مع علماء الوهابيّة
الشؤون الدينية:
وأثناء عودتي من كلية الشريعة مر السائق بحي يدعى محلة الزاهر، وهو من الأحياء الحديثة بشوارعه، وبناياته، وأشجاره، وحدائقه، ورأيت في هذا الحي بوابة كبيرة فوقها لوحة كتب عليها بالخط الكبير «ادارة التفتيش الديني»، فطلبت الى السائق ان يقف أمام البوابة، وينتظر، وكانت البوابة مفتوحة، ولما دخلت رأيت حديقة منسقة على الطراز الحديث، يحيط بها سور بعلو قامة الرجل، وبناية كبيرة من طابق أرضي، وبابها مفتوح، فدخلت دون ان اطرق الباب، واذا بدار واسعة، وفيها غرف مفتحة الأبواب، نظرت في غرفة على يمين الداخل، فلم أر أحداً، فتركتها الى الثانية، وفيها رجل واحد، وما أن رآني، حتى قال: هناك هناك وأشار الى غرفة على اليسار.
دخلت هذه الغرفة، واذا بأربعة رجال، او خمسة، وبعد ان سلمت، واستقر بي الجلوس قلت: أنا لبناني، وقد اتيت للحج، وأرغب في التعرف على الهيئات الدينية، وأعمالها، فماذا تعنون بالتفتيش الديني؟. وهل تبحثون عن دين الانسان، وماذا يعتقد، فتقومونه ان كان اعتقاده معوجاً؟.
قال أحدهم، وهو المدير العام، واسمه الشيخ محمد بن عبد الله آل الشيخ، وأخوه وزير المعارف، قال: كلا، بل نربي النشء في المدارس على عقيدة الاسلام وأخلاقه،
وننظر الكتب التي تدرس هذه المادة، ونشرف على سير اساتذها ونشاطهم.
قلت: هذا حسن، ولكن المهم هو الاسلوب، وصواب الفكرة، وابراز الدين بصورة تسير مع الحياة، حتى يرغب فيه الصغير والكبير، ولا شيء يقف في طريق الغاية المنشودة من الدين كالتعصب، فأرجو ان لا تذهلوا عن هذه الحقيقة، وقبل ان انهي حديثي التفت احد الحضور، وإسمه الشيخ علي معجل، وهو مفتش في هذه الادارة، التفت الى المدير، وطلب اليه ان يدع له الجواب، كأنه يريد النزال والقتال، ويسأل رئيسه الأذن بالمبارزة، وقال لي: ماذا تعني بالتعصب؟.
قلت: ان المسلمين اخوان على دين واحد والاختلافات التي بينهم ليست جوهرية، وقد عنيت بترك التعصب ان لا تكفر انت ولا غيرك من نطق وآمن بكلمة التوحيد، كما هو المعروف والمشهور عن الوهابيين انهم يكفرون غيرهم، لا لشيء الا لانه غير وهابي.
قال: ولكن يجب على المسلم ان يؤمن بكلمة التوحيد بحقها.
قلت: حقها معروف، وهو الايمان بالجنان، والاقرار باللسان، والعمل بالأركان، والأركان هي الصوم ولصلاة، والحج والزكاة، وكل المسلمين يصومون ويصلون، ويحجون ويزكون.
قال: هناك شيء آخر.
فأومأ اليه المدير بالسكوت، فسكت، وتمنيت لو تركه في حديثه، لا عرف ماذا يريد من الشيءالآخر؟. وأعرفه مكانه من العلم والمنطق.. واظن انه قصد بالشيء الآخر تعمير القبور وزيارتها والصلاة عندها.. ومهما يكن، فسيأتي الحديث عنها مفصلاً. ثم قام المدير من مكانه، وجلس إلى جانبي، وقال بالحرف، وبكل تواضع: ان ما تقوله هو الحق، اجل، نحن اخوان، ويشهد الله اننا نكره التعصب والمتعصبين، ولكن الدعايات هي التي تلفق وتختلق.. ثم قال لي المدير: نحن بخدمتك، وخدمة كل حاج معك، مرنا بما شئت. قلت: شكراً، لا شيء سوى التعرف بكم.. وما رأيت احداً في مكة المكرمة بخلقه وتواضعه، لذا نظرت اليه مستغرباً، وقلت: من اين أنت؟ قلت هذا، وأنا علم انه نجدي وهابي. فضحك بمليء فمه، وقال: انا نجدي وهابي متعصب. وحين أردت الخروج عرض عليّ أن يوصلني بسيارته إلى حيث اريد، فشكرته، وقلت: معي سيارة، فرافقني، حتى ركبت، وحين الوداع سألني عن اسمي وعنواني الكامل؟ قلت: وما يعنيك من امري؟ قال: انا اصطاف بلبنان، وعزمي على زيارتكم.
قلت: اذن، اخسر فنجان قهوة، ولست مستعداً لذلك.
قال: اجل، ومعه فنجان شاي ايضاً.
قلت: هذا ادعي الى الكتمان.. ثم سألني اين اقصد؟. قلت الى الشيخ عبد الله خياط، وهو مستشار في وزارة المعارف، وامام الجماعة والجمعة وخطيبها في الحرم المكي الشريف.
قال لي المدير: اياك ان تقول له: انا جعفري. قلت: أترك الأمر للمقتضيات والمناسبات، ثم ودعته شاكراً بعد أن رأيت فيه المرونة والتعقل، ولو كنت مكان المسؤولين في السعودية لاخترته سفيراً لدى الحكومات الكبرى.