السؤال : ما هي أدلّة الوهابيّة على حرمة البناء على القبور ، وكيف يتمّ الردّ عليها ؟
الجواب : إنّ الأدلّة التي تمسّك بها الوهابيّون على تحريم البناء على القبور ، هي :
1ـ إجماع العلماء قائم على عدم جواز البناء على القبور .
وفيه : أنّ دعوى الإجماع مرفوضة ، باعتبارها مخالفة لكلمات العلماء الدالّة على جواز البناء ، بل رجحانه ، ومخالفة لعمل المسلمين وسيرتهم القطعية في جميع الأقطار والأمصار ، على اختلاف طبقاتهم ، وتباين نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى يومنا هذا ، من العلماء وغيرهم ، من الشيعة والسنّة وغيرهم ، وأيّ بلاد من بلاد الإسلام ليس لها جبّانة ، فيها القبور المشيّدة ؟!
فهؤلاء أئمّة المذاهب : الشافعيّ في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم سامقة المباني ، شاهقة القباب ، وأحمد بن حنبل كان له قبر مشيّد في بغداد ، جرفه شط دجلة حتّى قيل : أطبق البحر على البحر .
وكلّ تلك القبور قد شيّدت ، وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء ، وأرباب الفتوى ، وزعماء المذاهب ، فما أنكر منهم ناكر ، بل كلّ منهم محبّذ وشاكر .
وليس هذا من خواص الإسلام ، بل هو جار في جميع الملل والأديان ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، بل هو من غرائز البشر ، ومقتضيات الحضارة والعمران ، وشارات التمدّن والرقي . والدين القويم المتكفّل بسعادة الدارين ، إذا كان لا يؤكّده ويحكمه ، فما هو بالذي ينقضه ويهدمه . ألا يكفي هذا شاهداً قاطعاً ، ودليلاً بيّناً على فساد دعوى الإجماع ؟
2ـ ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) بأنّه قال لابن إلهيّاج الأسديّ : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أن لا أدع تمثالاً إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرّفاً إلاّ سوّيته ) (1) .
وفيه : ( ولا صورة في بيت إلاّ طمستها ) (2) .
وفيه : بناءً على صحّة هذه الرواية ، فهل معنى التسوية في قوله : ( إلاّ سوّيته ) أي ساويته بالأرض ، بمعنى هدمته ؟ أم معنى تسوية الشيء عبارة عن تعديل سطحه ، وتسطيحه في قبال تقعيره ، أو تحديبه أو تسنيمه ، وما أشبه ذلك من المعاني المتقاربة ؟
لاشكّ أنّ معناه : إلاّ سطّحته وعدّلته ، وليس معناه : إلاّ هدمته وساويته بالأرض .
وقد فهم مسلم في صحيحه ما فهمناه من الحديث ، حيث عنون الباب قائلاً : ( باب تسوية القبور ) ، ولم يقل مساواة القبور .
فأورد فيه أوّلاً بسنده إلى ثمامة قال : كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس ، فتوفّي صاحب لنا ، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي ، ثمّ قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمر بتسويتها (3) .
ثمّ أورد بعده في نفس هذا الباب حديث أبي إلهيّاج المتقدّم : ( ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته ) .
وكذا فهم شارحو صحيح مسلم ـ وإمامهم النوويّ ـ ذلك ، حيث قال في شرح تلك العبارة ما نصّه : ( إنّ السنّة أنّ القبر لا يرفع على الأرض رفعاً كثيراً ، ولا يسنّم ، بل يرفع نحو شبر ويسطّح ، وهذا مذهب الشافعيّ ومن وافقه ، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أنّ الأفضل عندهم تسنيمها ) (4) .
ويشهد لأفضلية التسنيم ، ما رواه البخاريّ في صحيحه ، في باب صفة قبر النبيّ وأبي بكر وعمر ، بسنده إلى سفيان التمّار ، أنّه رأى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) مسنّماً (5) .
ولكن القسطلانيّ أحد المشاهير من شارحي البخاريّ قال ما نصّه : مسنّماً بضمّ الميم ، وتشديد النون المفتوحة ، أي : مرتفعاً ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر ، وعمر كذلك . واستدلّ به على : أنّ المستحبّ تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، والمزني ، وكثير من الشافعيّة .
إلى أن قال القسطلانيّ : ولا يؤثّر في أفضلية التسطيح كونه صار شعاراً لروافض ، لأنّ السنّة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ، ولا يخالف ذلك قول علي : ( أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا ادع قبراً مشرّفاً إلاّ سوّيته ) ، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار ? ونقله في المجموع عن الأصحاب (6) .
إذاً ، كلّ كلمات أعاظم المسلمين وأساطين الدين من مراجع الحديث ـ كالبخاريّ ومسلم ـ وأئمّة المذاهب ـ كأبي حنيفة والشافعيّ ومالك وأحمد ـ وأعلام العلماء ، وأهل الاجتهاد ـ كالنوويّ وأمثاله ـ كلّهم متّفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة ، بل النبيّ (صلى الله عليه وآله) بذاته بنى قبر ولده إبراهيم ؛ إنّما الخلاف والنزاع فيما بينهم في أنّ الأفضل والأرجح تسطيح القبر أو تسنيمه ؟
فالذاهبون إلى التسنيم يحتجّون بحديث البخاريّ عن سفيان التمّار ، أنّه رأى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) مسنّماً .
والعادلون إلى التسطيح يحتجّون بتسطيح النبيّ قبر ولده إبراهيم ، ولعلّ هذا الدليل هو الأرجح في ميزان الترجيح والتعديل ، ولا يقدح فيه أنّه صار من شعار الروافض وأهل البدع ، كما قال القسطلانيّ .
نعم ، لو أبيت إلاّ عن حمل ( سوّيته ) على معنى ساويته بالأرض ، حينئذ تجيء نوبة المعارضة ، ويلزم الصرف والتأويل ، وحيث أنّ هذا الخبر بانفراده لا يكافئ الأخبار الصحيحة الصريحة الواردة في فضل زيارة القبور ، ومشروعية بنائها ، حتّى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سطّح قبر إبراهيم ، فاللازم صرفه إلى أنّ المراد : لا تدع قبراً مشرّفاً قد اتخذوه للعبادة إلاّ سوّيته وهدّمته .
ويدلّ على هذا المعنى الأخبار الكثيرة الواردة في الصحيحين ـ البخاريّ ومسلم ـ من ذمّ اليهود والنصارى والحبشة ، حيث كانوا يتّخذون على قبور صلحائهم تمثالاً لصاحب القبر ، فيعبدونه من دون الله تعالى .
أمّا المسلمون من عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى اليوم ، فليس منهم من يعبد صاحب القبر ، وإنّما يعبدون الله وحده لا شريك له في تلك البقاع الكريمة ، المتضمّنة لتلك الأجساد الشريفة .
وبكلّ فرض وتقدير ، فالحديث يتبرّأ أشدّ البراءة من الدلالة على جواز هدم القبور ، فكيف بالوجوب . والأخبار التي ما عليها غبار ناطقة بمشروعية بنائها وإشادتها ، وأنّها من تعظيم شعائر الله .
ولتتميم الفائدة ، ننقل ما قاله الشيخ كاشف الغطاء في كتابه منهج الرشاد :
والأصل في بناء القباب وتعميرها ما رواه البنانيّ ـ واعظ أهل الحجاز ـ عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه الحسين ، عن أبيه علي (عليه السلام) ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له : ( لتقتلن في أرض العراق ، وتدفن بها ، فقلت : يا رسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها ؟ فقال لي : يا أبا الحسن ، إنّ الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنّة ، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه ، وصفوة من عباده تحنّ إليكم ، ويعمّرون قبوركم ، ويكثرون زيارتها ، تقرّباً إلى الله تعالى ، ومودّة منهم لرسوله ... ) (7) .
____________
1- صحيح مسلم 3 / 61 ، مسند أحمد 1 / 96 ، المستدرك على الصحيحين 1 / 369 ، المعجم الصغير 1 / 57 .
2- سنن النسائيّ 4 / 89 ، السنن الكبرى للنسائيّ 1 / 653 ، علل الدارقطنيّ 4 / 181 .
3- صحيح مسلم 3 / 61 .
4- شرح صحيح مسلم 7 / 36 .
5- صحيح البخاريّ 2 / 107 .
6- إرشاد الساري 3 / 559 .
7- منهج الرشاد : 579 .
( حسين . البحرين . 21 سنة ) أدلّة المانعين وردّها
- الزيارات: 413