القيمومة الزوجية في نظر الاسلام :
ومرّ الكلام عن قيمومة الاب في الجاهلية وأنه هو الذي كان يقرّر مصيرهم ويتولّى تزويجهم باختياره ، تبعاً لحساباته الخاصة به ، وأن أمر البنت كان بيد والدها ، فإن مات فبيد إخوانها أو أعمامها ومنهم يخطبها الخاطب ، وواضح ما في ذلك من حدود وقيود على حقها في تقرير مصيرها بنفسها وحرية ارادتها واختيارها .
وفي الاسلام اتخذت قيمومة الرجل على المرأة وضعها القانوني بنص الاية الرابعة والثلاثين من سورة النساء بقوله تعالى : (الرجال قوّامون على النساء) أي الازواج على زوجاتهم ، ولم يقل : الاباء قوّامون على البنات ، ولا الاخوة على الاخوات ، ولا الاعمام على بنات الاخوة ، ولا كل رجل على كل امرأة ، وإنما الازواج على زوجاتهم .
وحسب مصطلحات علم الاجتماع الغربي وتصنيفه المجتمعات إلى النظام الامومي ثم النظام الابوي ، ترجع القيمومة الجاهلية إلى تقدم النظام الابوي على الانظام الامومي المفترض سابقاً ، وبالمقارنة والمقايسة المنصفة فيما بين القيمومة الابوية والزوجية في الجاهلية ، وبين القيمومة الابوية والزوجية في الاسلام ، يعرف المنصف أن الشريعة الاسلامية لم تؤكد ما كان قائماً سابقاً في الجاهلية( 42 ) ، بل هذا القول من جاهلية القرن العشرين .
والمفروض أن أحكام الطبائع ومظاهرها هي أصل القيمومة ومسوّغها، وذلك ما وردت الاشارة إليه في الاية الكريمة : (بما فضّل اللّه بعضهم على بعض) ، ولا يتحمل القرآن الكريم سوء تفسير بعض من نصب نفسه لتفسير القرآن الكريم بآرائه البشرية ، في القرن السابع الهجري ، ففسّر تخصيص الرجل بالقيمومة بتفوّقه على المرأة بـ «العقل والحزم والرأي والقوة والجهاد ، وكمال الصوم والصلاة ، والنبوة والخلافة والامامة ، والاذان والخطبة ، والجمعة والجماعة ، والشهادة في الحدود والقصاص ، وتضعيف الميراث ، وملك النكاح والطلاق ، وإليهم الانتساب ، وهم أصحاب اللحى والعمائم .. »( 43 ) ، فهل من المعقول اعتبار العمائم من الاسباب الموجبة للقيمومة ؟ ألا يكفي هذا دليلاً على الغلط ؟ .
والمتفق عليه في سبب نزول الاية عند أصحاب أسباب النزول كما أورده المفسرون ، ومنهم الشيخ الطوسي (م 460 هـ) في تفسير التبيان عن ابن جريح والحسن والسدّي وقتادة ، أن رجلاً لطم امرأته فجاءت إلى النبيّ تلتمس القصاص( 44 ) . ونقل الطبرسي في مجمع البيان عن الكلبي قال : «نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة . وعن أبي روق : نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أبي أوفى وفي زوجها ثابت بن قيس ابن شماس . وعن مقاتل قال : نزلت في سعد بن الربيع وامرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير الانصاريين ، نشزت عليه فلطمها ، فانطلقت إلى أبيها ، فانطلق معها إلى النبي فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي : لتقتصّ من زوجها ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه ، فأنزل اللّه عليه هذه الاية في منع القصاص (بينهما) ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) : أردنا أمراً وأراد اللّه أمراً ، والذي أراد اللّه خير . ارجعوهما فهذا جبرئيل أتاني وأنزل عليّ هذه الاية ، وتلا الاية»( 45 ) .
فالاية شرّعت في مجال حق الرجل في ضرب المرأة لا مطلقاً ، بل شرط ذلك بنشوزها وعدم كفاية الوعظ والهجر ، والمفسرون والفقهاء متفقون على أنه ضرب غير مبرّح ، فهو في النتيجة ليس ضرب تعذيب ، بل ضرب تأديب لحصول الطاعة (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن اللّه كان علياً كبيراً) ، فالاية اذن أباحت للرجل ضمن حقوقه ضرب امرأته ومنعت العكس ، فقد منعت الرجل أيضاً من البغي عليها في غير مخافة نشوزها عن حقوق الزوجية ، ومن التسرّع رأساً إلى «آخر الدواء الكي» من دون استفراغ وسعه بالوعظ والنصح والارشاد ، ثم الهجر في المضجع اتماماً للحجة عليها. فمنع المرأة من المعاملة بالمثل (ان تقابله بالضرب) ، يقابله منع الرجل من الضرب المتسرّع غير المتدرّج إليه بعد الوعظ والهجر . والاية في موردها عتبت على المرأة في مطالبتها من زوجها القصاص ، وعتبت على زوجها تسرّعه إلى الضرب إن لم يكن قد راعى تدرّج المراتب ، انصافاً بينهما ، أليس كذلك ؟! .
ولعدم ورود نصوص قاطعة تقنينية تفصيلية لمظاهر القيمومة والنشوز ، اختلف الفقهاء في التفاصيل ، بعد اتفاقهم على انتقاض طاعة الرجل فيما إذا تضمّن أمره معصية ، كأن يحملها على البغاء والزنى ، أو يأمرها بترك الصلاة ، ونسج الغزالي صيغة مغلقة لها ضمن آدابه في كتاب النكاح من الاحياء حيث قال : « النكاح نوع رقّ ، فهي رقيقة له ، فعليها طاعة الزوج مطلقاً في كل ما طلب منها في نفسها مما لا معصية فيه »( 46 ) ، ولعل الغزالي وضع هذه الصيغة المغلقة متأثراً بدونية المرأة لدى بعض اللغويين القدماء ، أما القرآن فقد قال : (ولا تز وازرة وزر اخرى)( 47 ) ، فلا يزر القرآن والاسلام وزر لغة العرب القدماء ، ولا ما تأثر بها من صيغ الغزالي المغلقة ، ويكفينا جواباً عليه من القرآن الكريم قوله سبحانه : (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف)( 48 ) ، وليس الغزالي كل الفقهاء ، ولا فتواه هو القول الفصل، إن لم يكن هنا أقرب إلى الهزل .
وإذا استمعنا إلى هذا القول من الغزالي ، فلنستمع قولاً آخر للعلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان ، فنتّبع أحسنهما : قال : «وليست قيمومة الرجل على زوجته بأن لا تنفذ لها فيما تملكه ارادة ولا تصرف ، ولا ألاّ تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية والاجتماعية ، والدفاع عنها والتوصل إليها بمقدماتها الموصلة ، بل معناها أن عليها أن تطاوعه فيما يرتبط بالمباشرة والاستمتاع حضوراً ، وتحفظ غيبته فلا تخونه بأن تمتّع غيره من نفسها ما ليس له منها ، ولا تخونه فيما وضعه تحت يدها من ماله وسلّطها عليه في الحياة المنزلية والزوجية المشتركة : (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ اللّه)( 49 ).
وحق الزوج في طلاق زوجته ليس من جملة مظاهر قيمومة الرجل على امرأته( 50 ) ، ولا من تفريعاته( 51 ) ، وإنما هو حق مستقل لقولهم(عليهم السلام) : « الطلاق بيد الرجل »( 52 ) .
________________________________________
(38) وسائل الشيعة 20:69، ب 26، عن الكافي والفقيه والتهذيب، ط. آل البيت.
(39) راجع مجلة الهادي، ع 5، السنة الرابعة، مقال الكفاءة الزوجية في الاسلام لمحمد هادي اليوسفي الغروي.
(40) النساء:23 ـ 24.
(41) المقال السابق في مجلة النهج السورية : 28.
(42) م . ن : 18 .
(43) م . ن .
(44) التبيان 3 : 189.
(45) مجمع البيان 3:68.
(46) إحياء علوم الدين، كتاب آداب النكاح.
(47) فاطر : 18 .
(48) البقرة : 234 .
(49) الميزان 4:344 ط. بيروت، والاية 34 من النساء.
(50) المقال السابق في مجلة النهج السورية: 26.
(51) م . ن : 18 .
(52) وسائل الشيعة 22: 98، ب 41، ط. آل البيت.