• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الاستعداد للرحيل

كانت السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام في ذلك اليوم، الذي توفّيت فيه، طريحة الفراش، و قد أخذ منها الهزال كلّ مأخذ، و ما بقي منها سوى الهيكل العظمي فقط.
نامت السيدة فاطمة في ساعة من ساعات ذلك اليوم و إذا بها ترى أباها رسول‏اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم في المنام، ولعلّ تلك المرة الأولى والأخيرة التي رأت الزهراء أباها الرسول في المنام.
رأت أباها في قصر من الدرّ الأبيض، فلمّا رآها قال صلى اللَّه عليه و آله و سلم:«هلمي إلي يا بنية، فإني إليك مشتاق!!».
فقالت: «واللَّه إني لأشد شوقاً منك إلى لقائك».
فقال لها: «أنت الليلة عندي!!».
انتبهت من غفوتها، و استعدت للرحيل إلى الآخرة، فقد سمعت من أبيها الصادق المصدق الذي قال: «من رآني فقد رآني» سمعت منه نبأ إرتحالها فلا مجال للشك والتردد في صدق الخبر.
فتحت عينها، و استعادت نشاطها، ولعلّها كانت في صحوة الموت و قامت لاتخاذ التدابير اللازمة، و اغتنمت تلك السويعات الأخيرة من حياتها.
و يعلم اللَّه مدى إنشغال قلبها و تشتّت فكرها في تلك اللحظات، فهي مسرورة بالموت الذي سوف يحل بها، فإنّها تستريح من هموم الدّنيا و غمومها، و تلتحق بأبيها الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه و آله و سلم حيث الرفيق الأعلى والدرجات العلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، و تتحقق في حقها البشرى التي زفّها إليها رسول‏الله صلى اللَّه عليه و آله و سلم يوم قال لها: أنت أوّل أهل بيتي لحوقاً بي.
ولكنها من ناحية اُخرى: يضطرم قلبها لأنها سوف تترك زوجها العظيم و كفؤها الكريم وحيداً غريباً في هذه الحياة القاسية، بلا ناصر و لا معين سوى اللَّه تعالى، فلقد كانت الزهراء خير محامية و مدافعة و ناصرة لزوجها في تلك الأحداث، فمن الذي يقوم مقامها إذا هي فارقت الحياة؟!
و مما كان يؤلمها في تلك السويعات أكثر و أكثر و كان يضغط على قلبها أنّها تفارق أطفالها الصغار، و كأنهم أفراخ لم تنبت أجنحتهم بعد، و قد ذكرنا (فيما مضى) أنّ من جملة أسمائها: الحانية. لأنها ضربت الرقم القياسي في الحنان والعطف على أولادها، و كانت أكثر أمهات العالم حباً و شفقة على أطفالها الأعزاء.
إنّها ستترك أفلاذ كبدها أهدافاً لسهام الدهر الخؤون الذي لا يرحم كبيراً و لا صغيراً، و لا وضيعاً و لا شريفاً، و خاصة و انها قد سمعت من أبيها الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه و آله و سلم مرات عديدة: أنّ آل رسول‏اللَّه هم المستضعفون و انهم سوف يرون أنواع الإضطهاد وألوان المصائب والذلّ والهوان، كما شهدت هي ذلك بعد وفاة أبيها الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم.
و يعلم اللَّه كيف كانت هذه الهواجس والأفكار تهاجم قلبها المنكسر المتألم.
و على كل حال: فالحزن- هنا- لا يجدي و لا ينفع فلابدّ من الإستسلام للواقع المر، والتسليم لأمر اللَّه و قضائه و لابّد من انتهاز هذه الفرصة القصيرة التي تمر مر السحاب.
أقبلت الزّهراء تزحف أو تمشي متكئة على الجدار نحو الموضع الذي يوجد فيه الماء من بيتها، و شرعت تغسل ثياب أطفالها بيديها المرتعشتين، ثمّ دعت أطفالها و طفقت تغسل رؤوسهم بالماء والطين، لأنها لم تجد غسيلاً غير الطين.
قف بنا لحظة!! لنبك على هذه السيدة التي قد اقترب أجلها، و هي تلمس رؤوس أطفالها و أبدانهم النحيفة، و كأنها تودعهم، و ما يدريك أنها- حينذاك- كانت تبكي بصوت خافت، و تتقاطر الدموع من جوانب عينيها الغائرتين، تسيل على وجهها المنكسف لتغسل الذبول المستولي عليه.
و دخل الإمام علي عليه‏السلام البيت، و إذا به يرى عزيزته قد غادرت فراش العلّة و هي تمارس أعمالها المنزلية.
رق لها قلب الإمام حين نظر إليها و قد عادت إلى أعمالها المتعبة التي كانت تجهدها أيام صحتها، فلا عجب إذا سألها: سبب قيامها بتلك الأعمال بالرغم من انحراف صحتها؟
أجابته بكلّ صراحة: لأنّ هذا اليوم آخر يوم من أيام حياتي، قمت لأغسل رؤوس أطفالي و ثيابهم لأنهم سيصبحون يتامى بلا أمّ!!
سألها الإمام عن مصدر هذا النبأ فأخبرته بالرؤيا، فهي بذلك قد نعت نفسها إلى زوجها بما لا يقبل الشك.
إذن، فالسيدة فاطمة في أواخر ساعات الحياة، و قد حان لها أن تكاشف زوجها بما أضمرته في صدرها (طيلة هذه المدة) من الوصايا التي يجب تنفيذها و لو بأغلى الأثمان و لا يمكن التسامح فيها أبداً، لأنّ لها غاية الأهمية.
كأنها قد فرغت من أعمالها المنزلية و عادت إلى فراشها و فرغت لوصاياها:
قالت عليهاالسلام لعلي عليه‏السلام: «يابن عم!! إنّة قد نعيت إلي نفسي، و إننى لا أرى مابى ألّا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، و أنا أوصيك بأشياء في قلبي».
قال لها علي عليه‏السلام: «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول‏اللَّه»، فجلس عند رأسها، و أخرج من كان في البيت، ثمّ قالت:
«يابن عم! ما عهدتني كاذبة و لا خائنة. و لا خالفتك منذ عاشرتني».
فقال علي عليه‏السلام: «معاذ اللَّه!! أنت أعلم باللَّه، و أبر و أتقى و أكرم، و أشد خوفاً من اللَّه من أن أوبخك بمخالفتي، و قد عز علي مفارقتك و فقدك.
إلّا أنّة أمر لابدّ منه.
واللَّه لقد جددت علي مصيبة رسول‏اللَّه، و قد عظمت وفاتك فإنّاللَّه و إنّا إليه راجعون.
من مصيبة ما أفجعها و آلمها، و أمضها و أحزنها.
هذه مصيبة لا عزاء منها، و رزية لا خلف لها«.
ثمّ بكيا جميعاً ساعة، و أخذ الإمام رأسها و ضمها إلى صدره ثمّ قال:
«أو صيني بما شئت، فإنك تجدينني و فياً أمضي كلّما أمرتني به، و أختار أمرك على أمري».
فقالت: «جزاك اللَّه عني خير الجزاء.
يابن عم! أوصيك أولاً:
أن تتزوج بعدي بإبنة أُختي أُمامة، فإنّها تكون لولدي مثلي، فإنّ الرجال لابدّ لهم من النساء«.
ثمّ قالت: «أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فإنهم عدوي و عدو رسول‏اللَّه، و لا تترك أن يصلي علي أحد منهم و لا من أتباعهم، و ادفني في الليل إذا هدأت العيون و نامت الأبصار (1).
ثمّ قالت: «يا ابن العم! إذا قضيت نحبي فغسلني و لا تشكف عني، فإني طاهرة مطهرة، و حنطني بفاضل حنوط أبي رسول‏اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم.
وصل علي، وليصل معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتى و ادفنى ليلاً لا نهاراً، و سراً لاجهارا، و عف موضع قبري، و لا تشهد جنازتى أحداً ممن ظلمني.
يا ابن العم، أنا أعلم أنك لا تقدر على عدم التزويج من بعدي فإن أنت تزوجت إمرأة إجعل لها يوماً و ليلة، و اجعل لأولادي يوماً وليلة.
يا أباالحسن! و لا تصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدهما
واليوم يفقدان أمهما، فالويل لأمة تقتلهما و تبغضهما.
و روى صاحب كشف الغمة و ابن عبدالبرّ في الإستيعاب بسنده أنّ فاطمة الزهراء عليهاالسلام لمّا مرضت مرضها الذي توفيت فيه، قالت لاسماء بنت عميس: أني قد استقبحت ما يصنع بالنساء إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها لمن رأى.
فقالت أسماء: يا بنت رسول‏اللَّه أنا أُريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد- النخل- رطبة فحنتها ثمّ طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة عليهاالسلام: «ما أحسن هذا و أجمله لا تعرف به المرأة من الرجل»، ثمّ قالت فاطمة عليهاالسلام: «إذا أنا متّ فاغسليني أنت و لا يدخلن علي أحد...» (2).
و روى ابن‏عباس وصية مكتوبة لها عليهاالسلام جاء فيها:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
«هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول‏اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم أوصت و هي تشهد أن لا إله إلا اللَّه و أنّ محمداً عبده و رسوله، و أنّ الجنّة حق، والنار حقّ، و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللَّه يبعث من في القبور.
يا علي: أنا فاطمة بنت محمّد، زوّجني اللَّه منك لأكون لك في الدّنيا والآخرة، أنت أولى بي من غيري، حنطني و غسلني و كفّني بالليل و صلّ علي و ادفني بالليل و لا تعلم أحداً. و أستودعك اللَّه و أقرأ على ولدي السلام إلى يوم القيامة« (3).
هذه بعض وصايا السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام التي يتجلى فيها مدى تألمها من ذلك المجتمع، و مدى تذمرها من الجفاة القساة.
_____________
(1). روضة الواعظين،و في رواية، إذا هدأت الأصوات و نامت العيون.
(2). المجالس: 61.
(3). البحار 43/ 214.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page