله صلى الله عليه وآله بكنانة بنت الربيع بن أبي الحقيق وكان عنده كنز بني النضير، فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله برجل من يهود، فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أ أقتلك؟ قال: نعم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي، فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. وحاصر رسول الله صلى الله عليه وآله أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم، ففعل. وكان رسول الله قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتيبة، وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم لهم، ويخلوا له الأموال، ففعل. وكان فيمن مشى بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة، فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يعاملهم بالأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب(3).
7ـ قال المؤرخ الكبير عز الدين أبو الحسن المعروف بابن الأثير: وكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب(4).
8 ـ قال ابن أبي الحديد في ذيل كتابه عليه السلام إلى عثمان بن حنيف تحت الرقم 45: قال أبو بكر: حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال: حدثنا حيان بن بشر قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: أخبرنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري قال: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحقن دماءهم ويسيرهم، ففعل، فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك، وكانت للنبي صلى الله عليه وآله خاصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. قال أبو بكر: وروى محمد بن إسحاق أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فصالحوه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق أو أبعد ما أقام بالمدينة، فقبل ذلك منهم، وكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وآله خالصة له، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب(5).
1 ـ دعوى النحلة وأخبارها
1ـ قال الحافظ العلامة عبد الرحمن جلال الدين السيوطي: أخرج البزاز وأبو يعلي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: (وآت ذا القربى حقه)(6) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة فأعطاها فدك.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (وآت ذا القربى حقه) أقطع رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة فدكاً(7).
2ـ قال ابن حجر في الشبهة السابعة من شبه الرافضة: ودعواها (فاطمة) أنه صلى الله عليه وآله نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلي وأم أيمن فلم يكمل نصاب البينة(8).
3ـ قال فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير في ذيل الآية 6 من سورة الحشر(9): قال المبرد: يقال: فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه الله إذا رده. وقال الأزهري: الفيء ما رده الله على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال، إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين، أو يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم... ذكر المفسرون ههنا وجهين: الأول: أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير، لأنهم أوجفوا عليهم بالخيل والركاب وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون، بل هو في فدك، وذلك لأن أهل فدك انجلوا عنه، فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول صلى الله عليه وآله من غير حرب... فلما مات ادعت فاطمة عليها السلام أنه كان ينحلها فدكاً، فقال أبو بكر: أنت أعز الناس علي فقراً وأحبهم إلي غنىً، لكني لا أعرف صحة قولك، فلا يجوز أن أحكم بذلك، فشهد لها أم أيمن ومولى لرسول الله عليه السلام، فطلب أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع(10).
4 ـ قال الحافظ الكبير أبو القاسم الحسكاني: عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله (وآت ذا القربى حقه) دعا فاطمة فأعطاها فدكاً والعوالي وقال: هذا قسم قسمه الله لك (و) لعقبك(11).
5 ـ عن أبي سعيد قال: لما نزلت (وآت ذا القربى حقه) قال النبي صلى الله عليه وآله يا فاطمة لك فدك(12).
كلام الأعلام حول النحلة
6ـ قال العلامة الشهرستاني: الخلاف السادس في أمر فدك والتوارث عن النبي صلى الله عليه وآله، ودعوى فاطمة عليها السلام وراثة تارة، وتمليكاً أخرى، حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي عليه السلام: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)(13).
7ـ قال الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود: والرأي الأصل في فدك أنها ملك خالص لرسول الله يجوز أن تكون قد بقيت له حتى وفاته، ويجوز أن يكون قد أنحلها ابنته قبل الوفاة... وقال أيضاً: إن أرض فدك نحلة كانت أو ميراثاً هي حق خالص لفاطمة لا يمكن المماراة فيه(14).
8 ـ قال ابن أبي الحديد نقلاً عن عبد الجبار قاضي القضاة: ولسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك، فأما أنها كانت في يدها فغير مسلم، بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها، فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث(15).
وقال أيضاً: (الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام أم لا) ثم ذكر عن كتاب (السقيفة) و(فدك) لأحمد بن عبد العزيز الجوهري أخباراً كثيرة في ادعائها نحلة فدك(16).
9 ـ قال الياقوت: وفيها (فدك) عين فوارة ونخيل كثيرة، وهي التي قالت فاطمة رضي الله عنها: إن رسول الله نحلنيها(17).
10 ـ في كتاب المأمون إلى عامله على المدينة: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أعطى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله فدك وتصدق بها عليها، وكان ذلك أمــــراً ظاهراً معروفــــاً لا اختلاف فيه بين آل رســـول الله صلى الله عليه وآله(18).
11 ـ قال برهان الدين الشافعي: ولعل طلب إرثها من فدك كان منها بعد أن ادعت رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله أعطاها فدكاً، وقال لها لك: بينة؟ فشهد لها علي كرم الله وجهه وأم أيمن، فقال لها: أبرجل وامرأة تستحقيها؟(19).
12 ـ قال ابن أبي الحديد: وما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح(20).
13 ـ قال عبد الرحمن بن أحمد الإيجي: فإن قيل: ادعت أنه نحلها، وشهد علي والحسن والحسين وأم كلثوم، فرد أبو بكر شهادتهم، قلنا: أما الحسن والحسين فللفرعية، وأما علي وأم كلثوم فلقصورهما عن نصاب البينة، ولعله لم ير الحكم بشاهد ويمين، لأنه مذهب كثير من العلماء(21).
14ـ قال العالم الزاهد السيد ابن طاووس (ره): فصل: فيما نذكره من الكراس الآخر من الجزء الخامس (من تفسير محمد بن العباس بن علي بن مروان المعروف بابن الحجام) في تفسير قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) روى فيه حديث فدك من عشرين طريقاً، فلذلك ذكرته، نذكر منها طريقاً واحداً... عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت (وآت ذا القربى حقه) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة وأعطاها فدكاً(22).
15ـ قال العلامة الإربلي (ره): عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: (قلت: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله أعطى فاطمة عليها السلام فدك؟ قال: كان رسول الله وقفها، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه: (وآت ذا القربى حقه) فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله حقها. قلت: رسول الله أعطاها؟ قال: بل الله تبارك وتعالى أعطاها). وقد تظافرت الرواية من طرق أصحابنا بذلك، وثبت أن ذا القربى علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام(23).
16ـ قال أحمد بن علي الطبرسي (ره): عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما بويع أبو بكر، واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار، بعث إلى فدك من إخراج وكيل فاطمة عليها السلام بنت رسول الله منها، فجاءت فاطمة الزهراء عليها السلام إلى أبي بكر ثم قالت: لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله صلى الله عليه وآله، وأخرجت وكيلي من فدك، وقد جعلها لي رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر من الله تعالى؟ فقال: هاتي على ذلك بشهود. فجاءت بأم أيمن، فقالت له أم أيمن: لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله، أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أم أيمن امرأة من أهل الجنة)؟ فقال: بلى، قالت: فأشهد أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: (وآت ذا القربى حقه) فجعل فدكاً لها طعمة بأمر الله، فجاء علي عليه السلام فشهد بمثل ذلك. فكتب: لها كتاباً ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة (عليها السلام) ادعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي (عليه السلام)، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة، فتفل فيه ومزقه. فخرجت فاطمة عليها السلام تبكي فلما كان بعد ذلك جاء علي عليه السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار، فقال: يا أبا بكر، لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أن رسول الله جعله لها، وإلا فلا حق لها فيه.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر، تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه، ثم ادعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل البينة، قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوها شهوداً كما سألتني على ما ادعيت عليهم؟ فسكت أبو بكر، فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك، فإنا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن قول الله عز وجل: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)(24)، فيمن نزلت، فينا أم في غيرنا؟ قال: بل فيكم، قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بفاحشة،، ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيمه على نساء المسلمين، قال: إذن كنت عند الله من الكافرين، قال: ولم؟ قال: لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة،، وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدكاً قد قبضته في حياته، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها، وأخذت منها فدكاً، وزعمت أنه فيء للمسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)، فرددت قول رسول الله صلى الله عليه وآله: البينة على من ادعى، واليمين على من ادعي عليه.
قال: فدمدم الناس وأنكروا، ونظر بعضهم إلى بعض وقالوا: صدق والله علي بن أبي طالب. ورجع إلى منزله(25).
أقول: وقد كتب علي عليه السلام إلى أبي بكر كتاباً بعد منعه الزهراء عليها السلام فدك، رواه الطبرسي (ره) في (الاحتجاج) ج1، ص128، فليراجع.
17ـ روى شيخنا المفيد (ره) بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وجلس أبو بكر مجلسه بعث إلى وكيل فاطمة صلوات الله عليها فأخرجه من فدك، فأتته فاطمة عليها السلام فقالت: يا أبا بكر ادعيت أنك خليفة أبي وجلست مجلسه، وأنك بعثت إلى وكيلي فأخرجته من فدك، وقد تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله صدق بها علي، وأن لي بذلك شهوداً (وساق الحديث إلى أن قال لها) هلمين ببينتك، قال: فجاءت بأم أيمن وعلي عليه السلام، فقال أبو بكر: يا أم أيمن إنك سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في فاطمة؟ فقالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة). ثم قالت أم أيمن: فمن كانت سيدة نساء أهل الجنة تدعي ما ليس لها؟ وأنا امرأة من أهل الجنة ما كنت لأشهد إلا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال عمر: دعينا يا أم أيمن من هذه القصص،، بأي شيء تشهدان؟ فقالت: كنت جالسة في بيت فاطمة عليها السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله جالس حتى نزل عليه جبرائيل فقال: يا محمد قم فإن الله تبارك وتعالى أمرني أن أخط لك فدكاً بجناحي. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله مع جبرائيل عليه السلام، فما لبثت أن رجع، فقالت فاطمة عليها السلام: يا أبه أين ذهبت؟ فقال: خط جبرائيل عليه السلام لي فدكاً بجناحه وحد لي حدودها، فقالت: يا أبه إني أخاف العيلة والحاجة من بعدك، فصدق بها علي، فقال: هي صدقة عليك، فقبضتها. قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أم أيمن اشهدي، ويا علي اشهد. فقال عمر: أنت امرأة ولا نجيز شهادة امرأة وحدها، وأما علي فيجر إلى نفسه. قال: فقامت مغضبة وقالت: اللهم إنهما ظلما ابنة محمد نبيك حقها، فاشدد وطأتك عليهما. ثم خرجت، وحملها علي على أتان عليه كساء له خمل، فدار بها أربعين صباحاً في بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين معهما، وهي تقول: يا معشر المهاجرين والأنصار، انصروا الله، فإني ابنة نبيكم،، وقد بايعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بايعتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم، ففوا لرسول الله صلى الله عليه وآله ببيعتكم. قال: فما أعانها أحد ولا أجابها ولا نصرها. قال: فانتهت إلى معاذ بن جبل فقالت: يا معاذ بن جبل إني قد جئتك مستنصرة وقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله على أن تنصره وذريته وتمنعه مما تمنع منه نفسك وذريتك،، وإن أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها، قال: فمعي غيري؟ قالت: لا، ما أجابني أحد، قال:: فأين أبلغ أنا من نصرتك؟
قال: فخرجت من عنده ودخل ابنه(26)، فقال: ما جاء بابنة محمد إليك؟ قال: جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر فإنه أخذ منها فدكاً، قال: فما أجبتها به؟ قال: قلت: وما يبلغ من نصرتي؟ أنا وحدي! قال: فأبيت أن تنصرها؟ قال: نعم، قال: فأي شيء قالت لك؟ قال: قالت لي: والله لأنازعنك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: فقال: أنا والله لأنازعنك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله صلــى الله عليه وآلـــه إذ لم تجـــب ابنة محمد صلــــى الله عليه وآله ـ الحديث(27).
الاستدلال على النحلة
1ـ قال الإمام السيد شرف الدين (ره): وذلك أن الله عز سلطانه لما فتح لعبده وخاتم رسله حصون خيبر، قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله صاغرين، فصالحوه عن نصف أرضهم، فقبل ذلك منهم، فكان نصف فدك ملكاً خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وآله إذ لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، وهذا مما أجمعت الأمة عليه بلا كلام لأحد منها في شيء منه. ثم لما أنزل الله عز وجل عليه: (وآت ذا القربى حقه) أنحل فاطمة فدكاً، فكانت في يدها حتى انتزعت منها لبيت المال.
هذا ما ادعته الزهراء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وأوقفت في سبيله موقف المحاكمة بإجماع الأمة... وقد علم المسلمون كافة أن الله عز وجل اختارها من نساء الأمة، كما اختار ولديها من الأبناء، واختار بعلها من الأنفس، فهم الخيرة مع رسول الله للمباهلة يوم أوحى الله سبحانه إليه: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(28)، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله ـ كما نص عليه الإمام الرازي في تفسير الآية من تفسيره الكبير ـ وعليه مرط من شعر أسود، وقد احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها، وهو يقول لهم: إذا أنا دعوت فأمنوا.
فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله بها، فلا تباهلوهم فتهلكوا فلا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.
وأيضاً أجمع المسلمون كافة على أن الزهراء عليها السلام ممن أنزل الله عز وجل فيهم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)(29)، وأنها ممن افترض الله مودتهم على الأمة، وجعلها أجر رسالته صلى الله عليه وآله، وأنها ممن تعبد الله الخلق بالصلاة عليهم كما تعبدهم بالشهادتين في كل فريضة... وبالجملة فإن للزهراء عليها السلام من منازل القدس عند الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله والمؤمنين ما يوجب الثقة التامة في صحة ما تدعي والطمأنينة الكاملة بكل ما تقول، لا تحتاج في إثبات دعواها إلى شاهد، فإن لسانها ليتجافى عن الباطل، وحاشا الله أن ينطق بغير الحق، فدعواها بمجردها تكشف عن صحة المدعى به كشفاً تاماً ليس فوقه كشف، وهذا مما لا يرتاب فيه أحد ممن عرفها عليها السلام، وأبو بكر من أعرف الناس بها وبصدق دعواها، ولكن الأمر كما حكاه علي بن الفارقي ـوكان من أعلام بغداد مدرساً في مدرستها الغربيةـ وهو أحد شيوخ ابن أبي الحديد المعتزلي، إذ سأله فقال له: أكانت فاطمة صادقة في دعواها النحلة؟ قال: نعم، قال له ابن أبي الحديد: فلم لم يدفع لها أبو بكر فدكاً وهي عنده صادقة؟ فتبسم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه حينئذ الاعتذار بشيء، لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود(30).
قلت: وبهذا استباح أبو بكر ردة شهادة علي بن أبي طالب لفاطمة بالنحلة وإلا فإن يهود بني خيبر على لؤمهم وأن علياً دمرهم لينزهونه عن شهادة الزور، وبهذا أيضاً لا بسواه استونق الجمل، فاعتبر ذات اليد المتصرفة مدعية فطالبها بالبينة إنما هي عليه، الأمر الذي علمنا أنه دبر بليل، وما ينس ولا ينس قوله في مجابهة فاطمة: (لست أعلم صحة قولك) مع أن قولها بمجرده من أوضح موازين الحكم لها بما ادعت. ولو تنزلنا عن هذا كله وسلمنا أنها كسائر المؤمنات الصالحات تحتاج في إثبات دعواها إلى بينة، فقد شهد لها علي، وحسبها أخو النبي ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى، شاهد حتى تشرق بشهادته أنوار اليقين ـ وليس بعد اليقين غاية ـ، يطلبها الحاكم في المرافعات، ولهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وآله شهادة خزيمة بن ثابت كشهادة عدلين، ولعمر الله أن علياً أولى بهذا من خزيمة وغيره وأحق بكل فضيلة من سائر أبدال المسلمين.
ولو تنازلنا فسلمنا أن شهادة علي كشهادة رجل واحد من عدول المؤمنين، فهلا استحلف أبو بكر فاطمة الزهراء عليها السلام بدلاً عن الشاهد الثاني، فإن حلفت وإلا رد دعواها؟ ما رأيناه فعل ذلك، وإنما رد الدعوى ملغياً شهادة علي وأم أيمن، وهكذا كما ترى مما لم يكن بالحسبان! بينا كان علي عدل القرآن في الميزان، وكان مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان، وهو في آية التباهل نفس المصطفى ليس غيره إياها، إذا هو في هذه المحاكمة ممن لا أثر لشهادتهم! يا لها مصيبة في الإسلام تلقينا بقولنا! إنا لله وإنا إليه راجعون(31).
2ـ قال العلامة أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي المتوفى 449: ومن عجائب الأمور تأتي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله تطلب فدك وتظهر أنها تستحقها، فيكذب قولها، ولا تصدق في دعواها، وترد خائبة إلى بيتها، ثم تأتي عائشة بنت أبي بكر تطلب الحجرة التي أسكنها إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وتزعم أناه تستحقها، فيصدق قولها، ويقبل دعواها، ولا يطالب ببينة عليها، وتسلم هذه الحجرة إليها، فتصرف فيها، وتضرب عند رأس النبي صلى الله عليه وآله بالمعاول حتى تدفن تيماً وعدياً فيها، ثم تمنع الحسن ابن رسول الله صلى الله عليه وآله بعد موته منها ومن أن يقربوا سريره إليها، وتقول: لا تدخلوا بيتي من لا أحبه، وإنما أتوا به ليتبرك بوداع جده فصدته عنه.
فعلى أي وجه دفعت هذه الحجرة إليها، وأمضى حكمها إن كان ذلك؟ لأن النبي نحلها إياها فكيف لم تطالب بالبينة على صحة نحلتها كما طولبت بمثل ذلك فاطمة صلوات الله عليها؟ وكيف صار قول عائشة بنت أبي بكر مصدقاً، وقول فاطمة ابنة رسول الله مكذباً مردوداً؟ وأي عذر لمن جعل عائشة أزكى من فاطمة صلى الله عليها وقد نزل القرآن بتزكية فاطمة في آية الطهارة وغيرها، ونزل بذم عائشة وصاحبتها وشدة تظاهرهما على النبي صلى الله عليه وآله وأفصح بذمها؟ وإن كانت الحجرة دفعت إليها ميراثاً فكيف استحقت هذه الزوجة من ميراثه ولم تستحق ابنته منه حظاً ولا نصيباً؟ وكيف لم يقل هذا الحاكم لابنته عائشة نظير ما قالت (قال ظ) لبنت رسول الله: (إن النبي لا يورث، وما تركه صدقة)؟ على أن في الحكم لعائشة بالحجرة عجباً آخر وهو أنها واحدة من تسع أزواج خلفهن النبي، فلها تسع الثمن بلا خلاف، ولو اعتبر مقدار ذلك من الحجرة مع ضيقها لم يكن بمقدار ما يدفن أباها وكان بحكم الميراث للحسن عليه السلام منها أضعاف بما ورثه من أمه فاطمة ومن أبيه أمير المؤمنين المنتقل إليه بحق الزوجية منها(32)...
3 ـ قال العلامة المظفر (ره): لا ريب عندنا أن النبي صلى الله عليه وآله نحلها فدك، وأن اليد لها عليها من يوم أفاء الله تعالى بها عليه، وكان بأمر الله سبحانه حيث قال له: (وآت ذا القربى حقه)، وأن أبا بكر قبضها قهراً، وطلب منها البينة على خلاف حكم الله تعالى، لأنه هو المدعي، وقد حاجه أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك فما كان جوابهم إلا أن قال عمر:
لا نقوى على حجتك، ولا نقبل إلا أن تقيم فاطمة البينة، كما صرحت به أخبارنا وشهدت به أخبارهم... (ثم قال (ره) بعد ذكر أخبار الباب) وحينئذ فتكون مطالبة أبي بكر للزهراء بالبينة خلاف الحق وظلماً محضاً، لأنها صاحبة اليد، وهو المدعي. ويدل على أن اليد لها لفظ الإيتاء في الآية، والإقطاع والإعطاء في الأخبار المذكورة، فإنها ظاهرة في التسليم والمناولة كما يشهد لكون اليد لها دعواها النحلة، وهي سيدة النساء وأكملهن، وشهادة أقضى الأمة بها، لأن الهبة لا تتم بلا إقباض، فلو لم تكن صاحبة اليد لما ادعت النحلة،، ولرد القوم دعواها بلا كلفة ولم يحتاجوا إلى طلب البينة. ولو سلم عدم معلومية أن اليد لها فطلب أبي بكر منها البينة جور أيضاً، لأن أدلة الإرث تقتضي بملكيتها لفدك، ودعواها النحلة لا تجعلها مدعية لما تملك بل من زعم الصدقة هو المدعي وعليه البينة...
على أن البينة طريق ظني مجهول لإثبات ما يحتمل ثبوته وعدمه، فلا مورد لها مع القطع واليقين المستفاد في المقام من قول سيدة النساء التي طهرها الله تعالى وجعلها بضعة من سيد أنبيائه، لأن القطع طريق ذاتي إلى الواقع لا بجعل جاعل، فلا يمكن رفع طريقيته أو جعل طريق ظاهري على خلافه، ولذا كان الأمر في قصة شهادة خزيمة للنبي صلى الله عليه وآله هو ثبوت ما ادعاه النبي صلى الله عليه وآله بلا بينة مع مخاصمة الأعرابي له، فإن شهادة خزيمة فرع عن قول النبي صلى الله عليه وآله وتصديق له، فلا تفيد أكثر من دعوى النبي صلى الله عليه وآله، بل كان اللازم على أبي بكر والمسلمين أن يشهدوا للزهراء عليها السلام تصديقاً لها، كما فعل خزيمة مع النبي صلى الله عليه وآله وأمضى النبي فعله، ولكن يا للأسف من اطلع على أن النبي صلى الله عليه وآله نحلها فدك أخفى شهادته رعاية لأبي بكر، كما في الأكثر، أو خوفاً منه ومن أعوانه لما رأوه من شدتهم على أهل البيت عليهم السلام، أو علماً بأن شهادتهم ترد لما رأوه من رد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام واجتهاد الشيخين في غضب الزهراء سلام الله عليها، ولذا لم يشهد أبو سعيد وابن عباس مع أنهم علموا ورووا أن النبي صلى الله عليه وآله أعطى فاطمة فدك.
ولا يبعد أن سيدة النساء لم تطلب شهادة ابن عباس وأبي سعيد وأمثالهما لأنها لم ترد واقعاً بمنازعة أبي بكر إلا إظهار حاله وحال أصحابه للناس إلى آخر الدهر، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وإلا فبضعة رسول الله صلى الله عليه وآله أجل قدراً وأعلى شأناً من أن تحرص على الدنيا ولا سيما أن النبي صلى الله عليه وآله أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها.
ولو سلم أن قول الزهراء وحده لا يفيد القطع فهل يبقى مجال للشك بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام؟ ولو سلم حصول الشك فقد كان اللازم على أبي بكر أن يعرض عليها اليمين حينئذ، ولا يتصرف بفدك قبله، لوجوب الحكم بالشاهد واليمين، كما رواه مسلم في أول كتاب الأقضية عن ابن عباس قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بيمين وشاهد. ونقل في (الكنز) عن ابن راهويه، عن علي عليه السلام قال: نزل جبرائيل على النبي صلى الله عليه وآله باليمين مع الشاهد. ونقل في (الكنز) أيضاً عن الدار قطني، عن ابن عمر قال: قضى الله في الحق بشاهدين، فإن جاء بشاهدين أخذ حقه، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاخد...
ولو تنزلنا عن ذلك كله، فقد زعم أبو بكر أن له الأمر على فدك وغيرها من متروكات النبي صلى الله عليه وآله، حيث روى أن أمرها إلى من ولي الأمر، حتى زعموا أنه أعطى أمير المؤمنين عليه السلام عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيفه وبغلته، وأن عمر أعطاه والعباس سهم بني النضير أو صدقته بالمدينة، فقد كان من شرع الإحسان أن يترك فدك لبضعة نبيه صلى الله عليه وآله التي لم يخلف بينهم غيرها، تطيباً لخاطرها، وحفظاً لرسول الله صلى الله عليه وآله فيها. أتراه يعتقد أن أبا سفيان ومعاذاً ـ وقد أعطاهما ما أعطاهما ـ أولى بالرعاية من سيدة النساء وبضعة المصطفى؟ أو أنه يحل له إعطاؤهما من مال الفيئ دون الزهراء من مال أبيها؟... والمنصف يعرف حقيقة الحال ويبني على ما الله تعالى سائله يوم نشر الأعمال(33).
4ـ قال ابن الحديد نقلاً عن قاضي القضاة عبد الجبار: قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها فضلاً عن الدين. وهذا الكلام لا جواب عنه، ولقد كان التكرم ورعاية حق رسول الله صلى الله عليه وآله وحفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشيء يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك، وتسلم إليها تطييباً لقلبها وقد يسوق للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه(34).
وقال أيضاً في أسارى بدر: قلت: قرأت على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي رحمه الله هذا الخبر، فقال: أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أما كان يقتضي التكريم والإحسان أن يطيب قلب فاطمة بفدك، ويستوهب لها من المسلمين؟ أتقصر منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله عن منزلة زينب أختها، وهي سيدة نساء العالمين، هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة ولا بالإرث. فقلت له: فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقاً من حقوق المسلمين، فلم يجزله أن يأخذه منهم. فقال: وفداء أبي العاص بن الربيع قد صار حقاً من حقوق المسلمين وقد أخذه رسول الله صلى الله عليه وآله منهم.
فقلت: رسول الله صلى الله عليه وآله صاحب الشريعة والحكم حكمه، وليس أبو بكر كذلك. فقال: ما قلت: هلا أخذه أبو بكر من المسلمين قهراً فدفعه إلى فاطمة، وإنما قلت: هلا استنزل المسلمين عنه واستوهبه منهم لها كما استوهب رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين فداء أبي العاص؟ أتراه لو قال: هذه بنت نبيكم قد حضرت تطلب هذه النخلات، أفتطيبون عنها نفساً؟ أكانوا منعوها ذلك؟ فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو هذا، قال: إنهما لم يأتيا بحسن في شرع التكرم(35).
5ـ قال العالم الزاهد السيد ابن طاووس (ره): إن جماعة من ولد الحسن والحسين عليهما السلام رفعوا قصة إلى المأمون الخليفة العباسي من بني العباس يذكرون أن فدك والعوالي كانت لأمهم فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله نبيهم، وإن أبا بكر أخرج يدها عنها بغير حق، وسألوا المأمون إنصافهم وكشف ظلامتهم. فأحضر المأمون مائتي رجل من علماء الحجاز والعراق وغيرهم وهو يؤكد عليهم في أداء الأمانة واتباع الصدق، وعرفهم ما ذكره ورثة فاطمة في قضيتهم، وسألهم عما عندهم من الحديث الصحيح في ذلك.
فروى غير واحد منهم عن بشير بن الوليد والواقدي وبشر بن عتاب في أحاديث يرفعونها إلى محمد صلى الله عليه وآله نبيهم: لما فتح خيبر اصطفى لنفسه قرى من قرى اليهود، فنزل عليه جبرائيل عليه السلام بهذه الآية. (وآت ذا القربى حقه)، فقال محمد صلى الله عليه وآله: ومن ذو القربى؟ وما حقه؟ قال: فاطمة عليها السلام، تدفع إليها فدك، فدفع إليها فدك ثم أعطاها العوالي بعد ذلك، فاستغلتها حتى توفي أبوها محمد صلى الله عليه وآله. فلما بويع أبو بكر منعها أبو بكر منها، فكلمته فاطمة عليها السلام في رد فدك والعوالي عليها وقالت له: إنها لي وإن أبي دفعها إلي. فقال أبو بكر: ولا أمنعك ما دفع إليك أبوك.
فأراد أن يكتب لها كتاباً فاستوقفه عمر بن الخطاب وقال: إنها امرأة فادعها بالبينة على ما ادعت. فأمر أبو بكر أن تفعل، فجاءت بأم أيمن وأسماء بنت عميس مع علي بن أبي طالب عليه السلام، فشهدوا لها جميعاً بذلك. فكتب لها أبو بكر، فبلغ ذلك عمر فأتاه فأخبره أبو بكر الخبر، فأخذ الصحيفة فمحاها فقال: إن فاطمة امرأة وعلي بن أبي طالب زوجها وهو جار إلى نفسه، ولا يكون بشهادة امرأتين دون رجل.
فأرسل أبو بكر إلى فاطمة عليها السلام فأعلمها بذلك، فحلفت بالله الذي لا إله إلا هو أنهم ما شهدوا إلا بالحق. فقال أبو بكر: فلعل أن تكوني صادقة، ولكن أحضري شاهداً لا يجر إلى نفسه. فقالت فاطمة: ألم تسمعا من أبي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أسماء بنت عميس وأم أيمن من أهل الجنة؟ فقالا: بلى. فقالت: امرأتان من الجنة تشهدان بباطل! فانصرفت صارخة تنادي أباها وتقول: قد أخبرني أبي بأني أول من يلحق به، فو الله لأشكونهما. فلم تلبث أن مرضت فأوصت علياً أن لا يصليا عليها، وهجرتهما فلم تكلمهما حتى ماتت، فدفنها علي عليه السلام والعباس ليلاً.
فدفع المأمون الجماعة عن مجلسه ذلك اليوم، ثم أحضر في اليوم الآخر ألف رجل من أهل الفقه والعلم، وشرح لهم الحال وأمرهم بتقوى الله ومراقبته، فتناظروا واستظهروا ثم افترقوا فرقتين، فقالت طائفة منهم: الزوج عندنا جار إلى نفسه فلا شهادة له، ولكنا نرى يمين فاطمة قد أوجبت لها ما ادعت مع شهادة الامرأتين. وقالت طائفة: نرى اليمين مع الشهادة لا توجب حكماً ولكن شهادة الزوج عندنا جائزة ولا نراه جاراً إلى نفسه، فقد وجب بشهادته مع شهادة الامرأتين لفاطمة عليها السلام ما ادعت. فكان اختلاف الطائفتين إجماعاً منهما على استحقاق فاطمة عليها السلام فدك والعوالي.
فسألهم المأمون بعد ذلك عن فضائل لعلي بن أبي طالب عليه السلام، فذكروا منها طرفاً جليلة قد تضمنه رسالة المأمون، وسألهم عن فاطمة عليها السلام، فرووا لها عن أبيها فضائل جميلة، وسألهم عن أم أيمن وأسماء بنت عميس، فرووا عن نبيهم محمد صلى الله عليه وآله أنهما من أهل الجنة، فقال المأمون: أيجوز أن يقال أو يعتقد أن علي بن أبي طالب مع ورعه وزهده يشهد لفاطمة بغير حق وقد شهد الله تعالى ورسوله بهذه الفضائل له؟ أو يجوز مع علمه وفضله أن يقال: إنه يمشي في شهادة وهو يجهل الحكم فيها؟ وهل يجوز أن يقال: إن فاطمة مع طهارتها وعصمتها وأنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة ـ كما رويتم ـ تطلب شيئاً ليس لها تظلم فيه جميع المسلمين، وتقسم عليه بالله لا إله إلا هو؟ أو يجوز أن يقال عن أم أيمن وأسماء بنت عميس أنهما شهدتا بالزور، وهما من أهل الجنة؟ إن الطعن على فاطمة وشهودها طعن على كتاب الله وإلحاد في دين الله، حاشا الله أن يكون ذلك كذلك.
ثم عارضهم المأمون بحديث رووه أن علي بن أبي طالب عليه السلام أقام منادياً بعد وفاة محمد صلى الله عليه وآله نبيهم ينادي: من كان له على رسول الله صلى الله عليه وآله دين أو عدة فليحضر، فحضر جماعة، فأعطاهم علي بن أبي طالب عليه السلام ما ذكروه بغير بينة، وإن أبا بكر أمر منادياً ينادي بمثل ذلك، فحضر جرير بن عبد الله وادعى على نبيهم عدة فأعطاها أبو بكر بغير بينة، وحضر جابر بن عبد الله وذكر أن نبيهم وعده أن يحثو له ثلاث حثوات من مال البحرين، فلما قدم مال البحرين بعد وفاة نبيهم أعطاه أبو بكر الثلاث حثوات بدعواه بغير بينة.
(قال عبد المحمود): وقد ذكر الحميدي هذا الحديث في (الجمع بين الصحيحين) في الحديث التاسع من أفراد مسلم من مسند جابر وأن جابراً قال: فعددتها فإذا هي خمسمائة، فقال أبو بكر: خذ مثليها.
قال رواة رسالة المأمون: فتعجب المأمون من ذلك وقال: أما كانت فاطمة وشهودها يجرون مجرى جرير بن عبد الله وجابر بن عبد الله؟ ثم تقدم بسطر الرسالة المشار إليها وأمر أن تقرأ بالموسم على رؤوس الأشهاد، وجعل فدك والعوالي في يد محمد بن يحيى بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام يعمرها ويستغلها ويقسم دخلها بين ورثة فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله نبيهم(36).
6 ـ قال شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (ره): ونحن نعلم أنها ما ادعت ذلك إلا ما كانت مصيبة فيه، وأن مانعها ومطالبها بالبينة متعنت عادل عن الصواب، لأنها لا تحتاج إلى شهادة ولا بينة، لقيام الدلالة على عصمتها من الغلط، والأمن من فعل القبيح، ومن هذه صفته لا يحتاج إلى بينة فيما يدعيه.
فإن قيل: دلوا أولاً على عصمتها، وبعد ذلك دلوا على أن من كان كذلك لا يحتاج إلى بينة.
قيل: الذي يدل على عصمتها قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)، وقد بينا أن هذه الآية تتناول جماعة منهم فاطمة، وأنها تدل على عصمة من تناولته وطهارته، فإن الإرادة هاهنا دلالة على فعل الوقوع المراد، ولا طائل في إعادته.
ويدل أيضاً على عصمتها قول النبي صلى الله عليه وآله: (فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما يؤذيها، فمن آذى فاطمة فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل). وهذا يدل على عصمتها، لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذياً له صلى الله عليه وآله على كل حال، بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد ـ إن كان الفعل يقتضيه ـ ساراً له ومطيعاً.
على أنا لا نحتاج ـ فيما يريده ـ إلى أن ننبهه على القطع على عصمتها، بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، لأن أحداً لا يشك في أنها عليها السلام لم تدع ما ادعته كاذبة، وليس بعد أن لا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة، وإنما اختلفوا في أنه هل يجب مع العلم بصدقها تسليم ما ادعته بغير بينة أو لا يجب ذلك؟ والذي يدل على الفصل الثاني أن البينة إنما تزاد ليغلب في الظن صدق المدعي، ألا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثرة في غلبة الظن بما ذكرناه؟ ولذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة، لأن علمه أقوى من الشهادة، ولهذا كان الإقرار أقوى من البينة من حيث كان أبلغ في تأثير غلبة الظن. وإذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده، فأولى أن يقدم العلم على الجميع، وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي، فلا يحتاج أيضاً مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات والشهادات. والذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضاً أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابياً نازع النبي صلى الله عليه وآله في ناقة، فقال صلى الله عليه وآله: هذه لي وقد خرجت إليك من ثمنها، فقال الأعرابي: ومن يشهد لك بذلك؟ فقام خزيمة بن ثابت فقال: أنا أشهد بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: من أين علمت؟ أحضرت ابتياعي لها؟ فقال: لا، ولكني علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله: قد أجزت شهادتك وجعلتها شهادتين، فسمي خزيمة (ذا الشهادتين) بذلك. وهذه قصة مشهورة، وهي مشبهة لقضية فاطمة عليها السلام يشهد بذلك من حيث علم أنه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يقول إلا حقاً، وأمضى النبي صلى الله عليه وآله ذلك على هذا الوجه، ولم يدفعه عن الشهادة من حيث لم يحضر ابتياعه، فقد كان يجب على من علم أن فاطمة عليها السلام لا تقول إلا حقاً ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة(37)...
وقال أيضاً: وليس لأحد أن يقول: لو كان الأمر على ما قلتموه لكان أمير المؤمنين لما أفضى الأمر إليه يرد فدك إلى مستحقه، وذلك: إن الوجه في تركه عليه السلام رده (فدك) هو الوجه في إقراره أحكام القوم، وكفه عن نقضها وتغييرها، وقد بينا ذلك فيما مضى مجملاً ومفصلاً، وذكرنا أنه مع إفضاء الأمر إليه كان في تقية قوية.
ومن طرائف الأمور: أن فاطمة عليها السلام تدفع من دعواها، وتمنع فدك بقولها وقيام البينة لها بذلك، وتترك حجر الأزواج في أيديهن من غير بينة ولا شهادة. وليس لهم أن يقولوا: إن الحجر كانت لهن، لأن الله تعالى نسبها إليهن بقوله: (وقرن في بيوتكن)(38)، وذلك أن هذه الإضافة لا تقتضي الملك، بل العادة جارية فيها بأنها تستعمل من جهة السكنى. ولهذا يقال: هذا بيت فلان ومسكنه، ولا يراد بذلك الـــملك. وقد قال الله تعالى: (لا تخرجـــوهن من بيوتـــهن ولا يـــخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)(39)، ولا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الأزواج التي يسكنون فيها زوجاتهم، ولم يرد به إضافة الملك.
فأما ما روي من قسمة النبي صلى الله عليه وآله الحجر بين نسائه وبناته، فمن أين هذه القسمة تقتضي التمليك دون الإسكان والإنزال؟ ولو كان قد ملكهن ذلك لوجب أن يكون ظاهراً مشهوداً، وإنما ترك أمير المؤمنين عليه السلام الحجر في يد الأزواج لمثل ما ترك المطالبة بفدك، وقد تقدم.
والذي يدل على صحة دعواها وأنها كانت مظلومة بالدفع عن حقها ما تواتر الخبر به بأنها بعد مفارقتها لذلك المجلس لم تكلمهم حتى ماتت، وأوصت أن تدفن ليلاً، ففعل ذلك أمير المؤمنين، ولم يصليا عليها، وروي.
أنه رش أربعين قبراً حتى لا يبين قبرها من غيره من القبور فيصلون عليه. ومثل هذا لا يفعل بمن ترضى بأفعاله، ولا كانت عليها السلام تفعل مثل هذا بمن هو مصيب في فعله، وليس لأحد أن ينكر ما قلناه، لأن الروايات بذلك أكثر من أن تحصى، والقصة أشهر من أن تخفى...
فإن قالوا: دفنها ليلاً ـ إن صح ـ ليس بطعن، لأنه قد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله ليلاً، ودفن عمر ليلاً ابنه، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يدفنون بالليل كما يدفنون بالنهار، فليس في هذا طعن، بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلاً أستر لهن.
قيل لهم: لم يجعل الدفن ليلاً بمجرده طعناً، بل وصيتها بذلك وغضبها عليهم وأنهما استأذنا عليها ليعوداها فلم تأذن لهما حتى سألا علياً عليه السلام(40) فشفع إليها، فأذنت، فلما دخلا أعرضت بوجهها إلى الحائط ولم تكلمهما حتى خرجا، ولو لم يكن غير الدفن لما جعلناه طعناً، وليس لأحد أن ينكر ورود خبره بما ذكرناه، لأنه أشهر من أن يخفى.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: إن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وآله، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (لا نورث، ما تركناه صدقة). قال: فغضبت فاطمة وهجرته، فلم تكلمه حتى ماتت، فدفنها علي عليه السلام ليلاً، ولم يؤذن بها أبو بكر. قالت عائشة: وكان لعلي من الناس وجه في حياة فاطمة، فلما توفيت انصرفت عنه وجوه الناس.
وروى عيسى بن مهران (بإسناده) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أوصت فاطمة عليها السلام أن لا يعلم إذا ماتت أبو بكر وعمر، ولا يصليا عليها. قال: فدفنها علي ليلاً ولم يعلمهما بذلك(41). أقول: التأمل في قوله(ره): (إن الوجه في تركه عليه السلام رده (فدك) هو الوجه في إقراره أحكام القوم... كان في تقية قوية) يعطي شدة مظلوميته عليه السلام، كما قال عليه السلام: ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها (يعني الأعمال التي غيرت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله) وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام... إذاً لتفرقوا عني.
والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً. ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ـ الحديث(42).
قال الشيخ الطوسي (ره) في كتاب (المفصح في إمامة أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام): فأما ما ذكره السائل من صلاته معهم، فإنه عليه السلام إنما كان يصلي معهم لا على طريق الاقتداء بهم، بل كان يصلي لنفسه، وإنما كان يركع بركوعهم ويكبر بتكبيرهم، وليس ذلك بدليل الاقتداء عند أحد من الفقهاء...
فأما أخذه من فيئهم فإن ما كان يأخذ بعض حقه، ولمن له حق له أن يتوصل إلى أخذه بجميع أنواع التوصل... وأما نكاحه لسبيهم فقد اختلف في ذلك، فمنهم من قال: إن النبي عليه السلام وهب له الحنفية، وإنما استحل فرجها بقوله عليه السلام، وقيل أيضاً: إنها أسلمت وتزوجها أمير المؤمنين عليه السلام، وقيل أيضاً: إنه اشتراها فأعتقها، ثم تزوجها(43).
7 ـ قال العالم الزاهد ابن طاووس (ره): ومن طرائف صحيح الأجوبة في ترك علي بن أبي طالب عليه السلام لاستعادة فدك لما بويع له بالخلافة ما ذكره ابن بابويه في أوائل كتاب (العلل) في باب (العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين عليه السلام فدك لما ولي الناس)، بإسناده إلى أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام ـ يعني جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام ـ قال: قلت له: لم لم يأخذ أمير المؤمنين عليه السلام فدك لما ولي الناس، وتركها علة تركها؟ فقال: لأن الظالم والمظلومة قد كانا قدما على الله عز وجل، وأثاب الله المظلومة، وعاقب الظالم، فكره أن يسترجع شيئاً قد عاقب الله عليه غاصبه، وأثاب عليه المغصوبة.
وذكر أيضاً في الباب المذكور جواباً آخر، ورواه بإسناده إلى إبراهيم الكرخي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام فقلت له: لأي علة ترك أمير المؤمنين عليه السلام فدك لما ولي الناس؟ فقال: للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله لما فتح مكة، وقد باع عقيل بن أبي طالب داره، فقيل له: يا رسول الله ألا ترجع إلى دارك؟ فقال صلى الله عليه وآله: وهل ترك لنا عقيل داراً؟ إنا أهل بيت لا نسترجع شيئاً يؤخذ منا ظلماً، فلذلك لم يسترجع فدك لما ولي.
وذكر أيضاً في الباب المذكور جواباً ثالثاً، بإسناده إلى علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن ـ يعني موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام ـ قال: سألته عن أمير المؤمنين عليه السلام، لم لم يسترجع فدك لما ولي الناس؟ فقال: لأنا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو ـ يعني إلا الله ـ ونحن أولياء المؤمنين، إنما نـــحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممن ظلــمهم ولا نـــأخذ لأنفسنا(44).
8ـ قال الجاحظ في رسائله ص300: وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما ـ يعني أبا بكر وعمر ـ في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله النكير عليهما... قد يقال لهم: لئن كان ترك النير دليلاً على صدقهما إن ترك المتظلمين والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليل على صدق دعواهم، أو استحسان مقالتهم، ولا سيما وقد طالت المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة، ظهرت الشكية، واشتدت الموجدة، وقد بلغ ذلك من فاطمة أنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر. ولقد كانت قالت له حين أتته مطالبة بحقها ومحتجة لرهطها: من يرثك يا أبا بكر إذا مت؟ قال: أهلي وولدي، قالت: فما بالنا لا نرث النبي صلى الله عليه وآله؟
فلما منعها ميراثها، وبخسها حقها، واعتل عليها، وجلح أمرها، وعاينت التهضم، وأيست في التورع، ووجدت نشوة الضعف وقلة الناصر، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك. قالت: والله لا كلمتك أبداً، قال: والله لا أهجرك أبداً.
فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعها، إن في ترك النكير على فاطمة دليلاً على صواب طلبها! وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت، وتذكيرها ما نسيت، وصرفها عن
الخطأ، ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجراً، وتجور عادلاً، أو تقطع واصلاً، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعاً، فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم، وأوجب علينا وعليكم.
فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها، وكلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها ليناً ورقة، حيث تقول له: والله لا أكلمك أبداً، فيقول: والله لا أهجرك أبداً، ثم تقول: والله لأدعون الله عليك، فيقول: والله لأدعون الله لك، ثم يتحمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه، وما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك عن أن قال معتذراً متقرباً كلام المعظم لحقها، المكبر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنن عليها: ما أحد أعز علي منك فقراً، ولا أحب إلي منك غنىً، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة)؟
قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم، والسلامة من الجور، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً، وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم، وذلة المنتصف، وحدب الوامق، ومقت المحق، وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة، وقد زعمتم أن عمر قال على منبره: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله متعة النساء ومتعة الحج، أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما)، فما وجدتم أحداً أنكر قوله، ولا استشنع مخرج نهيه، ولا خطأه في معناه، ولا تعجب منه، ولا استفهمه!
وكيف تقضون بترك النكير، وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (الأئمة من قريش)، ثم قال في شكايته: (لو كان سالم حياً ما تخالجني فيه الشك) حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى، وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته وحازت ميراثه، ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر، ولا قابل إنسان بين قوله، ولا تعجب منه، وإنما يكون ترك النكير
على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلاً على صدق قوله وصواب عمله، فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والاستحياء والحبس والإطلاق، فليس بحجة تشفي، ولا دلالة تضيء(45).
9 ـ قال المحقق البارع هاشم معروف الحسني: والسؤال الذي يفرض نفسه في المقام هو أنه: إذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد أعطاها فدكاً كما ادعت، وهي الصادقة في دعواها بلا شك في ذلك، وكانت تستغل منها ما يكفيها وتترك الباقي يتصرف به النبي صلى الله عليه وآله، فمن غير المتصور أن يخفى ذلك على المسلمين، وبخاصة أولئك الذين كانوا على اتصال دائم به، فلماذا ـ والحال هذه ـ لم يتقدم للشهادة غير علي وأم أيمن والحسنين كما في بعض الروايات؟ والجواب عن ذلك: إن فاطمة الزهراء عليها السلام لم تستعص عليها الشهود، ولم تكن مضطرة إلى إشهاد أم أيمن أو ولديها الحسن والحسين وهما طفلان صغيران يوم ذلك، بل كان لديها من الشهود ما لا يستطيع أحد أن يطعن بشهادتهم في مثل هذه المواضع كأبي ذر وعمار والمقداد والعباس وأولاده وسلمان وأبي سعيد الخدري وغيرهم ممن يشهدون بصدقها فيما تدعيه، ولو تعرضوا لأشد أنواع العقاب والعذاب، ولكن إذا صح أنها وقفت هذا الموقف فيبدو أن موضوع فدك لم يكن يهمها ولا هو من أهدافها، وإذا صح أنها قد أحضرت علياً والحسنين للشهادة فذاك، لكي تسجل على القوم رداً صريحاً لنصوص الرسول فيه وفي ولديه، على أنها لو أحضرت عشرين شاهداً من خيرة الصحابة لم يكن مستعداً للقضاء لها بما تطلب بل كان على ما يبدو من سير الأحداث مستعداً لأن يعارض شهادتهم بعشرات الشهود، كما عارض شهادة علي وأم أيمن بشهادة عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف، كما نصت على ذلك رواية شرح النهج السابقة وعارض إرثها من أبيها بحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)...(46).
2ـ دعوى الإرث وأخبارها
إن فاطمة الزهراء عليها السلام ـ كما قلنا ـ ادعت أولاً كون فدك نحلة لها من أبيها، فطلبوا منها عليها السلام شهوداً فأقامها، فردوها ولم يقبلوا منها.. ثم ادعت ثانياً على سبيل التنزل والمماشاة كونها إرثاً لها، فردوها برواية مجعولة مخالفة لنص القرآن الكريم كما سيتضح إن شاء الله تعالى.
1ـ قال شيخ الطائفة الطوسي (ره): ثم إن الأمر بخلاف ما قالوه (أي تقدم دعوى الإرث على النحلة) لأن الروايات كلها واردة بأن مطالبة النحلة كانت أولاً، فكيف يجوز أن تبتدئ بالميراث فيما تدعيه بعينه نحلاً، أو ليس هذا يوجب أن يكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار؟ وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها، والنحل تنفرد به؟ ولا يلزمنا مثل هذا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل، لأنها في الابتداء طالبت بالنحل، وهو الوجه الذي تستحق فدك منه، ولما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث، لأن للمدفوع عن حقه أن يتوسل إلى تناوله بكل وجه وسبب...
ومما يدل على صحة دعواها النحل وأن ذلك كان معروفاً شائعاً، ما كان من عمر بن عبد العزيز من رد (فدك) على ولدها لما تبين أن الحق كان معها،، وكذلك فعل المأمون، فإنه نصب لها وكيلاً ووكيلاً لأبي بكر، وجلس للقضاء، وحكم لها بذلك. ولو لم يكن الأمر معروفاً معلوماً لما فعلوا ذلك مع موضعهم من الخلافة، وسلطانهم الذي أرادوا حفظ قلوب الرعية، وألا يفعلوا ما يؤدي إلى تنفيرهم. وليس لأحد أن ينكر ويدفعه، لأن الأمر في ذلك أظهر من أن يخفى(47).
2ـ قال العلامة المجلسي (ره): إنها عليها السلام ادعت أن فدكاً كانت نحلة لها من رسول الله صلى الله عليه وآله، فلعل عدم تعرضها صلوات الله عليها في هذه الخطبة لتلك الدعوى ليأسها من قبولهم إياها، إذ كانت الخطبة بعد ما رد أبو بكر شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ومن شهد معه، وكان المنافقون الحاضرون معتقدون لصدقته، فتمسك بحديث الميراث لكونه من ضروريات الدين(48).
3ـ قال العلامة المظفر (ره): قد يتساءل في أن المتقدم هو دعوى النحلة أو دعوى الميراث؟ ولا إشكال عندهم على تقدير تقدم دعوى النحلة وإنما الإشكال في العكس، لأنها إذا ادعت الميراث أولاً فقد أقرت لزوماً بأن المال ليس لها، بل لرسول الله صلى الله عليه وآله إلى حين وفاته، فكيف تدعي بعد هذا الإقرار النحلة والملك في حياته؟
ويمكن الجواب عنه بأنها إنما ادعت استحقاق متروكات النبي صلى الله عليه وآله مطلقاً بالإرث أو ما عدا فدك، فلا ينافي دعواها بعد ذلك استحقاق خصوص فدك بالنحلة. ولو سلم أنها سمت فدك في دعوى الميراث فلا بأس به، لأن الشخص لا يلزم بالإقرار اللزومي ما لم يكن محل القصد في الإقرار، وإلا فالإشكال وارد أيضاً على تقدير تقدم النحلة، لأن دعوى النحلة تستلزم إقرارها بأن فدك ليست من مواريث رسول الله صلى الله عليه وآله وأملاكه، فكيف تدعي بعد ذلك الميراث لها؟ وهذا مما لا يقوله أحد، فلا بد من القول بأن الإقرار اللزومي غير معتبر(49).
وبالجملة لم تقصد سيدة النساء عليها السلام في الدعويين إلا أن المال لها بلا خصوصية للأسباب، إذ لا غرض لها يتعلق بذوات الأسباب، وإنما ذكرتها آلة للتوصل إلى ملكها... وبالجملة أن فدك كانت بيد الزهراء، ولما توفي النبي صلى الله عليه وآله قبضها أبو بكر بدعوى أنها لرسول الله صلى الله عليه وآله، كما قبض بقية مواريثه، فقالت: إذن ما هو له يكون لي إرثاً (أترث أباك ولا أرث أبي؟) فردها بأن الأنبياء لا يورثون، فالتجأت إلى بيان وجه يدها على فدك وهو النحلة، واستشهدت لها بالشهود، وذلك أقرب إلى ظواهر الأخبار(50).
الأخبار التي تشمل دعوى الإرث
1ـ عن عائشة: أن فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وآله أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله مما أفاء الله عليه بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (لا نورث، ما تركناه صدقة)، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وآله في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله عن حاله التي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولأعملن فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وآله. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وآله ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس ـ الحديث(51).
2ـ عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال علي عليه السلام لفاطمة عليها السلام انطلقي فاطلبي ميراثك من أبيك رسول الله صلى الله عليه وآله. فجاءت إلى أبي بكر فقالت: أعطني ميراثي من أبي رسول الله صلى الله عليه وآله قال: النبي لا يورث، فقالت: ألم يرث سليمان داوود؟(52) فغضب وقال: النبي لا يورث، فقالت: ألم يقل زكريا: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب(53))؟ فقال: النبي لا يورث، فقالت: ألم يقل: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين(54))؟ فقال: النبي لا يورث.
3ـ وعن أبي سعيد الخدري قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله جاءت فاطمة عليها السلام تطلب فدكاً، فقال أبو بكر: إني لأعلم إن شاء الله أنك لن تقولي إلا حقاً، ولكن هاتي بينتك، فجاءت بعلي عليه السلام فشهد، ثم جاءت بأم أيمن فشهدت. فقال: امرأة أخرى أو رجلاً، فكتبت لك بها.
قال العلامة المجلسي (ره) بعد نقله: هذا الحديث عجيب، فإن فاطمة عليها السلام كانت مطالبة بميراث، فلا حاجة بها إلى الشهود، فإن المستحق للتركة لا يفتقر إلى الشاهد إلا إذ لم يعرف صحة نسبه واعتزاؤه إلى الدارج، وما أظنهم شكوا في نسب فاطمة عليها السلام وكونها ابنة النبي صلى الله عليه وآله، وإن كانت تطلب فدكاً وتدعي أن أباها نحلها إياها احتاجت إلى إقامة البينة، ولم يبق لما رواه أبو بكر من قوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) معنى، وهذا واضح جداً، فتدبر(55).
4ـ عن المفضل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهما قال: إن فاطمة انطلقت إلى أبي بكر فطلبت ميراثها من نبي الله صلى الله عليه وآله فقال: إن نبي الله لا يورث، فقالت: أكفرت بالله وكذبت بكتابه؟ قال الله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم ـ الآية(56).
5ـ وروي أن عائشة وحفصة هما اللتان شهدتا بقوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) ومالك بن أوس النضري، ولما ولي عثمان، قالت له عائشة: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر، فقال: لا أجد له موضعاً في الكتاب ولا في السنة، ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما وأنا لا أفعل. قالت: فأعطني ميراثي من رسول الله، فقال: أ ليس جئت فشهدت أنت ومالك بن أوس النضري أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا نورث، فأبطلت حق فاطمة، وجئت تطلبينه؟‍ لا أفعل. قال: فكان إذا خرج إلى الصلاة نادت وترفع القميص وتقول: إنه خالف صاحب هذا القميص. فلما آذته صعد المنبر فقال: إن هذه الزعراء (القليلة الشعر) عدوة الله ضرب الله مثلها ومثل صاحبتها حفصة في الكتاب: (امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما ـ إلى قوله ـ وقيل ادخلا النار مع الداخلين(57)). فقالت له: يا نعثل يا عدو الله إنما سماك رسول الله باسم نعثل اليهودي الذي باليمن، فلاعنته ولاعنها، وحلفت أن لا تساكنه بمصر أبداً وخرجت إلى مكة(58).
6 ـ قال العلامة الحلي (ره): ومنها (المطاعن) أنه منع فاطمة إرثها، فقالت: يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي؟ واحتج عليها برواية تفرد هو بها عن جميع المسلمين مع قلة رواياته وقلة علمه وكونه الغريم، لأن الصدقة تحل عليه، فقال لها: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، والقرآن مخالف لذلك فإن صريحه يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وآله فيه بقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم...)(59).
7 ـ قال ابن أبي الحديد: قال المرتضى: وأما تعلق صاحب الكتاب (عبد الجبار صاحب المغني) بالخبر الذي رواه أبو بكر وادعاؤه أنه استشهد عمر وعثمان وفلاناً وفلاناً، فأول ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف، والذي روي: أن عمر استشهد هؤلاء النفر لما تنازع أمير المؤمنين عليه السلام والعباس رضي الله عنه في الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفي الميراث... قلت: صدق المرتضى رحمه الله فيما قال. أما عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وآله ومطالبة فاطمة عليها السلام بالإرث، فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده، وقيل: إنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان، وأما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فإنما شهدوا بالخبر في خلافة عمر(60).
8 ـ وقال أيضاَ: عن أبي البختري قال: جاء العباس وعلي إلى عمر وهما يختصمان، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد: أنشدكم الله، أسمعتم رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (كل مال النبي فهو صدقة، إلا ما أطعمه أهله، إنا لا نورث)؟ فقالوا: نعم، قال: وكان رسول الله يتصدق به، ويقسم فضله. ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما تقولان: إنه كان بذلك خاطئاً، وكان بذلك ظالماً، وما كان بذلك إلا راشداً، ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما: إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وعهده الذي عهد فيه، فقلتما: نعم، وجئتماني الآن تختصمان، يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي والله لا أقضي بينكما إلا بذلك.
قلت: وهذا أيضاً مشكل، لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده، ذكر ذلك أعظم المحدثين، حتى إن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم بالخبر برواية الصحابي الواحد، وقال شيخنا أبو علي: لا تقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم، واحتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)(61).
9ـ قال (عمر): حدثني أبو بكر ـ وحلف بأنه لصادق ـ أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول: (إن النبي لا يورث، وإنما ميراثه في فقراء المسلمين والمساكين)(62). أقول: والغرض من نقل هذا الحديث شهادة عمر أنه سمع الحديث من أبي بكر وحده لا غير.
10ـ قال العلامة المظفر (ره): فقد نقل في (الكنز) في فضائل أبي بكر، عن البغوي وأبي بكر في الغيلانيات، وابن عساكر عن عائشة: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله... واختلفوا في ميراثه فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)(63).
أقول: وهذا الكلام من عائشة شاهد بأن أبيها نقل هذا الحديث وتفرد به، كما لاحظت من ابن أبي الحديد وأستاذه.
11ـ قال المحقق البارع هاشم معروف الحسني: هذا الحديث الذي أجمع المؤرخون والمحدثون على أنه المصدر الوحيد له، ولم يدع من الصحابة سمعه من رسول الله غير أبي هريرة، وكل من رواه من بعده فقد أسنده إليه... والسؤال الذي يفرض نفسه في المقام هو أنه هل يجوز على النبي صلى الله عليه وآله أن يشرع حكماً يخالف نصوص القرآن التي تنص على ميراث الأبناء للآباء، ويخفى هذا التشريع على جميع المسلمين حتى الذين كانوا ألصق به من جميع الناس كعلي وأمثاله من ذويه وقرابته، وهو يمسهم مباشرة، ولا يبلغه إلا لأبي بكر وحده، مع العلم بأنه كان فيما يعود للتشريع عند نزول الوحي عليه يجمع المسلمين ويبلغهم لأن التشريع يعم الجميع، ولو كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وآله؟
وهل يجوز عليه أن يخفيه عن ابنته، وابن عمه باب مدينة العلم ومن عنده علم الكتاب، وهو يعلم أن ذلك يعرضها للخلاف مع من يلي أمور المسلمين، ويؤدي إلى اختلاف المسلمين أنفسهم، بل ويعرضها إلى المطالبة بما لا تستحق ويؤدي بالتالي إلى إيذائها وغضبها، وقد قال أكثر من مرة: (إن الله يغضب لغضبها، ويرضى لرضاها)،وقال: (إنها بضعة مني، يؤذيني ما يؤذيها)؟‍ ولا أظن أحداً يؤمن بالله ورسوله ويعرف الأسلوب الذي كان يتبعه في تبليغ الأحكام، ومكانة الزهراء وعلي من نفسه، يتردد في كذب الحديثين المنسوبين إلى أبي بكر(64).
توريث الأنبياء
1 ـ قال الإمام السيد شرف الدين (ره): المورد7: توريث الأنبياء المنصوص عليه بعموم قوله عز من قائل: (للرجال نصيب ما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً)(65). وقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)(66) إلى آخر آيات المواريث، وكلها عامة تشمل رسول الله صلى الله عليه وآله فمن دونه من سائر البشر، فهي على حد قوله عز وجل: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)(67)، وقوله سبحانه وتعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر)(68)، وقوله تبارك وتعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم)(69)، ونحو ذلك من أحكام الآيات الشرعية يشترك فيها النبي صلى الله عليه وآله وكل مكلف من البشر، لا فرق بينه وبينهم، غير أن الخطاب فيها متوجه إليه ليعمل به وليبلغه إلى من سواه، فهو من هذه الحيثية أولى في الالتزام بالحكم من غيره. ومنها قوله عز وعلا: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)(70) جعل الله عز وجل في هذه الآية الكريمة، الحق في الإرث لأولي قرابات الموروث، وكان التوارث قبل نزولها من حقوق الولاية في الدين، ثم لما أعز الله الإسلام وأهله نسخ بهذه الآية ما كان من ذي حق في الإرث قبلها، وجعل حق الإرث منحصراً بأولي الأرحام الأقرب منهم للموروث فالأقرب مطلقاً، سواء أكان الموروث هو النبي صلى الله عليه وآله أم كان غيره، وسواء أكان الوارث من عصبة الموروث أم من أصحاب الفرائض، أم كان من غيرهما عملاً بظاهر الآية الكريمة. ومنها قوله تعالى فيما اختص من خبر زكريا: (إذ نادى ربه نداء خفياً قال إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربي شقياً، وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربي رضياً)(71).
احتجت الزهراء والأئمة من بنيها بهذه الآية، على أن الأنبياء يورثون المال، وأن الإرث المذكور فيها إنما هو المال لا العلم ولا النبوة، وتبعهم في ذلك أولياءهم من أعلام الإمامية كافة. فقالوا: إن لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال، ولا يستعمل في غير المال إلا عن طريق المجاز والتوسع، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة.
وأيضاً فإن زكريا عليه السلام قال في دعائه: (واجعله ربي رضياً) أي اجعل يا رب ذلك الولي الذي يرثني مرضياً عندك، ممتثلاً لأمرك، ومتى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى وكان لغواً عبثاً، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد: اللهم ابعث لنا نبياً واجعله عاقلاً مرضياً في أخلاقه لأنه إذا كان نبياَ فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في النبوة.
ويقوي ما قلناه أن زكريا عليه السلام صرح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله: (وإني خفت الموالي من ورائي)، وإنما يطلب وارثاً لأجل خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة والعلم، لأنه عليه السلام كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبياً من هو ليس بأهل للنبوة، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل، ولأنه إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس، فكيف يخاف الأمر الذي هو الغرض في بعثته.
فإن قيل: هذا يرجع عليكم في وراثة المال، لأن في ذلك إضافة البخل إليه.
فالجواب: معاذ الله أن يستوي الأمران، فإن المال قد يرزقه المؤمن والكافر والصالح والطالح، ولا يمتنع أن يأسى على بني عمه، إذ كانوا من أهل الفساد أن يظفروا بماله فيصرفوه فيما لا ينبغي، بل في ذلك غاية الحكمة، فإن تقوية أهل الفساد وإعانتهم على أفعالهم المذمومة محظورة في الدين والعقل، فمن عد ذلك بخلاً فهو غير منصف.
وقوله: خفت الموالي من ورائي، يفهم منه أنه خوفه إنما كان من أخلاقهم وأفعالهم، والمراد خفت الموالي أن يرثوا بعدي أموالي فينفقوها في معاصيك، فهب لي يا رب ولداً رضياً يرثها لينفقها فيما يرضيك.
وبالجملة لا بد من حمل الإرث في هذه الآية على إرث المال دون النبوة وشبهها حملاً للفظ (يرثني) من معناه الحقيقي المتبادر منه إلى الأذهان، إذ لا قرينة هنا على النبوة ونحوها، بل القرائن في نفس الآية متوفرة على إرادة المعنى الحقيقي دون المجاز. وهذا رأي العترة الطاهرة في الآية، وهم أعدال الكتاب لا يفترقان أبداً. وقد علم الناس ما كان بين الزهراء سيدة نساء العالمين، وبين أبي بكر، إذ أرسلت إليه تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله فقال أبو بكر: إن رسول الله قال: (لا نورث، ما تركناه صدقة)، قالت عائشة: فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منه شيئاً، واستأثر لبيت المال بكل ما تركه النبي صلى الله عليه وآله من بلغة العيش لا يبقي ولا يذر شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ـ بوصية منها ـ ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها... الحديث.
نعم، غضبت على أثارة(72) واستقلت غضباَ(73)، فلاثت خمارها واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة (لمة ص) من حفدتها...
تعـــظ القـــــوم فـــي أتم خطاب          حكــــت المــصطفى به وحكاها
فخشعت الأبصار، وبخعت النفوس، ولولا السياسة ضاربة يومئذ بجرانها لردت شوارد الأهواء، وقادت حرون الشهوات، ولكنها السياسة توغل في غاياتها لا تلوي على شيء. ومن وقف على خطبتها في ذلك اليوم عرف ما كان بينها وبين القوم، حيث أقامت على إرثها آيات محكمات حججاً لا ترد ولا تكابر، فكان مما أدلت به يومئذ أن قالت: (أعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (وورث سليمان داوود)، وقال فيما أقتص من خبر زكريا: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث مِنْ آل يعقوب واجعله رب رضياً)، وقال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)، وقال: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)، وقال: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين). ثم قالت: أخصكم الله بآية أخرج بها أبي؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟‍‍ أم تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان؟‍ (الخطبة).
فانظر كيف احتجت أولاً على توريث الأنبياء بآيتي داوود وزكريا الصريحتين بتوريثهما. ولعمري أنها عليها السلام أعلم بمفاد القرآن ممن جاؤوا متأخرين عن تنزيله، فصرفوا الإرث هنا إلى وراثة الحكمة والنبوة دون الأموال، تقديماً للمجاز على الحقيقة بلا قرينة تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي المتبادر منه بمجرد الإطلاق، وهذا مما لا يجوز، ولو صح هذا التكلف لعارضها به أبو بكر يومئذ أو غيره ممن كان في ذلك الحشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم. على أن هناك قرائن تعين وارثة الأموال كما بيناه سابقاً.
واحتجت ثانياً على استحقاقها الإرث من أبيها صلى الله عليه وآله بعموم آيات المواريث وعموم آية الوصية، منكرة عليهم تخصيص تلك العمومات بلا مخصص شرعي من كتاب أو سنة. وما أشد إنكارها إذ قالت: (أخصكم الله بآية أخرج بها أبي)؟ فنفت بهذا الاستفهام الإنكاري وجود المخصص في الكتاب. ثم قالت: (أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي)؟ فنفت بهذا الاستفهام التوبيخي وجود المخصص في السنة، بل نفت وجوده مطلقاً، إذ لو كان ثمة مخصص لبينه لها النبي والوصي، ويستحيل عليهما الجهل به لو كان في الواقع موجوداً، ولا يجوز عليهما أن يهملا تبيينه لها لما في ذلك من التفريط في البلاغ، والتسويف في الإنذار، والكتمان للحق، والإغراء بالجهل، والتعريض لطلب الباطل، والتغرير بكرامتها، والتهاون في صونها عن المجادلة والمجابهة والبغضاء والعداوة بغير حق، وكل ذلك محال ممتنع عن الأنبياء وأوصيائهم.
وبالجملة كان كلف النبي صلى الله عليه وآله ببضعته الزهراء وإشفاقه عليها فوق كلف الآباء الرحيمة، وإشفاقهم على أبنائهم البررة، يؤويها إلى الوارف من ظلال رحمته، ويفديها بنفسه مسترسلاً إليها بأنسه، وكان يحرص بكل ما لديه على تأديبها وتهذيبها وتعليمها وتكريمها حتى بلغ في ذلك كل غاية، يزقها المعرفة بالله والعلم بشرائعه زقاً، لا يألو في ذلك جهداً، ولا يدخر وسعاً حتى عرج (بها) إلى أوج كل فضل، ومستوى كل كرامة، فهل يمكن أن يكتم عليها أمراً يرجع إلى تكليفها الشرعي؟ حاشا لله، وكيف يمكن أن يعرضها ـ بسبب الكتمان ـ لكل ما أصابها من بعده في سبيل الميراث، من الامتهان بل يعرض الأمة للفتنة التي ترتبت على منع إرثها.
وما بال بعلها خليل النبوة، والمخصوص بالأخوة، يجهل حديث (لا نورث) مع ما آتاه الله من العلم والحكمة، والسبق، والصهر، والقرابة، والكرامة والمنزلة، والخصيصة، والولاية، والوصاية، والنجوى، وما بال رسول الله صلى الله عليه وآله يكتم ذلك عنه، وهو حافظ سره، وكاشف ضره، وباب مدينة علمه، وباب دار حكمته، وأقضى أمته، وباب حطتها، وسفينة نجاتها، وأمانها من الاختلاف؟ وما بال أبي الفضل: العباس وهو صنو أبيه، وبقية السلف من أهليه، لم يسمع بذلك الحديث؟ وما بال الهاشميين كافة وهم عيبته وبيضته التي تفقأت عنه، لم يبلغهم الحديث حتى فوجئوا به بعد النبي صلى الله عليه وآله؟ وما بال أمهات المؤمنين يجهلنه فيرسلن عثمان يسأل لهن ميراثهن من رسول الله؟ وكيف يجوز على رسول الله صلى الله عليه وآله أن يبين هذا الحكم لغير الوارث ويدع بيانه للوارث؟. ما هكذا كانت سيرته صلى الله عليه وآله إذ يصدع بالأحكام فيبلغها عن الله عز وجل، ولا هذا هو المعروف عنه في إنذار عشيرته الأقربين، ولا مشبه لما كان يعاملهم به من جميل الرعاية وجليل العناية.
بقي للطاهرة البتول كلمة استفزت بها حمية القوم، واستثارت حفائظهم،ن بلغت بها أبعد الغايات، ألا وهي قولها: (أم تقولون: أهل ملتين لا يتوارثان)؟ تريد بهذا أن عمومات المواريث لا تتخصص بمثل ما زعمتم، وإنما تتخصص بمثل قوله صلى الله عليه وآله: (لا توارث بين أهل ملتين) وإذن فهل تقولون، إذ تمنعوني الإرث من أبي: أني لست على ملته، فتكونون ـ لو أثبتم خروجي عن الملة ـ على حجة شرعية فيما تفعلون؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون(74).
2ـ قال العلامة الأميني (ره): لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك، لوجب أن يفشيه إلى آله وذويه الذين يدعون الوراثة منه، ليقطع معاذيرهم في ذلك بالتمسك بعمومات الإرث من آي القرآن الكريم والسنة الشريفة، فلا يكون هناك صخب وخوار تتعقبهما محن وإحن، ولا تموت بضعته الطاهرة وهي واجدة على أصحاب أبيها، ويكون ذلك كله مثاراً للبغضاء والعداء في الأجيال المتعاقبة بين أشياع كل من الفريقين، وقد بعث هو صلى الله عليه وآله لكسح تلكم المعرات، وعقد الإخاء بين الأمم والأفراد.
ألم يكن صلى الله عليه وآله على بصيرة مما يحدث بعده من الفتن الناشئة من عدم إيقاف أهله وذويه على هذا الحكم المختص به صلى الله عليه وآله المخصص لشرعة الإرث؟ حاشاه، وعنده علم المنايا والبلايا والقضايا والفتن والملاحم.
وهل ترى أن دعوى الصديق الأكبر أمير المؤمنين وحليلته الصديقة الكبرى صلوات الله عليهما وآلهما على أبي بكر ما استولت عليه يده مما تركه النبي صلى الله عليه وآله من ماله كانت بعد علم وتصديق منهما بتلك السنة المزعومة صفحاً منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا؟ أو كانت عن جهل منهما بما جاء به أبو بكر؟ نحن نقدس ساحتهما (أخذاً بالكتاب والسنة) عن علم بسنة ثابتة والصفح عنها، وعن جهل يربكهما في الميزان.
ولماذا يصدق أبو بكر في دعواه الشاذة عن الكتاب والسنة، فيما لا يعلم إلا من قبل ورثته صلى الله عليه وآله ووصيه الذي هتف صلى الله عليه وآله به وبوصايته من بدء دعوته في الأندية والمجتمعات؟ ولم تكن أذن واعية لدعوى الصديقة وزوجها الطاهر بكون فدك نحلة لها من رسول الله صلى الله عليه وآله وهي لا تعلم إلا من قبلهما؟ قال مالك بن جعونة عن أبيه أنه قال: قالت فاطمة لأبي بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله جعل لي فدك فأعطني إياها، وشهد لها علي بن أبي طالب، فسألها شاهداً آخر فشهدت لها أم أيمن، فقال: قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا تجوز إلا رجلين أو رجل وامرأتين. وانصرفت.
وفي رواية خالد بن طهمان: إن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: أعطني فدك فقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وآله لي فسألها البينة فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي صلى الله عليه وآله فشهدا لها بذلك فقال: إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل وامرأتين. ثم مم كان غضب الصديقة الطاهرة سلام الله عليها؟ وهي التي جاء فيها عن أبيها الأقدس:‍‍‍‍‍‍‍‍ (إن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها). أمن حكم صدع به والدها وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؟ وحاشاها، أم لأن ذلك الحكم البات رواه عن صديق أمين يريد بث حكم الشريعة وتنفيذه وهي مصدقة له؟ نحاشي ساحة البضعة الطاهرة بنص آية التطهير عن هذه الخزاية، فلم يبق إلا شق ثالث وهو أنها كانت تتهم الراوي، أو تعتقد خللاً في الرواية، وتراه حكماً خلاف الكتاب والسنة، وهذا الذي دعاها إلى أن لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها... وهذا الذي تركها غضباء على من خالفها وتدعو عليه بعد كل صلاة، حتى لفظت نفسها الأخيرة صلى الله عليها، كما سيوافيك تفصيله.
وهل هذا الحكم مطرد بين الأنبياء جميعاً؟ أو أنه من خاصة نبينا صلى الله عليه وآله؟ والأول ينقضه الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وورث سليمان داوود ) النمل 16، وقــــوله سبحانـــه عن زكريا: (فهب لي مـــن لدنك ولياً يرثـــنــــي ويرث من آل يعقوب) مريم 6.
ومن المعلوم أن حقيقة الميراث انتقال ملك الموروث إلى ورثته بعد موته بحكم المولى سبحانه، فحمل الآية الكريمة على العلم والنبوة كما فعله القوم خلاف الظاهر، لأن العلم والنبوة لا يورثان، والنبوة تابعة للمصلحة العامة، مقدرة لأهلها من أول يومها عند بارئها، والله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا مدخل للنسب فيها كما لا أثر للدعاء والمسألة في اختيار الله تعالى أحداً من عباده نبياً، والعلم موقوف على من يتعرض له ويتعلمه. على أن زكريا سلام الله عليه إنما سأل ولياً من ولده يحجب مواليه ـ كما هو صريح الآية ـ من بني عمه وعصبته من الميراث، وذلك لا يليق إلا بالمال، ولا معنى لحجب الموالي عن النبوة والعلم.
ثم إن اشتراطه عليه السلام في وليه الوارث كونه رضياً بقوله: (واجعله ربي رضياً) لا يليق بالنبوة، إذ العصمة والقداسة في النفسيات والملكات لا تفارق الأنبياء، فلا محصل عندئذ لمسألته ذلك. نعم يتم هذا في المال ومن يرثه، فإن وارثه قد يكون رضياً وقد لا يكون.
وأما كون الحكم من خاصة رسول الله صلى الله عليه وآله فالقول به يستلزم تخصيص عموم آي الإرث مثل قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ـ النساء 11 ـ وقوله سبحانه: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ـ الأنفال 75 ـ وقوله العزيز: إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ـ البقرة 180 ـ ولا يسوغ تخصيص الكتاب إلا بدليل ثابت مقطوع عليه لا بالخبر الواحد الذي لم يصح الأخذ بعموم ظاهره لمخالفته ما ثبت من سيرة الأنبياء الماضين صلوات الله على نبينا وآله وعليهم.
لا بالخبر الواحد الذي لم يخبت إليه صديقة الأمة وصديقها الذي ورث علم نبيها الأقدس، وعده المولى سبحانه في الكتاب نفساً لنبيه صلى الله عليهما وآلهما. لا بالخبر الواحد الذي لم ينبأ عنه قط خبير من الأمة وفي مقدمها العترة الطاهرة وقد اختص الحكم بهم وهم الذين زحزحوا به عن حكم الكتاب والسنة الشريفة، وحرموا من وراثة أبيهم الطاهر، وكان حقاً عليه صلى الله عليه وآله أن يخبرهم بذلك، ولا يؤخر بيانه عن وقت حاجتهم، ولا يكتمه في نفسه عن كل أهله وذويه وصحابته وأمته إلى آخر نفس لفظه.
لا بالخبر الواحد الذي جر على الأمة كل هذه المحن والإحن، وفتح عليها باب العداء المحتدم بمصراعيه، وأجج فيها نيران البغضاء والشحناء في قرونها الخالية، وشق عصا المسلمين من أول يومهم، وأقلق من بينهم السلام والوئام وتوحيد الكلمة. جزى الله محدثه عن الأمة خيراً.
ثم إن كان أبو بكر على ثقة من حديثه فلم ناقضه بكتاب كتبه لفاطمة الصديقة سلام الله عليها، بفدك؟ غير أن عمر بن الخطاب دخل عليه فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال: مما ذا تنفق على المسلمين، وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثم أخذ عمر الكتاب فشقه. ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية3: 391.
وإن كان صح الخبر وكان الخليفة مصدقاً فيما جاء به فما تلكم الآراء المتضاربة بعد الخليفة؟ وإليك شطراً منها:
1ـ لما ولي عمر بن الخطاب الخلافة رد فدكاً إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها، فكان علي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله جعلها في حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك ويقول: هي ملك رسول الله وأنا وارثه. فكانا يتخاصمان إلى عمر، فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما، أما أنا فقد سلمتها إليكما.
راجع صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب: فرض الخمس ص5: 3ـ10، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير، باب: حكم الفيء، الأموال لأبي عبيد ص11 ذكر حديث البخاري وبتره، سنن البيهقي 6: 299، معجم البلدان 6: 343، تفسير ابن كثير 4: 335، تاريخ ابن كثير 5: 288، تاج العروس 7: 166.
لفت نظر
نحن لا نناقش فيما نجده من المخازي في أحاديث الباب كأصل التنازع المزعوم بين علي والعباس، وما جاء في لفظ مسلم في صحيحه من قول العباس لعمر: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن.
أهكذا كان العباس يقذف سيد العترة الطاهر المطهر بهذا السباب المقذع وبين يديه آية التطهير وغيرها مما نزل في علي أمير المؤمنين في آي الكتاب العزيز؟ فما العباس وما خطره عندئذ؟ وبماذا يحكم عليه أخذاً بقول النبي الطاهر: (من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله كبه الله على منخريه في النار؟)
لا ها الله، نحن نحاشي العباس عن هذه النسب المخزية، ونرى القوم راقهم سب مولانا أمير المؤمنين فنحتوا هذه الأحاديث وجعلوها للنيل منه قنطرة ومعذرة، والله يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. وإلى الله المشتكى.
2ـ أقطع مروان بن الحكم فدكاً في أيام عثمان بن عفان كما في سنن البيهقي 6:301 وما كان إلا بأمر من الخليفة.
3ـ لما ولي معاوية بن أبي سفيان الأمر أقطع مروان بن الحكم ثلث الفدك، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلك بعد موت الحسن بن علي، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز ابنه، فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.
4ـ لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب فقال: إن فدك كانت مما أفاء الله على رسوله ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فسألته إياها فاطمة فقال: ما كان لك أن تسأليني وما كان لي أن أعطيك، فكان يضع ما يأتيه منها في أبناء السبيل، ثم ولي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فوضعوا ذلك بحيث وضعه رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحكم فوهبها مروان لأبي ولعبد الملك، فصارت لي وللوليد وسليمان، فلما ولي الوليد سألته حصته منها فوهبها لي، وسألت سليمان حصته منها فوهبها لي فاستجمعتها، وما كان لي من مال أحب إليَّ منها، فاشهدوا أني قد رددتها إلى ما كانت عليه.
5ـ فكانت فدك في يد أولاد فاطمة مدة ولاية عمر بن عبد العزيز، فلما ولي يزيد بن عبد الملك قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها حتى انتقلت الخلافة عنهم.
6 ـ لما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين.
7 ـ ثم لما ولي أبو جعفر المنصور قبضها من بني حسن.
8 ـ ثم ردها المهدي بن المنصور على ولد فاطمة سلام الله عليها.
9 ـ ثم قبضها موسى بن المهدي وأخوه من أيدي بني فاطمة فلم تزل في أيديهم حتى ولي المأمون.
10 ـ ردها المأمون على الفاطميين سنة 210، وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة: أما بعد: فإن أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسوله صلى الله عليه وآله والقرابة به، أولى من استن بسنته، ونفذ أمره، وسلم لمن منحه منحة، وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته، وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته، وإليه ـ في العمل بما يقربه إليه ـ رغبته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك، وتصدق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم تزل تدعي منه ما هو أولى به من صدق عليه، فرأى أمير المؤمنين أن يردها إلى ورثتها، ويسلمها إليهم تقرباً إلى الله تعالى بإقامة حقه وعدله، وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر بإثبات ذلك في دواوينه، والكتاب إلى عماله، فلئن كان ينادي في كل موسم بعد أن قبض نبيه صلى الله عليه وآله أن يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك، فيقبل قوله، وتنفذ عدته، إن فاطمة رضي الله عنها لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله صلى الله عليه وآله لها.
وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها، وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك، وتسليمها إلى محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لتولية أمير المؤمنين إياهما القيام بها لأهلها.
فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين، وما ألهمه الله من طاعته، ووفقه له من التقرب إليه وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وأعلمه من قبلك، وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها إن شاء الله، والسلام. وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي العقدة سنة 210 هـ.
11ـ ولما استخلف المتوكل على الله أمر بردها إلى ما كانت عليه قبل المأمون.
راجع فتوح البلدان للبلاذري ص39 ـ 41، تاريخ اليعقوبي 3: 48، العقد الفريد 2: 323، معجم البلدان 6: 344، تاريخ ابن كثير 9: 200 وله هناك تحريف دعته إلى شنشنة أعرفها من أخزم، شرح ابن أبي الحديد4: 103، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص154، جمهرة رسائل العرب 3: 510، أعلام النساء 3: 1211. كل هذه تضاد ما جاء به الخليفة من خبره الشاذ عن الكتاب والسنة(75).
تنبيهان:
الأول: قال ابن أبي الحديد: واعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة عليها السلام أبا بكر كان في أمرين، في الميراث والنحلة، وقد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث ومنعها أبو بكر إياه أيضاً وهوسهم ذوي القربى. (ذكر ابن أبي الحديد لذلك أخباراً منها) عن عروة قال: أرادت فاطمة أبا بكر على فدك وسهم ذوي القربى، فأبى عليها، وجعلها في مال الله تعالى.
ومنها: قال أبو بكر: وأخبرنا أبو زيد قال: حدثنا أحمد بن معاوية، عن هيثم، عن جويبر، عن أبي الضحاك، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام: إن أبا بكر منع فاطمة وبني هاشم سهم ذوي القربى، وجعله في سبيل الله(76). وقال العلامة المظفر (ره): إن لسيدة النساء دعوى ثالثة تتعلق بحقها من خمس خيبر الذي ملكته في حياة النبي صلى الله عليه وآله، وهو سهمها من الخمس الذي قسمه الله سبحانه بقوله: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ـ الآية)(77). فللزهراء في خمس خيبر حقان: حق من حيث إنها شريكة رسول الله صلى الله عليه وآله، وحق من جهة ميراثها لحقه، وقد استولى أبو بكر على خمس خيبر كله، فمنعها الحقين، ونحن إن صححنا له روايته: (إن الأنبياء لا تورث) وسوغنا له الاستيلاء على حق رسول الله صلى الله عليه وآله، فما المسوغ له الاستيلاء على حق غيره، وقد ملكوه في حياة النبي صلى الله عليه وآله(78).
وقال أيضاً: وللزهراء عليها السلام دعوى رابعة تتعلق بخمس الغنائم الحادثة بعد النبي صلى الله عليه وآله، فإن أبا بكر كما قبض الخمس الذي كان لأهل البيت في حياة النبي صلى الله عليه وآله كخمس خيبر، منعهم خمس الغنائم الحادثة بعده، فنازعته الزهراء عليها السلام في ذلك أيضاً، والأخبار به كثيرة(79).
الثاني: قال المظفر (ره): والظاهر أن فدك صارت من مختصات أبي بكر وعمر، كما عن السيوطي في (تاريخ الخلفاء)، ويدل عليه ما رواه أبو داوود في سننه في باب صفايا رسول الله صلى الله عليه وآله من كتاب (الخرائج) عن أبي الطفيل قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها من النبي صلى الله عليه وآله، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الله عز وجل إذا أطعم نبياً طعمة فهي للذي يقوم بعده(80).

____________
1 - سورة الإسراء: الآية 26.
2 - فتوح البلدان: ص46.
3 - تاريخ الطبري: ج3، ص14.
4 - الكامل في التاريخ: ج3، ص221.
5 - شرح النهج: ج16، ص210.
6 - سورة الإسراء: الآية 28.
7 - الدر المنثور: ج5، ص273.
8 - الصواعق المحرقة: ص21.
9 - وهي قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير).
10 - التفسير الكبير: ج29، ص284.
11 - شواهد التنزيل: ج1، ص340.
12 - منتخب كنز العمال: المطبوع بهامش (مسند أحمد) ج1، ص228.
13 - الملل والنحل: ج1، ص23.
14 - مقدمه (فدك) للعلامة القزويني، ص7 ـ6.
15 - شرح النهج ج16، ص268 و269.
16 - شرح النهج ج16، ص268 و269.
17 - معجم البلدان: مادة فدك.
18 - فتوح البلدان: ص46.
19 - السيرة الحلبية: ج3، ص362.
20 - شرح النهج: ج16، ص286.
21 - المواقف: ص402.
22 - سعد السعود: ص101 ـ102.
23 - كشف الغمة: ج1، ص476.
24 - سورة الأحزاب: الآية 33.
25 - الاحتجاج: ج1، ص119 ـ123.
26 - يعني ابن معاذ، وهو غير سعد لأنه توفي في حياة النبي صلى الله عليه وآله.
27 - الاختصاص: ص183 ـ184، ط الغفاري.
28 - سورة آل عمران: الآية 61.
29 - سورة الأحزاب: الآية 33.
30 - شرح النهج: ج16، ص284.
31 - النص والاجتهاد: المورد8، ص110 ـ119.
32 - كنز الفوائد: ص361 ـ362، من رسالة التعجب.
33 - دلائل الصدق: ج3، ص66 ـ71.
34 - شرح النهج: ج16، ص286.
35 - المصدر، ج14، ص190 ـ191.
36 - الطرائف: ص248ـ 251.
37 - تلخيص الشافي: ج3، ص122 ـ 124.
38 - سورة الأحزاب: الآية 33.
39 - سورة الطلاق: الآية 1.
40 - قال ابن قتيبة الدينوري المتوفى 276: فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة فإنا قد أغضبناها. فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلماه فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله، إلا أني سمعت أباك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (لا نورث، ما تركنا فهو صدقة)، فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: (رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني)؟ قالا: نعم، سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله) لأشكونكما إليه. فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة. ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها… فلم يبايع علي كرم الله وجهه حتى ماتت فاطمة رضي الله عنهما، ولم تمكث بعد أبيها إلا خمساً وسبعين ليلة). (الإمامة والسياسة ج1، ص13).
41 - تلخيص الشافعي: ج3، ص129 ـ132.
42 - الإمام علي عليه السلام: للمؤلف، ص560.
43 - الرسائل العشر: ط النشر الإسلامي، ص125، (تلخيص الشافعي) ج2، ص157.
44 - الطرائف: ص251 ـ252، ط مطبعة خيام بقم.
45 - الغدير: ج7، ص229 ـ231.
46 - سيرة الأئمة عليهم السلام: ص130، ط بيروت.
47 - تلخيص الشافي: ج3، ص127.
48 - البحار: ج8، ص116، ط الكمباني.
49 - ويمكن التفصي عن الإشكال المذكور بأن دعوى الميراث على سبيل التنزل، أي إن متروكات النبي (صلى الله عليه وآله) لها نحلة كانت أو ميراثاً، فإذا لم يقبلوا منها النحلة ألزمتهم بالميراث. وقد ردوا دعوى النحلة برد الشهود، ودعوى الميراث بالحديث المجعول.
50 - دلائل الصدق: ج3، ص73.
51 - صحيح البخاري: ج5، ص177.
52 - سورة النمل: الآية 16.
53 - سورة مريم: الآية 6.
54 - سورة النساء: الآية 11.
55 - البحار: ج8، ص107، ط الكمباني.
56 - اللمعة البيضاء: ص382.
57 - التحريم، 10.
58 - كشف الغمة: ج1، ص478 ـ479.
59 - دلائل الصدق: ج3، ص40.
60 - شرح النهج: ج16، ص245.
61 - المصدر، ص227.
62 - مسند أحمد: ج1، ص13.
63 - دلائل الصدق: ج3، ص56.
64 - سيرة الأئمة: ج1، ص120.
65 - سورة النساء: الآية 8 و11.
66 - سورة النساء: الآية 8 و11.
67 - سورة البقرة: الآية 183 و184.
68 - سورة البقرة: الآية 183 و184.
69 - سورة المائدة: الآية 3.
70 - سورة الأنفال: الآية 75.
71 - سورة مريم: الآية 3 ـ6.
72 - إنما يقولون: (غضب فلان على أثارة) بالفتح، إذا كان غضبه مسبوقاً بغضب، كغضب الزهراء لإرثها، مسبوقاً بغضبها لكشف بيتها، وذاك مسبوقاً أيضاً بما كان في السقيفة. (منه قده)
73 - إنما يقولون: (استقال غضباً) إذا أشخصه فرط الغضب، كما أشخص الزهراء من بيتها حتى دخلت على أبي بكر، فخطبت محتجة بأشد لهجة. (منه قده).
74 - النص والاجتهاد: ص103 ـ110.
75 - الغدير: ج7، ص190 ـ197.
76 - شرح نهج البلاغة: ج16، ص230 ـ231.
77 - سورة الأنفال: الآية 41.
78 - دلائل الصدق: ج3، ص75.
79 - دلائل الصدق: ج3، ص76.
80 - المصدر، ص54.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page