طباعة

بـدايـة

هنا سؤالان:
أحدهما: لماذا يصر عمر على هذا الزواج..
الثاني: كيف رضخ علي (عليه السلام) للتهديد، ووافق على زواج قد يقال: إن الإكراه يسلب عنه صفة المشروعية.
وللإجابة عليهما نقول:
لماذا الإصرار على الزواج:
إننا نعيد طرح السؤال الأول ليصبح كما يلي:
لماذا يصر عمر على الزواج ببنت علي (عليه السلام)، الذي لم تكن العلاقة معه علاقة طيبة، ولا أقل من أنها لم تكن علاقة طبيعية، خصوصاً وأن عمر قد كان رأساً في التيار المناهض لإمامة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهو الغاصب لمقام الخلافة منه (عليه السلام).
وقد تجرأ حتى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في هذا السبيل إلى حد أنه رماه بالهجر(1) وهو في مرض موته.
بل هو قد ضرب الزهراء(عليها السلام)، وأسقط جنينها. حتى ماتت شهيدة مظلومة(2).
نعم لماذا يصر على ذلك ويلح، ويكثر تردده، وهو يرى ممانعة علي (عليه السلام) له، ويواجه رفضه المتكرر؟!!..
ثم لماذا هذا التهديد والوعيد العظيم، الذي يصل إلى حد تعوير زمزم، وهدم السقاية، وقطع يد علي، وقتله صلوات الله وسلامه عليه؟!..
لا بد أن في الأمر سراً عظيماً، وهائلاً، ومؤامرة خطيرة، تهون أمامها هذه الجرائم التي يهدد بارتكابها رجل قد أفهم الناس عملاً: أنه ينفذ تهديداته تلك..
إننا لن نحاول في إجاباتنا على هذا السؤال البسط في القول، ولا التوسع في البيان، بل نكتفي بالقول:
1 ـ إنه قد يروق للبعض أن يعتبر المبادرة إلى هذا الزواج إشارة إلى رغبة عمر الجامحة في إصلاح الحال بين بني هاشم من جهة وبين خصومهم من جهة أخرى، حيث يسهم هذا الزواج في تهدئة النفوس، وعودة المياه إلى مجاريها، من خلال ما يترتب عليه من تلاق يفسح المجال لبث الشكوى، وغسل القلوب، وتصفية النوايا..
ونقول:
إن هذه الإجابة غير دقيقة، بل هي غير صحيحة، وذلك لما يلي:
أولاً: إن ذلك لا يمكن أن يبرر التهديد بتعوير زمزم، وهدم السقاية، وقتل علي، سيد المسلمين، ووصي رسول رب العالمين.. وهل يمكن غسل جريمة بجريمة أعظم منها؟!
ثانياً: إن هذه الزيجات ـ لم تستطع عبر التاريخ أن تحقق ما هو أبسط من ذلك.. فكيف بأمر أزهقت من أجله الأرواح، واستشهدت فيه أعظم امرأة خلقها الله تعالى، وهي أم تلك الزوجة، وقاتلها هو نفس هذا الزوج!!!.
على أن الوقائع التي تجلى فيها هذا الزواج قد أظهرت: أن بطل هذه القضية يهدف إلى الإذلال والقهر، أكثر مما يهدف إلى الإعزاز والتكريم، وتوحيد عرى الصداقة، وإظهار المحبة.
ثالثاً: إن قضية الإمامة واغتصاب مقام الرسول ليست من الأمور التي يتم التصالح فيها بمثل هذه التصرفات؛ لأنها قضية عقائدية وإيمانية بالدرجة الأولى. فما لم يتم التصرف بالقناعات، فإن الأمور لا بد أن تبقى على حالها، ولا تَنحَلّ أية مشكلة من هذا القبيل كما هو معلوم.
2 ـ وقد يحاول البعض أن يجد تفسير ما جرى في بعض النصوص التي تحدثت عن رغبة عمر في أن تكون له صلة نسبية برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وذلك من خلال الرغبة الإيمانية لديه بالإتصال بالرسول، وتنفيذ ما سمعه منه (صلى الله عليه وآله)، انطلاقاً من الحرص على نيل هذا المقام التقوائي، ورغبة بالثواب الأخروي.
ونقول:
أولاً: إن ذلك أيضاً لا يتلاءم مع التهديد بارتكاب جرائم بحق المقدسات، والإفتراء على علي لقطع يده أو قتله.
ولا يبرر الإلحاح على علي (عليه السلام) إلى درجة الإحراج، ثم تكذيبه واتهامه، فإن التقوى والورع لا يلتقيان مع مثل هذه الأساليب في شيء..
ثانياً: إن تقوى إنسان لا تجعل له حقاً في عرض ولا في كرامة غيره، ولا تبرر له إحراج إنسان آخر. وإسقاط حقوقه وإذلاله.
وهل تتبدل حقوق الناس بحسب أهواء ورغبات هذا التقي أو ذاك؟!
3 ـ إن الأقرب إلى الاعتبار هو أن يجاب بما يلي:
إن ما يريده عمر بهذا الزواج لا بد أن يكون في خطورته وأهميته بالنسبة إليه بدرجة يوازي عنده قتل علي (عليه السلام)، وتدمير المقدسات. وذلك لا يكون إلا أمراً مصيرياً وخطيراً جداً كما قلنا..
ولا نجد ما يصلح مبرراً لذلك إلا القول بأن عمر كان يفكر في مصير الخلافة من بعده، وإلى من تؤول، وهو مدى قوة من تؤول إليه في الإمساك بها.. أي إنه كان يريد بهذا الزواج أن يركزها في ذريته هو على أساس أن تستمر فيهم بصورة أقوى، وأشد رسوخاًً وتجذراً، حيث يكون تعامل الناس معها من موقع التقديس، والإلتزام الديني، والعاطفي، والوجداني، حين يكون الخليفة هو ابن بنت نبيهم، ويريد - حسب دعواه - أن يحكمهم باسم الشرع، ويقوم بمهمات النبي الأقدس(صلى الله عليه وآله)..
ويجتمع ويتلاقى بذلك الغرور القومي، مع العصبية العرقية ثم يندمج بالتقديس الديني، والواجب الشرعي، ويقوي بعضها بعضا في الإمساك بهذا الأمر بقوة.
وبذلك يتم إسقاط مطالبات علي (عليه السلام) وآل علي عن صلاحية التأثير على الناس، ولا يبقي لها تلك الفاعلية، وتتلاشى ـ بالتدريج ـ دعوتهم، وتتضاءل هممهم، وينتهي أمرهم.
وهذا غاية ما يتمناه، وأقصى ما يسعى إليه. ولأجل ذلك كان التهديد، وللوصول إلى هذه الغايات كان الإصرار..
ولعل احتجاجه بحديث كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي يستطيع أن يمنحنا إشارة إلى رغبته في مولود يحمل تلك الصفة التي هي الأساس في هذا التفكير..
لكن صغر سن أم كلثوم، وسياسات عمر العنصرية، وحقده القوي على غير العرب، وشدته عليهم، قد هدم كل ما بناه من آمال وما خطط له من سياسات، حيث قطع الطريق عليه أبو لؤلؤة، حين عاجله بطعناته النافذة التي أودت بحياته، قبل أن يتمكن من أن يتبع خطواته الأولى بأية خطوة أخرى في هذا السبيل.


____________
(1) قول عمر: إن النبي ليهجر، أو - بصورة أخف - قال كلمة معناها غلب عليه الوجع، مذكورة في مصادر كثيرة جداً، نذكر منها ما يلي:
الإيضاح ص359 وتذكرة الخواص ص62 وسر العالمين ص21 وصحيح البخاري ج3 ص60 وج4 ص5 و133 وج1 ص21 و22 وج2 ص115 والبداية والنهاية ج5 ص227 و251 والبدء والتاريخ ج5 ص95 والملل والنحل ج1 ص22 والطبقات الكبرى ج2 ص244 ط صادر، وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص192 و193 والكامل في التاريخ ج2 ص320 وأنساب الأشراف ج1 ص562 وشرح النهج للمعتزلي ج6 ص51 وتاريخ الخميس ج1 ص164 وصحيح مسلم ج5 ص75 ومسند أحمد ج1 ص222 و336 و324 و32 و355 و62 وج3 ص346 والسيرة الحلبية ج3 ص344 ونهج الحق 273.
وراجع: حق اليقين ج1 ص181 و182 ودلائل الصدق ج3 قسم1 ص63 - 70 والصراط المستقيم ج3 ص3 - 7 والمراجعات ص353 والنص والاجتهاد ص149 و163 وتاريخ الإسلام ج2 ص384 و383 والمصنف للصنعاني ج6 ص57 وج10 ص361 وج5 ص438 وعمدة القارئ ج14 ص398 وج2 ص170 و171 وج25 ص76 والبحار ج22 ص498 و468 و472، وج36 ص277 والإرشاد للمفيد ص107 وراجع الغيبة للنعماني ص81 و82 وفتح الباري ج8 ص101 و100 و102 و186 و187 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 قسم2 ص62 وأشار إليه في التراتيب الإدارية ج2 ص241 وإثبات الهداة ج1 ص657 وكشف المحجة ص64 وبهج الصباغـة ج4 ص245 و381 والطرائف ص432 و433 وقاموس الرجال ج7 ص189 وج6 ص398 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص235 و236 وراجع: كنز العمال ج7 ص170.
(2) راجع نصوص ومصادر ذلك في كتابنا: مأساة الزهراء، شبهات وردود، المجلد الثاني.