طباعة

(... ... سنّي ) لا جزع في إقامتها

السؤال: إلى مركز الأبحاث العقائدية : أرجو أن يكون الاستدلال عن طريق كتب أهل السنّة ، لماذا الشيعة يحيون ذكرى شهادة الحسين ؟ أليس هذا من الجزع ؟
الجواب : كأنّك تريد أن تقول : إنّ العزاء جزع ، والجزع منهي عنه ، فالعزاء منهي عنه .
وهذا الاستدلال فاسد من حيث سقوط صغراه ، وذلك : إنّ العزاء ومأتم الحسين (عليه السلام) هو عبارة عن ذكر الإمام الحسين ، وذكر فضائله ومقامه ، ثمّ العروج على واقعة الطفّ ، وإظهار الحزن وذرف الدموع عليه .
فإذا كان العزاء هو ذلك ، فنأتي إلى مفرداته ، فالمفردة الأُولى هي ذكر فضائل الحسين ، والصفات المعنوية التي تحلّى بها ، وهذا ليس فيه شيء مخالف للدين ، وليس فيه نهي ، بل هو أمر مشروع ، وطبق الموازين الشرعية ، فافتح ترجمة أي شخص دون الحسين (عليه السلام) من كتب التراجم لدى السنّة والشيعة ، تجده يبدأ بذكر فضائل المترجم له ، إن كانت له فضائل ، فهذا الذهبي تحت ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) يقول : " الإمام الشريف الكامل ، سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وريحانته في الدنيا ، ومحبوبه ، أبو عبد الله الحسين بن أمير المؤمنين ... " (1) ، ثمّ أخذ بذكر مناقبه .
وأمّا واقعة الطفّ فقد ذكرها النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وتألّما وبكيا لذكرها ، وهاك بعض الروايات الصحيحة من حيث السند حتّى على مباني السلفية ؟
عن أبي أُمامة قال : " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنسائه : " لا تُبكُّوا هذا الصبيّ " يعني حسيناً وكان يوم أُمّ سلمة ، فنزل جبرائيل (عليه السلام) فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الداخل وقال لأُمّ سلمة : " لا تدعي أحداً يدخل بيتي " ، فجاء الحسين فلمّا نظر إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) في البيت ، أراد أن يدخل ، فأخذته أُمّ سلمة فاحتضنته ، وجعلت تناغيه وتسكنه ، فلمّا اشتدّ في البكاء خلّت عنه ، فدخل حتّى جلس في حجر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فقال جبرائيل (عليه السلام) : " إنّ أُمّتك ستقتل ابنك هذا " ، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): " يقتلونه وهم مؤمنون بي " ؟ قال : " نعم يقتلونه " ، فتناول جبرائيل تربة ... " (2) .
وقال الذهبي : " وإسناده حسن " (3) .
وأخرج الطبراني بسنده ورجاله ثقات في " المعجم الكبير " في ترجمة الحسين (عليه السلام) عن أُمّ سلمة قالت : " كان الحسن والحسين (رضي الله عنهما) يلعبان بين يدي النبيّ (صلى الله عليه وآله) في بيتي ، فنزل جبرائيل (عليه السلام) فقال : " يا محمّد إنّ أُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك " ، فأومأ بيده إلى الحسين ، فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وضمّه إلى صدره ، ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " وديعة عندك هذه التربة " ، فشمّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقال : " ريح كرب وبلاء " .
قالت : وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " يا أُمّ سلمة إذا تحوّلت هذه التربة دماً ، فاعلمي أنّ ابني قد قتل " ، قال : فجعلتها أُمّ سلمة في قارورة ، ثمّ جعلت تنظر إليها كلّ يوم ، وتقول : إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيم " (4) .
وأخرج الحديث غير الطبراني أيضاً (5) .
وقال الصنعاني : ( أخبرنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه ، قال : قالت أُمّ سلمة : كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) نائماً في بيتي ، فجاء حسين يدرج ، فقعدت على الباب فأمسكته مخافة أن يدخل فيوقظه ، قالت : ثمّ غفلت في شيء ، فدبّ فدخل فقعد على بطنه ، قالت : فسمعت نحيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فجئت فقلت : يا رسول الله ، والله ما علمت به ، فقال : " إنّما جاءني جبرائيل ، وهو على بطني قاعد ، فقال لي : أتحبه ؟ فقلت : نعم ، قال : إنّ أُمّتك ستقتله ، ألا أُريك التربة التي يقتل بها " ؟
قال : " قلت : بلى " .
قال : " فضرب بجناحه فأتاني بهذه التربة " .
قالت : فإذا في يده تربة حمراء وهو يبكي ، ويقول : " يا ليت شعري من يقتلك بعدي " ) (6) .
وأخرج الطبراني بسنده ورجاله ثقات عن أُمّ سلمة قالت : ( كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالساً ذات يوم في بيتي ، فقال : " لا يدخل عليّ أحد " فانتظرت فدخل الحسين (رضي الله عنه) ، فسمعت نشيج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبكي ، فاطلعت فإذا حسين في حجره ، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) يمسح جبينه وهو يبكي ، فقلت : والله ما علمت حين دخل ، فقال : " إنّ جبرائيل (عليه السلام) كان معنا في البيت ، فقال : تحبّه ؟ فقلت : أمّا من الدنيا فنعم ، قال : إنّ أُمّتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء " ، فتناول جبرائيل (عليه السلام) من تربتها ، فأراها النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
فلمّا أُحيط بحسين حين قتل ، قال : " ما اسم هذه الأرض " ؟ قالوا : كربلاء ، قال : " صدق الله ورسوله ، أرض كرب وبلاء " ) (7) .
وأخرجه الهيثمي في " مجمع الزوائد " وقال : " رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات " (8) .
وكذلك أقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) المأتم والعزاء على الحسين في بيت عائشة ، كما أخرجه الطبراني بسند صحيح ، وأحمد في مسنده (9) .
وأقام مأتم الحزن والبكاء عليه في بيت السيّدة فاطمة (عليها السلام) ، كما في " مقتل الخوارزمي " (10) .
وهناك الكثير من الروايات التي تشير إلى :
1-إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بكى وحزن على الحسين (عليه السلام) ، وأقام عليه العزاء والمأتم في بيوت نسائه ، بل وأمام جمع من الصحابة ، بل وأقام له المأتم منذ أوّل يوم من ولادته ، كما أخرجه الهيثمي في مجمعه بسند صحيح وغيره (11) .
2-الأخبار الكثيرة التي تنصّ على أنّ جبرائيل (عليه السلام) أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأنّ أُمّته ستقتل الحسين (عليه السلام) ، وجاءه بتربة من أرض كربلاء ، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) شمّها واستنشق منها رائحة دم ابنه الحسين الشهيد .
3-أعطى (صلى الله عليه وآله) لبعض زوجاته تربة الحسين (عليه السلام) ، وأنّها عرفت مقتله من تحوّل لون تلك التربة إلى دم عبيطاً في يوم العاشر (12) .
وعن الزهري قال : قال لي عبد الملك : أيّ واحد أنت إن أعلمتني أيّ علامة كانت يوم قتل الحسين ؟ فقال : قلت : لم ترفع حصاة ببيت المقدس إلاّ وجد تحتها دم عبيط ، فقال عبد الملك : إنّي وإيّاك في هذا الحديث لقرينان .
قال الهيثمي : " رواه الطبراني ورجاله ثقات " (13) .
وعن الزهري قال : ما رفع بالشام حجر يوم قتل الحسين بن علي إلاّ عن دم .
قال الهيثمي : " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح " (14) .
وعن أبي قبيل قال : لمّا قتل الحسين بن علي انكسفت الشمس كسفة حتّى بدت الكواكب نصف النهار حتّى ظننّا أنّها هي.
قال الهيثمي : " رواه الطبراني وإسناده حسن " (15) .
بل نجد أوسع صور العزاء والحزن تظهر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كربلاء عند قتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، فهذا ابن عبّاس يقول : رأيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم ينتقطه ... فقلت : ما هذا ؟
قال : " دم الحسين وأصحابه ، فلم أزل أتتبعه منذ اليوم " .
قال الهيثمي : " رواه أحمد والطبراني ورجاله أحمد رجال الصحيح " (16) .
فإذاً لا يوجد أيّ مانع شرعي من إقامة المأتم الحسيني ، بل في إقامته أسوة واقتداء بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، إذ هو المقيم له والقائم عليه ، كما أسلفنا من خلال الروايات الصحيحة الواردة من طرق أهل السنّة ، وعليه فتسقط المقدّمة الأُولى ، وهي كون البكاء والمأتم نوع من الجزع ، ولا يبقى لها مكان تجلس عليه ، علاوة على المناقشة في كون البكاء في المأتم ، هل هو يصدق عليه جزع أم لا ، والصحيح أنّه لا ، لكن لا مجال لبيان ذلك .


______________
1- سير أعلام النبلاء 3 / 280 .
2- المعجم الكبير 8 / 285 ، مجمع الزوائد 9 / 189 ، تاريخ مدينة دمشق 14 / 191 ، سبل الهدى والرشاد 11 / 74 .
3- سير أعلام النبلاء 3 / 289 .
4- المعجم الكبير 3 / 108 .
5- تاريخ مدينة دمشق 14 / 192 ، مجمع الزوائد 9 / 189 ، تهذيب الكمال 6 / 408 ، تهذيب التهذيب 2 / 300 .
6- المنتخب من مسند الصنعاني : 443 .
7- المعجم الكبير 3 / 109 .
8- معجم الزوائد 9 / 189 .
9- المعجم الكبير 3 / 107 ، مسند أحمد 6 / 294 .
10- مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 242 .
11- مجمع الزوائد 9 / 187 .
12- المصدر السابق 9 / 189 .
13- المصدر السابق 9 / 196 .
14- المصدر السابق 9 / 196 .
15- المصدر السابق 9 / 197 .
16- المصدر السابق 9 / 193 .