لابد للباحث عن الحقيقة، من معاناة البحث مهما تكثّرت المصاعب مما يعترض طريقه، وحديث: (لا نورّث ما تركنا صدقة) الذي رواه أبو بكر محتجاً به دفع مطالبة الزهراء (عليها السلام) بفدك نحلة وميراثاً، قد جرى عليه تحوير وتزوير، سواء في رواته أو روايته، وحتى فيما جرى الإختلاف والنقاش في قراءته.
ومهما تهضّمنا تزوير الرواة عدداً، فلا يسعنا ذلك في تعدد روايته، ولابدّ لنا من استبيان الصحيح في قراءته؛ لأنّ الإختلاف بين أنصار الخلافة وأنصار الإمامة، أحدث جدلاً في الحوار العقائدي، لا تزال مصادر التراث عند الطرفين تحتفظ بنماذج تتأرجح بين المكابرة والمصابرة، ويجد الباحث ذلك جليّاً عند من قرأ كلمة (صدقةٌ) بالرفع، كما هو شأن أنصار الخلافة ليتم لهم ما أراد أبو بكر من حجة الدفع، أمّا من قرأ الكلمة (صدقةً) بالنصب، كما هو شأن أنصار الإمامة ليتم لهم ما أرادوا من دفع الدفع.
وهكذا بقيت المكابرة تدفعها المصابرة في حدود الحوار العلمي، ولم يكن الاختلاف وليد ساعة رواية من رواه، بل حدث بعد زمان خلافته، حيث نشط علماء الكلام من مدرسة الخلافة في توجيه قراءته بإعرابه بالرفع، ليرفعوا عنهم إصر الدفع، فكان من الطبيعي أن ينبري علماء الكلام من أنصار الإمامة إلى الرد على أولئك بتقريب قراءة النَصب لدفع حدة أهل النُصب، وهذا ما أسعر نار الخصام بين علماء الكلام، وسرى أوارها إلى علماء الحديث من أنصار الخلافة، ولا يبعد أن تكون السياسة دسّت أنفها في توسيع الفجوة.
ولو أردنا أن نفحص التراث السني بحثاً عن الصحيح في القراءة، سنجد سيلاً من صور الحديث المختلفة مع وحدة الراوي ووحدة السبب، وهذا مما يبعث على العجب، وقد يفاجأ القارئ إذا أحيط علماً بأنّ صور الحديث تجاوزت العشرة، وهو حديث واحد رواه أبو بكر، فمن أين جاء الاختلاف في الرواية بين روايات كتب الصحاح والسنن والمسانيد والتاريخ والسيرة؟
والجواب ببساطة: إنّما جاء من الرواة من بعد أبي بكر، فكلّما سمعوا نقداً له في دلالته، وضعوا ما يسدّ الثغرة ولو بتحوير في قراءته، ولما كان استعراض جميع التراث السني التي ذكرت الحديث بصوره المختلفة يحتاج وقتاً طويلاً، فسأكتفي بعرض صور الحديث المختلفة في كتابين، هما عند أنصار الخلافة من خيرة الصحاح، وما ورد فيهما معاً محكوم عليه بالصحة عندهم، والحديث الذي يرد فيهما معاً يقولوا عنه: متفق عليه ولا مجال لردّه؛ لأنّه أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين، والصيد كل الصيد في جوف الفراء.
فنقول: لقد ورد الحديث في صحيح البخاري في عدة مواضع نافت العشرة، كما ورد في صحيح مسلم في خمسة مواضع، وقد اختلفت صور الحديث فيهما اختلافاً بيّناً يوهن الاحتجاج بالحديث، ويكشف عن تعمّد الإبهام والإيهام لاستغفال القرّاء، وسد باب الاستيضاح والاستفهام، في وجه من يسأل، حتى ولو لم يرد الحجاج والخصام.
وإلى القارئ عرض صور الحديث عند البخاري، ومن بعد صوره عند مسلم.
وقفة ايضاح واستيضاح
- الزيارات: 615