السؤال : فيما يلي موضوع أحسبه نشر جديداً ، ولم أجد في الإنترنت ، أو فيما بين يدي جواباً مُعدّاً عليه ، وقد طرح هذه السؤال جديداً في أكثر من منتدى حوار ، أرجو أن تساهموا في الإجابة عليه ، وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين ألف خير.
علماً أنّ تأخّركم عن الإجابة قد يقلّل من أهمّيتها وقيمتها ، وتحيّاتي إلى كلّ العامليّن في المركز ، لاسيّما الأخ المحقّق الشيخ فارس الحسّون ، والإخوة الكتّاب والمحقّقين في المركز .
نصّ الشبهة : علم الحديث عند الرافضة .
من المعروف أنّ أيّ مذهب ـ سواءً كان فقهيّاً أو اعتقادياً ـ يعتمد على الأحاديث في تحديد أحكامه وعقائده ، حتّى في تفسير القرآن ، فإنّ المذاهب تعتمد على أحاديث أسباب النزول وتفسير الآيات .
وأهل السنّة والجماعة ـ عمالقة الحديث وعظماء الجرح والتعديل ـ قاموا بوضع أُسس وقواعد غاية في الدقّة لجمع الأحاديث وتصحيحها ، فبنوا معتقداتهم ومذهبهم على الصحيح فقط من الأحاديث .
وسنبيّن في هذا البحث إن شاء الله : أنّ الشيعة ليس لهم علم معتبر في جمع الأحاديث ، إنّما بنوا مذهبهم على الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة من قبل فاسدين المذاهب ، وأصحاب الفتن والكذّابين ، فلا يعرف صحيحهم من ضعيفهم ، ولا يعرف مصدر عقائدهم ولا شرائعهم ، بل هو دين إعلاميّ تطوّر عبر الزمن من كثرة الأحاديث الموضوعة فيه .
الجرح والتعديل عند الشيعة :
لم يكن للشيعة كتاب في أحوال الرجال حتّى ألّف الكاشانيّ في المائة الرابعة كتاباً لهم في ذلك ، وهو كتاب غاية في الاختصار ، وقد أورد فيه أخباراً متعارضة في الجرح والتعديل ، وليس في كتب رجالهم الموجودة إلاّ حال بعض رواتهم ، كما أنّ المتتبع لأخبار رجالهم يجد أنّه كثيراً يوقع غلط واشتباه في أسماء الرجال ، أو آبائهم أو كناهم أو ألقابهم .
وقد كان التأليف في أُصول الحديث وعلومه معدوماً عندهم ، حتّى ظهر زين الدين العامليّ الملقّب عندهم بالشهيد الثاني ، المتوفّى سنة 965 هـ .
فيقول شيخهم الحائريّ : ومن المعلومات التي لا يشكّ فيها أحد أنّه لم يصنّف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني ـ مقتبس الأثر 3 / 73 ـ .
فتصوّروا معي يا إخوة ، علم الحديث يؤلّف فيه في القرن التاسع من الهجرة ، فالزمن الذي سبق هذا (900 سنة) يتعبّد الناس بأحاديث لا يعرف صحّتها من ضعفها ؟! فعلام قام هذا المذهب يا ترى ؟ وقد كثر الوضع على رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والأئمّة من بعده في العصور المتقدّمة !! حتّى علم الجرح
والتعديل المستحدث فيه تناقضات واختلافات ما الله بها عليم ، حتّى قال شيخهم الفيض الكاشانيّ : في الجرح والتعديل وشرايطهما اختلافات وتناقضات واشتباهات لا تكاد ترتفع بما تطمئن إليه النفوس كما لا يخفى على الخبير بها ـ الوافي 1 / 11 ـ .
فإذا كان هذا اعتراف شيخ الجرح والتعديل عندهم ؟ فهل نثق نحن في أحاديث القوم ؟ واسمعوا معي الآن المصيبة الكبرى : يقول الحرّ العامليّ معرّفاً الحديث الصحيح : ( بل يستلزم ضعف الأحاديث كلّها عند التحقيق ، لأنّ الصحيح ـ عندهم ـ : ما رواه العدل ، الإماميّ ، الضابط ، في جميع الطبقات ) .
ولم ينصّوا على عدالة أحد من الرواة إلاّ نادراً ، وإنّما نصّوا على التوثيق ، وهو لا يستلزم العدالة قطعاً ، بل بينهما عموم من وجه ، كما صرّح به الشهيد الثاني وغيره .
ودعوى بعض المتأخّرين : أنّ الثقة بمعنى العدل الضابط ممنوعة ، وهو مطالب بدليلها .
وكيف ؟ وهم مصرّحون بخلافها ، حيث يوثقون من يعتقدون فسقه ، وكفره ، وفساد مذهبه ؟! وسائل الشيعة 30 / 260 .
فنستنتج من كلام العامليّ أنّ :
1ـ أحاديث الشيعة كلّها ضعيفة .
2ـ لم ينصّ المصحّحين للأحاديث على عدالة الراوي ، إنّما نصّوا على التوثيق فقط .
3ـ وثّق العلماء الفسّاق والكفّار ، وأصحاب المذاهب الفاسدة !!
والجرح والتعديل المستحدث يلزم تخطئة جميع الطائفة حسب قول العامليّ : إنّ الاصطلاح الجديد يستلزم تخطئة جميع الطائفة المحقّة ، في زمن الأئمّة ، وفي زمن الغيبة ، كما ذكره المحقّق في أُصوله ، حيث قال : أفرط قوم في العمل بخبر الواحد ، إلى أن قال : واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقالوا : كلّ سليم السند يعمل به ، وما علم أنّ الكاذب قد يصدق ، ولم يتفطّن أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ، إذ لا مصنّف إلاّ وهو يعمل بخبر المجروح ، كما يعمل بخبر العدل ـ وسائل الشيعة 30 / 259 ـ .
فبعد هذا الكلام كلّه نعلم أنّه ليس للشيعة ناقة ولا بعير في التصحيح والتضعيف ، وأنّهم لو أرادوا إلزام أنفسهم بالصحيح فقط من أحاديثهم لصدموا بعدم وجود أحاديث صحيحة بمقاييس أهل السنّة الدقيقة للحديث الصحيح .
فلجأ علماءهم لتوثيق الكذّابين والمجاهيل للخروج من هذا المأزق ، ولأختصر على الشيعة المسافة ، أتركهم مع قول شيخهم يوسف البحرانيّ الذي لخّص الحلّ في سطور : قال يوسف البحرانيّ : الواجب إمّا الأخذ بهذه الأخبار ، كما هو عليه متقدّمو علمائنا الأبرار ، أو تحصيل دين غير هذا الدين ، وشريعة أُخرى غير هذه الشريعة لنقصانها وعدم تمامها ؛ لعدم الدليل على جملة أحكامها ، ولا أراهم يلتزمون شيئاً من الأمرين ، مع أنّه لا ثالث لهما في البيّن ، وهذا بحمد الله ظاهر لكلّ ناظر ، غير متعسّف ولا مكابر ـ لؤلؤة البحرين : 47 ـ .
إذاً فعلى الشيعيّ أن يأخذ الأحاديث كما هي دون النظر في صحّتها ، وإلاّ فليحصل دين غير هذا الدين !! لأنّه ليس كامل ولا دليل عليه !!
رجال الشيعة :
ولقد لخّص شيخ الطائفة الطوسيّ أحوال رجالهم باعتراف مهمّ ، يقول فيه : إنّ كثيراً من مصنّفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة ، ومع هذا أنّ كتبهم معتمدة ـ الفهرست للطوسي : 24 ـ .
وكما قلنا سابقاً ، يقول الحرّ العامليّ على ثقات الشيعة : يوثّقون من يعتقدون فسقه ، وكفره ، وفساد مذهبه ؟! ـ وسائل الشيعة 30 / 260 ـ .
أي وربّي ، أهؤلاء هم ثقات الرواة عند الشيعة ؟؟ وسنفرد موضوعاً آخر لاحقاً يتحدّث عن أوثق رواة الشيعة بالتفصيل ، ومدى كذبهم وفسادهم .
وقال : ومثله يأتي في رواية الثقات الأجلاء ـ كأصحاب الإجماع ، ونحوهم ـ عن الضعفاء ، والكذّابين ، والمجاهيل ، حيث يعلمون حالهم ، ويروون عنهم ، ويعملون بحديثهم ، ويشهدون بصحّته ـ وسائل الشيعة 30 / 206 ـ .
هل من عاقل يسمع ويعقل ما يقال ؟ بعد معرفتنا بحال الثقات ، نعرف الآن حال الذين روي الثقات عنهم ، وهم الضعفاء والمجاهيل بل والكذّابين !! بل يرى الحرّ العامليّ أنّ الثقات يعلمون حال هؤلاء ، ومع ذلك يصحّحون أحاديثهم .
هل بعد هذا الكلام يؤمن الأخذ من أحاديث الشيعة والتعبّد بها ؟
سبب تأليف علم الحديث عند الشيعة :
إنّ تقسيم الشيعة للأحاديث إلى صحيح وضعيف كان في القرن السابع ، كما يقول الحرّ العامليّ : إنّ هذا الاصطلاح مستحدث ، في زمان العلاّمة ، أو شيخه ، أحمد ابن طاووس ، كما هو معلوم ، وهم معترفون به ـ وسائل الشيعة 30 / 262 ـ فما السبب يا ترى في وضعهم لهذا العلم بعد أن كان مهملاً ؟
إنّ من الملاحظ ، أنّ هذا العلم ظهر عند الشيعة موافقاً لحملة شيخ الإسلام ابن تيمية في التشنيع على الشيعة ، حيث أنّ ليس لديهم علم في الرجال .
ويظهر هذا جلياً في قول العامليّ ـ إمام الجرح والتعديل عند القوم ـ : والذي لم يعلم ذلك منه ، يعلم أنّه طريق إلى رواية أصل الثقة الذي نقل الحديث منه ، والفائدة في ذكره مجرد التبرّك باتصال سلسلة المخاطبة اللسانية ، ودفع تعيير العامّة الشيعة بأنّ أحاديثهم غير معنعنة ، بل منقولة من أُصول قدمائهم ! ـ وسائل الشيعة 30 / 258 ـ .
فهنا يبيّن الحرّ العامليّ ـ الذي هو المفروض أن يكون علاّمة في الجرح والتعديل ـ أنّ وضع السند فقط لدفع اتهامات أهل السنّة والجماعة ، إنّما أصل تصحيحهم هو ناقل الحديث الثقة ، ولا يلزم ثقة المنقول عنهم !!
فعلم الحديث عندهم ما هو إلاّ تقليداً للسنّة ، وهنا الدليل :
يقول شيخهم الحائريّ : ومن المعلومات التي لا يشكّ فيها أحد أنّه لم يصنّف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني ، وإنّما هو من علوم العامّة ـ يعني بالعامّة أهل السنّة ـ مقتبس الأثر 3 / 73 .
ويقول الحرّ العامليّ : أنّ طريقة المتقدّمين مباينة لطريقة العامّة ، والاصطلاح الجديد موافق لاعتقاد العامّة ، واصطلاحهم ، بل هو مأخوذ من كتبهم كما هو ظاهر بالتتبع ، وكما يفهم من كلام الشيخ حسن ، وغيره ـ وسائل الشيعة 30 / 259 ـ .
ولعمري إنّ هذا لاعتراف خطير ، فنفهم من هذا الكلام أنّ الدافع لتأليف علم للأحاديث ليس هو الوصول إلى صحّة الحديث بقدر ما هو توقّي نقد المذهب من قبل الخصوم والدفاع .
ولهذا كثر الاختلاف : وطبعاً نتيجة لعدم التفريق بين الصحيح والضعيف ، واختلاط الحابل بالنابل في دين الاثني عشرية ، كثر الاختلاف في كتبهم ، والتناقض ، حتّى في الأُمور العقدية ، تصوّروا ؟!
فقد تألّم شيخهم محمّد بن الحسن الطوسيّ كثيراً لما آلت إليه كتبهم وأحاديثهم من التضاد والاختلاف والمنافاة والتباين ، وقال : لا يكاد يتّفق خبر إلاّ وبازائه ما يضادّه ، ولا يسلم حديث إلاّ وفي مقابلته ما ينافيه ـ تهذيب الأحكام 1 / 2 ـ .
وأيضاً الفيض الكاشانيّ صاحب الوافي اشتكى من ذلك كثيراً ، فقال : تراهم يختلفون في المسألة الواحدة على عشرين قولاً ، أو ثلاثين قولاً أو أزيد ؛ بل لو شئت أقول لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا عليها ، أو في بعض متعلّقاتها ـ الوافي المقدمة : 9 ـ .
تصوّروا يا إخوة ، قول أكبر علمائهم بأنّه لا توجد مسألة إلاّ اختلف فيها ، وكان هذا إلاّ لعدم وجود مرجع صحيح يرجعون إليه .
واسمعوا ما جاء به الكشّي : اشتكى الفيض بن المختار إلى أبي عبد الله ، قال : جعلني الله فداك ، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم ؟ فقال : ( وأي الاختلاف ) ؟ فقال : إنّي لأجلس في حلقهم بالكوفة ، فأكاد أشكّ في اختلافهم في حديثهم ... فقال أبو عبد الله : ( أجل هو ما ذكرت أنّ الناس أولعوا بالكذب علينا ، وإنّ أحدث أحدهم بالحديث ، فلا يخرج من عندي ، حتّى يتأوّله على غير تأويله ، وذلك أنّهم لا يطلبون بحديثنا وحبّنا ما عند الله ، وإنّما يطلبون الدنيا ، وكلّ يحبّ أن يدعى رأساً ) ـ اختيار معرفة الرجال : 135 ، بحار الأنوار 2 / 246 ـ .
خاتمة : إنّي أهيب بكلّ شيعي باحث عن الحقّ ، وليس التعصّب الأعمى ، أن يتأمّل هذه الحقائق .
ويعرف الأُسس التي بني عليها دينه ، وأنّ جميع الأحاديث والأخبار التي على أساسها وضع المذهب هي أخبار ضعيفة ، وأحاديث مكذوبة ، وضعها الكذّابين والفاسدين على أهل بيت النبوّة .
فكيف للشيعي أن يتأكّد من صحّة صلاته أو وضوءه ؟ أو أيّ من العبادات والتشريعات ؟ وهو لا يعرف صحيح الحديث من ضعيفه .
نرى دائماً الشيعة يستدلّون بكتب أهل السنّة والجماعة ، ولكنّهم لا يسألون أنفسهم ، لماذا يحاول مشائخهم إبعادهم عن كتب الشيعة !!
فليسأل الشيعيّ نفسه ، من ردّ على كتاب البرقعي ـ الذي كان من أقران الخمينيّ ـ عندما ضعّف جميع أحاديث الكافي مستخدماً مقاييس الشيعة في التصحيح والتضعيف ، ومستدلاً بكتب المجلسيّ ، وهذا في كتابه الذي هزّ الرافضة ـ كتاب كسر الصنم ـ وما ردّكم على كتاب : طريق الاتحاد لحيدر علي قلمداران القمّيّ ، حين عرض جميع الأدلّة على الإمامة ، ونقضها واحدة تلو الأُخرى .
وأسأل نفسك ، لماذا دخلنا في القرن الرابع عشر هجري ، ولم يؤلّف كتاب واحد يحوي الصحيح من أحاديثكم ؟ وادخلوا عليكم الأكاذيب والحيل لإبعادكم عن هذه الفكرة .
وما كان هذا إلاّ لعدم وجود أحاديث صحيحة عندكم .
نسأل الله أن يرينا الحقّ حقّاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه .
الجواب : إنّ المسائل التي ذكرت تطلب جوابهاً مستعجلاً ، ليست من المسائل الجديدة إذ لم تجد جوابها في الإنترنت ، وإنّها طروحات قديمة مغرضة ، تثار ضدّ الشيعة الإمامية بين آونة وأُخرى ، لغرض إيقاع الفرقة ، وصدّ التيار الذي بدأ يكتسح الأشواك أمامه ، حتّى بلغ السيل الربى ، فتصاعد عدد المستبصرين إلى الآلاف بفضل الوعي الإسلاميّ الصحيح ، وهذا ما يغيظ الذين هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا .
أيّها الشيخ الطالب للحقّ : اعلم أيّدك الله ورعاك ، إنّا كشيعة امامية لو فعلنا ما فعلوا لزاد النار أواراً ، لكنّنا استعملنا عقولنا ، وقلنا لهم : بيننا وبينكم كتاب الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو يقول : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }(1) ، وإن ما آتانا به الرسول وأمرنا بالتمسّك به قوله (صلى الله عليه وآله) : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً ) (2) ، وهذا هو المعروف بحديث الثقلين .
وقد صدع به (صلى الله عليه وآله) في ستّة مواطن تأكيداً على أهمّيته ، منها يوم الطائف ، ويوم عرفة ، ومسجد الخيف بمنى ، ويوم الغدير ، وقبل موته بأيّام يسيرة ، وسادسها في حجرته وقد غصّت بأصحابه ، وفي هذا الموقف قال (صلى الله عليه وآله) : ( أيّها الناس إنّي خلّفت فيكم كتاب الله وسنّتي وعترتي أهل بيتي ، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي ، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي ، أمّا أنّ ذلك لن يفترقا حتّى ألقاه على الحوض ) (3) .
فنحن والحمد لله تمسّكنا بهم ، وأخذنا بأحاديثهم ، كما أخذنا بأحاديثه (صلى الله عليه وآله) حتّى ما صحّ ذلك عنه (صلى الله عليه وآله) وعنهم (عليهم السلام) ، ولذلك موازيننا موازين العلماء لمعرفة الحقّ ، وتمييز الصحيح عن غيره كما سيأتي بيانه.
ولم نشطح كغيرنا ممّن غالا بإفراط وقال : إنّ صحيح البخاريّ أصحّ كتاب بعد كتاب الله ، وهذه المقولة تعني أنّ متون روايات البخاريّ هي في حجّيتها كحجّية ألفاظ القرآن الكريم ، إلاّ أنّها تأتي بعدها في الرتبة ، وهذه دعوى خطيرة ، والأُولى أن نسمّيها فطيرة فالآيات القرآنيّة كلّها بألفاظها قطعية الصدور ، وحجّة على المسلمين إلى يوم الدين ، أمّا روايات البخاريّ فإنّها أخبار آحاد ، فهي ظنّية الصدور فضلاً عن دلالتها ، وأغلبها مرويّ بالمعنى ، وكثيراً منها ما قطّعه البخاريّ ، فتجد الحديث الواحد مروياً في عدّة أبواب ، وعدّة كتب يختلف زيادة ونقصاناً ، مع اتحاد الراوي ، على أنّا لو وافقناهم في تسمية صحيح البخاريّ بالجامع للأحاديث النبويّة بتمام معنى الكلمة ، لتخلّف عن ذلك المعنى الدقيق في عرضه الحوادث والسير والمغازي ومواقف صحابية ، بل وحتّى أحاديث النساء ، مثل قصّة أُمّ زرع وأبي زرع ، فأين هذا من الحديث النبويّ الشريف .
إذاً ، فتصوّر عصمة متون صحيح البخاريّ تصوّر عاميّ خاطئ ، وقد ردّ ذلك غير واحد من أعلام أهل السنّة المحدثين فضلاً عن المتقدّمين من محمّد رشد رضا صاحب المنار ، وإلى ناصر الدين الألبانيّ في مقدّمة شرح العقيدة الطحاويّة وغيرهما .
أمّا عن أسانيده فرجاله ـ وإن قال المقدسيّ في الرجل يخرج عنه في الصحيح : هذا جاز القنطرة ، بل وهذا من الاسفاف في القول ـ فإنّ فيهم من لا تلتقيّ بذمّه الشفتان ، وحسبك أن ترجع إلى مقدّمة فتح الباري لابن حجر ، لتجد بنفسك العدد الضخم ، ممّن جرّحه علماء الجرح والتعديل ، فقد قال : ( أنّ الذين انفرد البخاريّ بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضع وثلاثون رجلاً ، المتكلّم فيهم بالضعف منهم ثمانون رجلاً ، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاريّ ستمائة وعشرون رجلاً ، المتكلّم فيه بالضعف منهم مائة وستون رجلاً ) (4) .
وإذا قرأت تراجمهم ـ وقد ساقهم ابن حجر على حروف الهجاء ـ لوجدت فيهم متروكاً ، منكر الحديث غير مرضيّ ، ليس بثقة ولا مأمون ، مجهول ، كان يعلم المجان والمجون ، فهذه كلّها فيمن اسمه أحمد ، فما بالك ببقية الأسماء في سائر الحروف ، فأقرأ وأضحك ، وشرّ البلية ما يضحك .
إنّ الزاعم يتحامل بغير حقّ على الشيعة ، فينقل كلمات يقتطعها من جملة كلام لو نقله بتمامه لأفاد على عكس مرامه ، ومهما يكن فإنّ الزاعم من رجال التهويش والتشويش ، وجاهلاً حتّى بمذهبه ، فلو لم يكن كذلك لعرف أنّ انقسام الفقهاء في الحديث ـ كان من عهد التابعين واتباعهم من أئمّة المذاهب ـ إلى مدرستين .
1ـ مدرسة الرأي ومركزها الكوفة في العراق ، وزعيمها ربيعة الرأي ، سمّي بذلك لأنّه كان يعرف بالرأي والقياس وهو من التابعين ، ومن أعلام هذه المدرسة أبو حنيفة إمام الأحناف .
2ـ مدرسة الحديث والأثر ، ومركزها المدينة المنوّرة ، وإمام المالكيّة مالك ابن أنس من أعلامها .
ولم يكن الخلاف بين المدرستين حول حجّية الحديث النبويّ الشريف ، فجميعهم يقبلون على الحديث إن ثبت عندهم وصحّ لديهم ، فهو حجّة يجب اتباعه عند الجميع ، لكن الذي ميّز المدرستين هو المنهج في قبول الحديث وردّه .
فمدرسة الحديث تقبل كلّ ما جاء من طرق معتبرة سنداً عندهم ، أي ما كان سلسلة رواته عدولاً ثقات ، وإن كان خبر آحاد ، بغضّ النظر عن موافقته للكتاب أو مخالفته ، وسواء وافق عمل وسيرة المسلمين أم لا ، بل اكتفى مالك حتّى بعمل أهل المدينة فجعله مصدراً من مصادر التشريع في الحكم .
بينما مدرسة الرأي ترفض هذا المنهج ، ولها منهج أشدّ دقّة وسداداً ، حيث تنظر الحديث متناً وسنداً ، ومدى توافقه مع القرآن الكريم أو آثار الصحابة ، ولهم في ذلك قواعد بنوا عليها منهجهم في النقد ، ففي المتن يردّونه مادام يخالف الكتاب أو آثار الصحابة ، حتّى ولو رواه مثلاً البخاريّ أو مسلم أو غيرهما بسند اعتمده أهل الحديث .
وما أكثر الشواهد على ردّ أحاديث وردت في البخاريّ ، كان أبو حنيفة قد نقدها وردّها ، فجاء البخاريّ فأخرجها في صحيحه ، وهنا نسأل الأحناف اليوم لمن يتبّعون في تلك الأحاديث قبولاً وردّاً ، لإمامهم أبي حنيفة إذ ردّها قبل خلق البخاريّ ؟ أو للبخاري الذي رواها في صحيحه وهم يقدّسون صحيحه بإفراط؟
وقبل أن نفيض بذكر تلك الأحاديث إذ لا حاجة بنا إلى ذكرها ، لكن أردنا أن نعلم الزاعم المهرّج ، أنّ انقسام الفقهاء إلى مدرستين ، مدرسة رأي ومدرسة أثر كان من عهد التابعين ، واستمر الحال على ذلك حتّى بعد تميّز المذاهب الأربعة من أهل السنّة ، وكذلك كان الشيعة الإمامية .
فقد حصل الانقسام بين فقهائهم منذ عهد الأئمّة (عليهم السلام) وما بعده ، فاتسعت أخيراً الهوة بين المحدّثين ـ الإخباريّين ـ والأُصوليّين ، فكان لكلّ منهم منهج خاصّ في قبول الحديث ونقده ، وقد أدلى كلّ فريق بحجّته على صحّة رأيه ، فكان النقض والإبرام هو الذي وسّع شقّة الخصام ، وكلّ من الفريقين لا ينكر حجّية الحديث ، ولكن في أسلوب التعامل معه من حيث السند ، فضلاً عن سلامة المتن في عدم مخالفة الكتاب ، وروايات العرض على الكتاب عند التعارض هي ميزان القبول والردّ.
وهذا ما أخذ به حتّى أبو يوسف القاضي ـ تلميذ أبي حنيفة ـ عن إمام الشيعة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ، فقد قال : فعليك من الحديث بما تعرف العامّة ، وإيّاك والشاذّ منه ، فإنّه حدّثنا ابن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه دعا اليهود فسألهم ، فحدّثوه حتّى كذّبوا على عيسى ، فصعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) المنبر، فخطب الناس فقال : ( إنّ الحديث سيفشو عنّي ، فما أتاكم عنّي يوافق القرآن فهو عنّي ، وما أتاكم عنّي يخالف القرآن فليس منّي ) (5) .
فالاختلاف في المنهج عند من باب الاجتهاد لديه مفتوح أيسر من غيره من سدّ باب الاجتهاد ، وبقي يتوحّل ويتحمّل بين آراء المدرستين ، فليس من العقل أن يخوض من لا دراية له في إثارة مسائل لا يحسن الخوض فيها ويهاجم من يقول : أخذت ديني عمّن أمرني ربّي تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) بالأخذ منه ، وأمرني بإتباعه ، فأعملت جهدي حين وصلتني الأحاديث عن أهل بيت العصمة ، وقد مرّت عليها قرون وأكثرها أخبار آحاد ، ورواها أُناس كثيرون ، إلاّ أنّهم لم يكونوا جميعاً بالمستوى المطلوب شأنهم ، شأن الرواة عند غير الشيعة ، ففيهم العدل الضابط الإمامي ، وفيهم من هو دونه .
ولمّا كان التوثيق يجامع غير الإمامي وغير العدل فلا مانع في الأخذ بحديثه ، ما لم يصادم كتاباً أو سنّة ثابتة ، وهذا ليس فيه ما يشهر بقائله ، بل هذه سيرة العلماء في جميع المذاهب .
ولو أنّ الزاعم من أيّ مذهب كان اطلع على ما يقوله الإمام النوويّ في شرحه على صحيح مسلم ، باب صحّة الاحتجاج بالحديث المعنعن ، لم يهاجم الشيعة بأنّ ليس لهم علم معتبر في جمع الأحاديث ، فإذا لم يكن لديهم علم كما زعم ، فمن أين للنووي أن يقول : وأمّا خبر الواحد : فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر ، سواء كان الراوي له واحداً أو أكثر ، واختلف في حكمه .
فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم من المحدّثين والفقهاء وأصحاب الأُصول : ( أنّ خبر الواحد الثقة حجّة من حجج الشرع يلزم العمل بها ، ويفيد الظنّ ولا يفيد العلم ، وأنّ وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل ، وذهبت القدرية ـ يقصد المعتزلة ـ والرافضة ـ يقصد الشيعة الإمامية ـ وبعض أهل الظاهر إلى أنّه لا يجب العمل به ، ثمّ منهم من يقول منع العمل به دليل العقل ، ومنهم من يقول : منع دليل الشرع ) (6) .
إذاً ليس غرض الزاعم إلى التشويش والتحريش ، وسوف أذكر لك أنّ الشيعة هم أقدم في تدوين الحديث وعلومه من غيرهم ، ولكن الزاعم الكاذب يفتري عليهم بما هم منه براء فالله حسبه ، ولا علينا أن لا نجيبه ، لكن كرامة لك يا شيخ نقول : إنّ زعم الزاعم بأنّ الشيعة ليس لهم علم معتبر في جمع الأحاديث ، فهذا زعم باطل ، ولو أنصف الزاعم نفسه قبل غيره لم يقل هذا .
فلنسأله عن صحيح البخاريّ ـ وهو عنده أصحّ كتاب بعد كتاب الله ـ كم هي الأحاديث التي أخرجها فيه عن كتاب علي ؟ وعليه أن يراجع باب كتابة العلم ، وباب إثم من تبرّأ من مواليه ، وفي نفس صحيح البخاريّ في أبواب العلم : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : أُنظر ما كان من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاكتبه ... .
فاسأل من هذا الزاعم : من كان أقدم زماناً في حفظ الحديث وتدوينه ، علي (عليه السلام) أُم عمر بن عبد العزيز ؟ فشهادة الإمام (عليه السلام) كانت سنة 41 هـ ، ووفاة عمر بن عبد العزيز سنة 101 هـ ، فكتاب فيه تدوين الحديث النبويّ عند الشيعة قبل أن يكون للسنّة كتاب مدوّن فيه بأكثر من ستين سنة ، وكتاب الإمام علي (عليه السلام) بقي متداولاً عند الأئمّة (عليهم السلام) ، ثمّ عند أصحابهم أحاديث ذلك الكتاب .
ولو أنّه راجع كتاب ( تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ) للسيّد حسن الصدر ، لكان يطّلع فيه على نصوص منقولة من مصادر مقبولة عند الفريقين ، تثبت أنّ السبق كان للشيعة في تدوين الحديث ، فإنّ أوّل من جمع الحديث النبويّ بعد الإمام علي (عليه السلام) هو أبو رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
قال النجاشيّ في ترجمته : ( ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا ) (7)، ثمّ ذكر إسناده إليه باباً باباً ، الصلاة والصيام ، والحجّ والزكاة والقضايا .
وإذا عرفت أنّ وفاة أبي رافع كانت في أوّل خلافة علي (عليه السلام) على الصحيح ، كما يقول ابن حجر في ( التقريب ) ، وأوّل خلافته كانت سنة 35 هـ ، فلا اقدم من أبي رافع بالتأليف بالضرورة .
وأوّل من صنّف في الآثار هو سلمان المحمّدي ، ثمّ أبو ذر ، ثمّ الأصبغ بن نباتة ، ثمّ عبيد الله بن أبي رافع ، وهذا كان كاتب علي (عليه السلام) وهو ثقة ، كما يقول ابن حجر في ( التقريب ) ، وهكذا استمر الشيعة في التأليف من عهد الصحابة ، ثمّ التابعين وتابعي التابعين ، وتجد أسماء تأليفهم في الحديث والتفسير والآثار والرجال وسائر فنون المعرفة ، راجع ( تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ) هذا جواب ( علم الحديث عند الرافضة ) .
وأمّا جواب ( الجرح والتعديل عند الشيعة ) فلا نطيل المقام عنده ، وحسب الزاعم الكذوب مراجعة كتاب ( ميزان الاعتدال ) للذهبي ، و ( لسان الميزان ) لابن حجر العسقلانيّ ، ليرى كم هم رجال الشيعة الذين ورد تراجمهم في الكتابين ؟ ومن أين أخذا المعلومات عنهم ؟ خصوصاً الثاني : فإنّ ( انتخاب الحسان من لسان الميزان ) وهو اسم كتاب لبعضهم ، استخرج فيه أسماء الشيعة الذين ذكرهم ابن حجر العسقلانيّ ، وترجمهم اعتماداً على مصادر شيعية في الرجال ، وفيها مصنّفات في الجرح والتعديل ، فذكر منها : فهرست النجاشيّ ، وفهرست الطوسيّ ، وفهرست ابن بابويه ، ورجال ابن أبي طي ، ورجال ابن عقدة ، وغيرهم .
فليراجع الزاعم ليرى أنّه قد بلغ عدد الرجال الحسان (725) رجلاً ، كلّهم نقل ابن حجر تراجمهم من مصادر شيعية في الرجال جرحاً وتعديلاً ، ومع هذا فلم يستوف جميع المصادر ، فكيف يقول الزاعم : ( لم يكن للشيعة كتاب في أحوال الرجال حتّى ألف الكاشانيّ في المائة الرابعة كتاباً لهم في ذلك ، وهو كتاب غاية في الاختصار ، وقد أورد فيه أخباراً متعارضة في الجرح والتعديل ) ؟
وأحسب أنّ سهواً حصل في تسمية الكاشانيّ لجعله من أهل المائة الرابعة ، فإنّ الكاشانيّ هو ملاّ محسن الفيض صاحب الوافي وغيره ، وهو متوفّى سنة 1091 هـ ، فهو من أهل المائة الحادية عشرة لا المائة الرابعة ، إذ ليس هو المراد قطعاً ، ولعلّ المراد الكشّي الذي هو من أعلام المائة الرابعة ، ولكن مع ذلك لو سلّمنا أنّه المراد في المقام ، فزعم الزاعم باطل ، لأنّ قبله من رجال الشيعة الذين لهم كتب في الرجال ، وتناولوا فيها بيان أحوالهم جماعة ، نذكر منهم ولو على سبيل الاستقصاء ، بل للتذكرة لمن يخشى .
فمنهم الحسن بن فضّال الكوفي ، المتوفّى سنة 224 هـ ، ترجمه النجاشيّ وعدّ من كتبه كتاب الرجال .
ومنهم الحسن بن محبوب السراد ، المتوفّى سنة 224 هـ ، كما أرّخه الكشّي له كتاب المشيخة ، وكتاب معرفة رواة الأخبار ، كما في معالم العلماء لابن شهر آشوب .
ومنهم أبو عبد الله محمّد بن خالد البرقي ، الذي كان من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) ، المتوفّى سنة 203 هـ ، وقد ذكره ابن النديم في الفهرست في أوّل الفنّ الخامس من المقالة السادسة في أخبار فقهاء الشيعة ، وعدّ تصانيفه كتاب الرجال في ذكر من روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) .
ومنهم علي بن الحكم بن الزبير النخعي الأنباري أبو الحسن الغرير ، وكان تلميذ ابن أبي عميرة ، وعن كتابه في الرجال نقل ابن حجر في لسان الميزان بعض تراجم الشيعة ، منها في ترجمة حسان بن أبي عيسى الصيقلي ، الراوي عنه الحسن بن علي بن يقطين ، ومنها في ترجمة إبراهيم بن سنان ، ومنها في ترجمة إبراهيم بن عبد العزيز ، وأنّهما من أصحاب الصادق (عليه السلام) .
ومنهم أحمد بن محمّد البرقي ، المتوفّى سنة 274 أو سنة 280 هـ ، له كتاب الرجال ، وقد وصلت نسخته إلينا وهو مطبوع .
فكلّ هؤلاء وغيرهم من لم نأت على ذكرهم قبل الكشّي ، وقد تناولوا أحوال الرجال جرحاً وتعديلاً وتاريخاً ، ولكن الأعمى عن الحقّ لا يريد أن يبصر الحقيقة .
وأمّا قوله : ( وقد كان التأليف في أُصول الحديث وعلومه معدوماً عندهم ، حتّى ظهر زين الدين العامليّ الملقّب عندهم بالشهيد الثاني ، المتوفّى سنة 965 هـ.
فيقول شيخهم الحائري : ومن المعلومات التي لا يشكّ فيها أحد أنّه لم يصنّف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني ) .
فالجواب : أنّه زعم باطل باعتراف أئمّة أهل الحديث من العامّة ، وذلك أنّ أوّل من تصدّر لمعرفة علوم الحديث هو الحاكم ابن البيع النيسابوريّ ، وقد نصّ في ( كشف الظنون ) في باب حرف الميم ما نصّه : ( معرفة علوم الحديث أوّل من تصدّر له الحاكم أبو عبد الله محمّد بن عبد الله الحافظ النيسابوريّ ، المتوفّى سنة خمس وأربعمائة ... ) .
وهو خمسة أجزاء مشتملة على خمسين نوعاً ، وتبعه في ذلك ابن الصلاح ، فذكر من أنواع الحديث خمسة وستين نوعاً .
وقال : فأوّل من تصدّر له الحاكم أبو عبد الله ، وعمل عليه أبو نعيم مستخرجاً ، ثمّ جاء الخطيب فعمل الكتابين وهما الجامع لأخلاق الراوي ، وآداب السامع ، والكفاية في معرفة قوانين الرواية .
إذا عرفت هذا ، فقد نصّ السمعاني وابن تيمية والذهبيّ على تشيّع الحاكم المذكور .
قال الذهبيّ في ترجمة الحاكم : ( قال ابن طاهر : سألت أبا إسماعيل الأنصاريّ عن الحاكم ، فقال : ثقة في الحديث ، رافضي خبيث ، ثمّ قال ابن طاهر : كان شديد التعصّب للشيعة في الباطن ، وكان يظهر التسنّن في التقديم والخلافة ، وكان منحرفاً عن معاوية وآله ، متظاهراً بذلك ولا يعتذر منه .
قلت ـ والقائل الذهبيّ ـ أمّا انحرافه عن خصوم علي فظاهر ، أمّا أمر الشيخين فمعظّم لهما بكلّ حال ، فهو شيعي لا رافضي ) (8) .
فقد بان كذب زعمه : ( وقد كان التأليف في أُصول الحديث وعلومه معدوماً عندهم ، حتّى ظهر زين الدين العامليّ الملقّب عندهم بالشهيد الثاني ) ، وأيضاً فإنّ السيّد جمال الدين أحمد بن موسى بن طاووس المتوفّى 673 هـ ، وهو أُستاذ العلاّمة الحلّيّ ، هو واضع الاصطلاح الجديد للإمامية في صحيح الحديث وحسنه وموثقه وضعيفه ، كما نصّ عليه كلّ علماء الرجال في ترجمته (قدس سره) .
ويأتي بعده السيّد علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي صاحب شرح أُصول دراية الحديث ، وهو من علماء المائة الثامنة ، ويروي عن العلاّمة الحلّيّ وهو أُستاذ ابن فهد الحلّيّ ، وهؤلاء الأعلام كلّهم قبل زمان الشهيد الثاني المتوفّى 965 هـ ، فأين صار زعمه ؟
وأمّا ما نقله عن الحائري ففيه تلبيس وغموض ، وعلى فرض صحّته فهووهم منه يدفعه الوجدان ، وكذلك ما نقله عن الفيض الكاشانيّ ، فإنّه ـ الفيض لمّا كان من المحدثين ـ فقد قال في تصويب طريقة القدماء في تقسيم الحديث ، ونقد طريقة السيّد ابن طاووس ، والعلاّمة ومن تبعهما في تقسيم الحديث إلى الأقسام الثالثة : الصحيح والحسن والموثّق .
فقد قال : ( قد اصطلح متأخّروا فقهائنا على تنويع الحديث المعتبر في صحيح وحسن وموثّق ، فإن كان جميع سلسلة سنده أماميين ممدوحين بالتوثيق سمّوه صحيحاً ، أو أماميين ممدوحين بدونه كلاّ أو بعضاً مع توثيق الباقي سمّوه حسناً ، أو كان كلاّ أو بعضاً غير أماميين مع توثيق الكلّ سمّوه موثّقاً ) (9) .
وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم ، التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمة (عليهم السلام) .
وتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعد ، بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة ، وكوجوده في أصل معروف الأنساب إلى أحد الجماعة ، الذين اجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمّد بن مسلم والفضيل بن يسار ، أو على تصحيح ما يصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن .
أو على العمل بروايتهم كعمّار الساباطي ونظرائه ، وكإدراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) فأثنوا على مؤلّفيها ككتاب عبيد الله الحلبي ، الذي عرض على الإمام الصادق (عليه السلام) ، وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على الإمام العسكريّ (عليه السلام) .
وكأخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإمامية ، ككتاب الصلاة لجرير بن عبد الله السجستانيّ ، وكتب بُني سعيد وعلي بن مهزيار ، أو من غير الإمامية ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري .
وقد جرى صاحبا كتابي الكافي والفقيه على متعارف المتقدّمين في إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ، ويعتمد عليه ، فحكما بصحّة جميع ما أورداه في كتابيهما من الأحاديث ، وإن لم يكن كثير منه صحيحاً على مصطلح المتأخّرين .
إلى أن قال : ( وعلى هذا جرى العلاّمة والشهيد في مواضع من كتبهما مع أنّهما الأصل في الاصطلاح الجديد ، وربما يقال : الباعث لهم على العدول عن طريقة القدماء طول المدّة ، واندراس بعض الأُصول المعتمدة ، والتباس الأحاديث المأخوذة من الأُصول المعتمدة ، بالمأخوذة من غير المعتمدة ... ) .
إلى أن قال : ( وبعد فإنّ في الجرح والتعديل وشرائطهما اختلافات وتناقضات واشتباهات لا يكاد ترتفع بما تطمئن إليه النفوس ، كما لا يخفى على الخبير بها ، فالأولى الوقوف على طريقة القدماء ، وعدم الاعتناء بهذا الاصطلاح المستحدث رأساً وقطعاً ، والخروج عن هذه المضايق .
نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء ، فاحتجنا إلى الترجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعديل المنقولين عن المشايخ فيهم ، ونبني الحكم على ذلك ، كما أشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح ، بقولهم (عليهم السلام) : ( فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما وأصدق في الحديث ) ، وهو أحد وجوه التراجيح المنصوص عليها ... ) .
هذا ما قاله الفيض (قدس سره) ، نقلته باقتضاب لأكشف زعم الكذّاب حين أخذ فقرة من كلامه اقتطعها عمّا سبقها ، ولحق بها ما أخلّ بالمعنى الذي أراده الفيض فلاحظ ، فهل في هذا دلالة على عدم الوثوق بالأحاديث كما زعم الزاعم .
ثمّ إنّ قوله : ( واسمعوا معي الآن المصيبة الكبرى يقول الحرّ العامليّ معرّفاً الحديث الصحيح ، بل يستلزم ضعف الأحاديث كلّها عند التحقيق ، لأنّ الصحيح ـ عندهم ـ ما رواه العدل الإمامي الضابط في جميع الطبقات ، ولم ينصّوا على عدالة أحد من الرواة ... ) ، ألا مسائل هذا الزاعم الكاذب كيف يتسق التعريف للحديث الصحيح مع الابتداء بحرف بل الدال على الإضراب .
قال في القاموس : ( وبل حرف إضراب ، إن تلاها جملة كان معنى الإضراب ، إمّا الإبطال كـ { سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } (10) ، وأمّا الانتقال من غرض إلى غرض آخر { فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } (11) ، وإن تلاها مفرد فهي عاطفة ، ثمّ إن تقدّمها أمر أو إيجاب كاضرب زيداً بل عمراً ، أو قام زيد بل عمرو ، فهي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه ، وإن تقدّمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حاله ، وجعل ضدّه لما بعدها ، وأجيز أن تكون ناقلة معنى النفي والنهي إلى ما بعدها ، فيصحّ ما زيد قائماً بل قاعداً وبل قاعد ... ) (12) .
أقول : إنّما ذكرت للقارئ أوّلاً أحكام بل ، ليرى بنفسه كيف يكون الدجل والتضليل عند الزاعم الكاذب ، فهل ما نسب إلى الحرّ العامليّ بقوله : ( بل يستلزم ضعف الأحاديث كلّها عند التحقيق ... ) ، يكون هذا معرّفاً للحديث الصحيح ؟ أليس كان اللازم وواجب الأمانة نقل الكلام السابق على بل ليصحّ فيه الإضراب ؟
ثمّ إنّ بقية ما ذكره من كلام الحرّ العامليّ ، لأنّ الصحيح ـ عندهم ـ ما رواه العدل الإمامي الضابط في جميع الطبقات ، ولم ينصّوا على عدالة أحد من الرواة إلاّ نادراً ، وإنّما نصّوا على التوثيق ، وهو لا يستلزم العدالة قطعاً ، بل بينهما عموم من وجه ، كما صرّح به الشهيد الثاني وغيره .
ودعوى بعض المتأخّرين أنّ الثقة بمعنى العدل الضابط ممنوعة ، وهو مطالب بدليلها ، وكيف وهم مصرّحون بخلافها ، وحيث يوثّقون من يعتقدون فسقه ، وكفره وفساد مذهبه ، فهذا لا يدلّ على ما استنتجه حيث قال : ( فنستنتج من كلام العامليّ أنّ :
1ـ أحاديث الشيعة كلّها ضعيفة .
2ـ لم ينصّ المصحّحين ـ كذا والصواب المصحّحون ـ للأحاديث على عدالة الراوي ، إنّما نصّوا على التوثيق فقط .
3ـ وثّق العلماء الفسّاق والكفّار وأصحاب المذاهب الفاسدة ... ) .
ليس بهذا التضليل واللف والدوران والخداع تبحث الحقائق ، إنّها لمصيبة كبرى ، ومهما يكن ، فإنّي أعرض للقارئ باختصار ماذا أراد الحرّ العامليّ بكلامه الذي أساء الزاعم الكاذب نقله :
( إنّ الحرّ العامليّ ـ وهو فقيه محدّث ـ ذكر في خاتمة كتابه ـ تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ـ عدّة فوائد ، كانت الفائدة التاسعة : في ذكر الأدلّة على صحّة أحاديث الكتب المعتمدة تفصيلاً ووجوب العمل بها ، بعد أن ذكر في الفائدة السادسة مثل ذلك إجمالاً ، وساق في هذه الفائدة ـ التاسعة ـ اثنين وعشرين وجهاً ، حاول إثبات مرامه ما أمكنه في تقوية طريقة القدماء ، ونقد المصطلح الجديد .
وقد رتّب تلك الوجوه بحيث أنّ بعضها ليس بمعزل عمّا سبقه ، فلابدّ لمن أراد فهمها أن يحيط بها جميعاً لفهمها ، وما نقله الزاعم إنّما هو فقرات من الوجه الرابع عشر الذي هو مترتّب فهماً على الثالث عشر ، والآن اذكر منهما ما يتبيّن به الحقّ ، قال : الثالث عشر : أنّ الاصطلاح الجديد يستلزم تخطئة جميع الطائفة المحقّقة في زمن الأئمّة ... .
الرابع عشر ـ يعني الاصطلاح الجديد ـ يستلزم ضعف أكثر الأحاديث التي قد علم نقلها من الأُصول المجمع عليها ، لأجل ضعف بعض رواتها ، أو جهالتهم، أو عدم توثيقهم ... بل يستلزم ـ الاصطلاح الجديد ـ ضعف الأحاديث كلّها عند التحقيق ، لأنّ الصحيح ـ عندهم ـ : ما رواه العدل الإمامي ، الضابط في جميع الطبقات ... ) .
ثمّ قال الحرّ : ( وإنّما المراد بالثقة ، من يوثق بخبره ، ويؤمن منه الكذب عادة ، والتتبع شاهد به ، وقد صرّح بذلك جماعة من المتقدّمين والمتأخّرين ، ومن معلوم ـ الذي لا ريب فيه عند منصف ـ : أنّ الثقة تجامع الفسق ، بل الكفر .
وأصحاب الاصطلاح الجديد قد اشترطوا ـ في الراوي ـ العدالة ، فيلزم من ذلك ضعف جميع أحاديثنا لعدم العلم بعدالة أحد منهم إلاّ نادراً ، ففي إحداث هذا الاصطلاح غفلة من جهات متعدّدة كما ترى ) (13) .
أقول : إنّ الزاعم لمّا كان غرضه التهويش والتشويش ، عمد إلى نقل كلام المحدّثين ـ الإخباريّين ـ في ردّ ونقد المصطلح الجديد في تمييز الحديث ، وليته نقله كما هو بحذافيره ، ليتبيّن للقارئ وجه الحقيقة ، ولكنّه بتر الكلام فشوّه الحقيقة ، ولقد نقد الأُصوليون تلك الحجج بوجوه واضحة ، وردود حاسمة ، حتّى أنّ السيّد الخوئيّ (قدس سره) قال في مقدّمة كتابه معجم رجال الحديث: ( وقد ذكر صاحب الوسائل لإثبات ما ادعاه من صحّة ما أودعه في كتابه من الأخبار ، وصدورها من المعصومين (عليهم السلام) وجوها ، سمّاها أدلّة ، ولا يرجع شيء منها إلى محصّل ، ولا يترتّب على التعرّض لها والجواب عنها غير تضييع الوقت ... ) (14) .
كما شجب مسلك الإخباريّين في الأخذ بجميع ما في الكتب الأربعة ـ الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار ـ بل وألحق بعضهم الأخذ ببقية ما وصل إلينا من كتب القدماء ، كالمحاسن وبصائر الدرجات وبقية الأُصول الأربعمائة ، فقد شجب ذلك المسلك غير واحد من أعلام الأُصوليّين ، وإنّ في مقدّمة كتاب وسائل الشيعة للسيّد محسن الأعرجي الكاظمي ما يفني ويغني ، ولم يكن من دونه الشيخ محمّد حسن البار فروشي المازندرانيّ ، المتوفّى 1345 هـ في كتاب نتيجة المقال : 65 ، وغيرهم .
ولو كان الزاعم صادقاً في غرضه لنقل كلام الأُصوليّين أيضاً في نقدهم لحجج الإخباريّين ، ولتبيّن للقارئ الحقّ ، وأنّ لا نقاش لدى كلّ فريق في صحّة الخبر عند قيام الحجّة على صدقه ، إلاّ أنّ مسالكهم تختلف في تنويع الحديث ، فالقدماء لقرب عهدهم بالأئمّة الأطهار (عليهم السلام) كان من السهل عليهم تحصيل القطع بصدور الأحاديث عنهم (عليهم السلام) لكثرة القرائن الدالّة على ذلك ، فلا حاجة إلى التفتيش عن رجال السند ، كي يضطرّوا إلى هذا التنويع ، وهذا ما لا ينكره الأخباريون ولا الأُصوليون .
أمّا المتأخّرون ، فلمّا بعد زمانهم عن زمان صدور الحديث ، وخفيت عليهم تلك القرائن الدالّة على صدق الحديث ، فقد رأوا أن لا مناص لهم من تنويع الحديث بلحاظ السند وصفات الراوي ، ومن أراد مزيداً من الإيضاح فليرجع إلى ما تقدّم ذكره من المصادر وغيرها ، وفي حجّية خبر الواحد في أبحاث الأُصول ، ليتبيّن له أنّ الزاعم الكاذب غرضه التهويش والتشويش .
يدلّك على ذلك ما ذكره أخيراً من خبر الفيض بن المختار نقلاً عن البحار عن الكشّي ، فهو خبر ضعيف أوّلاً ، وثانياً لم ينقله بنصّه لئلا يعرف القارئ مدى خيانته في النقل ، وإليك الحديث عن مصدره الأوّل الكشّي : ( محمّد بن قولويه قال : حدّثني سعد بن عبد الله قال : حدّثني محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن سنان ، عن المفضّل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يوماً ، ودخل عليه الفيض بن المختار ، فذكر له آية من كتاب الله عزّ وجلّ
تأوّلها أبو عبد الله (عليه السلام) .
فقال له الفيض : جعلني الله فداك ، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم ؟ قال : ( وأيّ الاختلاف يا فيض ) ؟ فقال له الفيض : إنّي لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أشكّ في اختلافهم في حديثهم ، حتّى ارجع إلى المفضّل بن عمر فيوقفني من ذلك على ما تستريح إليه نفسي ، ويطمئن إليه قلبي .
فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( أجل هو كما ذكرت يا فيض ، إنّ الناس قد أولعوا بالكذب علينا ، إنّ الله افترض عليهم لا يريد منهم غيره ، وإنّي أحدّث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتّى يتأوّله على غير تأويله ، وذلك أنّهم لا يطلبون بحديثنا وبحبّنا ما عند الله ، وإنّما يطلبون به الدنيا ، وكلّ يحبّ أن يدّعي رأساً ، أنّه ليس من عبد يرفع نفسه إلاّ وضعه الله ، وما من عبد وضع نفسه إلاّ رفعه الله وشرّفه ، فإذا أردت بحديثنا فعليك بهذا الجالس ) ، وأومأ إلى رجل من أصحابه ، فسألت أصحابنا عنه ، فقالوا : زرارة بن أعين ) (15) .
فهذا الخبر في سنده محمّد بن سنان ، وهو مختلف فيه توثيقاً ، ولو أغمضنا النظر عن السند ، فليس في المتن ما يستوجب التشهير بالشيعة كما يروم الزاعم ، بل على العكس ففيه مدح ، وفيه دلالة على أنّ هناك فئة تتورّع في سماع الحديث فلا تقبله من كلّ أحد لاحتياطهم ، ومنهم الفيض بن المختار .
كما دلّ على أنّ أُناساً يحتسبون على الشيعة من الفرق الضالّة ، يسمعون الحديث فيأوّلونه على غير تأويله ، فلامهم أبو عبد الله (عليه السلام) .
ودلّ أيضاً على أنّ هناك من هو مأمون على الحديث ، مثل زرارة الذي أومأ إليه أبو عبد الله (عليه السلام) ، ودلّ الفيض على الأخذ منه ، فأين ما يروم الزاعم التشهير به على الشيعة ؟
ولست في المقام بصدد ذكر ما عند المذاهب الأُخرى من مفارقات ومنابذات، ولكن هل للزاعم الذي يهيب بالشيعيّ أن يتأمّل ما ذكره وسمّاه بالحقائق !!
فهل هو تأمّل في تراثه ؟ ورآه خلوا من العيب ، ولا يتطرّقه الريب ، فرمى بيوت الآخرين بالأحجار ، وما درى أنّ بيته من زجاج ، ثمّ هل له أن يجيب من يقول له : أنّ الصحاح الست عندكم أصحّها صحيح البخاريّ ، وهو فيما تزعمون أصحّ كتاب بعد كتاب الله ، وفي هذا الصحيح من سفاسف الحديث المكذوب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يسقطه عن الاعتبار ، وليس صحيح مسلم من دونه في هذه الجهة .
وإلى القارئ نماذج قليلة ممّا فيه مخالفة لكتاب الله تعالى ، والثابت من سنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) ، فنهيب بالسنّي بما أهاب به الزاعم للشيعي أن ينظر في تراثه من جديد ، فالحاجة ماسّة إلى إعادة النظر لتنكشف الحقائق أمامه ، ولا أدعوه إلى هدم السنّة ، فإنّ ذلك هدم للدين ، ولكن عليه أن يتورّع في أخذ معالم دينه عمّن يكون حجّة بينه وبين ربّه تعالى ، وفي ذلك عودة إلى الذات الصحيحة التي تدعو إلى نبذ العقل التسليمي النقلي ، كما نبذه عمر بن الخطّاب حين نقد أبا هريرة على كثرة حديثه ، بل وحتّى ضربه بالدرّة .
أليس عمر خليفة المسلمين ؟ وأبو هريرة راوية الإسلام كما يسمّونه ؟ فليس في الرجوع إلى الذات الصحيحة ما يستدعي تعطيل العقل الواعي ، بل بالعكس فهو ـ الرجوع إلى الذات الصحيحة ـ ينبذ العنف والتشنّج ، ويشارك في معرفة الصحيح من التراث المقبول على ضوء الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فقد حدّث أبو يوسف القاضي ـ صاحب أبي حنيفة ـ قال : حدّثنا ابن أبي كريمة ، عن أبي جعفر ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه دعا اليهود فسألهم ، فحدّثوه حتّى كذبوا على عيسى ، فصعد النبيّ المنبر ، فخطب الناس فقال : ( إنّ الحديث سيفشو عنّي ، فما أتاكم عنّي يوافق القرآن فهو عنّي ، وما أتاكم عنّي مخالفاً القرآن فليس عنّي ) (16) .
إنّ النصوص التي نسبت إلى النبيّ الكريم هي نصوص أحادية ، رواها شخص واحد أو شخصان ، ثمّ ولا أحد يستطيع أن يؤكّد ويجزم أنّ تلك الأحاديث هي بألفاظها نفسها كما نطقها النبيّ الكريم .
ولنختم الكلام مع الزاعم الكاذب مهما كان ، ومن يكن من أهل المذاهب ، نسأله ما رأيه فيما قاله شيخ إسلامه ابن تيمية وقد ترّحم عليه ، وهو من أهل الأثر ذوي المشرب الظاهريّ ، يرى الصحّة القطعية ، وإفادة العلم لكلّ ما اتفق عليه الشيخان ، إلاّ أنّه مع ذلك يقرّر قائلاً : ( وكما أنّهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ ، فإنّهم أيضاً يضعّفون من حديث الثقة الصدق الضابط أشياء تبيّن لهم أنّه غلط فيها بأمور ويستدلّون بها ، ويسمّون هذا علم علل الحديث ، وهو من أشرف علومهم ، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط ، وغلط فيه ، وغلطه فيه عرف أمّا بسبب ظاهر كما عرّفوا أنّ النبيّ تزوّج ميمونة وهو حلال ـ أي من الإحرام ـ وأنّه صلّى في البيت ركعتين ، وجعلوا رواية ابن عباس تزوّجها حراماً ـ أي وهو محرم ـ ، ولكونه لم يصل ممّا وقع فيه الغلط ، وكذلك أنّه اعتمر أربع عمر .
وعلموا أنّ قول ابن عمر أنّه اعتمر في رجب ممّا وقع فيه الغلط ، وعلموا أنّه تمتّع وهو آمن من حجّة الوداع ، وإنّ قول عثمان لعلي : كنّا يومئذ خائفين ، ممّا وقع فيه الغلط ، وأنّ ما وقع في بعض طرق البخاريّ : أنّ النار لا تمتلئ حتّى ينشئ الله لها خلقاً آخر ، ممّا وقع فيه الغلط ، وهذا كثير ) (17) .
وقوله : ( وأنّ ما وقع في بعض طرق البخاريّ : أنّ النار لا تمتلئ ... ) ، يشير إلى رواية صحيح البخاريّ ، بسنده عن أبي هريرة ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : ( اختصمت الجنّة والنار إلى ربّهما ، فقالت الجنّة : يا ربّ ، ما لها لا يدخلها إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم ، وقالت النار : يعني أوثرت بالمتكبّرين ، فقال الله تعالى للجنّة : أنت رحمتي ، وقال للنار : أنت عذابي أصيب بك من أشاء ، ولكلّ واحدة منكما ملؤها .
قال : فأمّا الجنّة فإنّ الله لا يظلم من خلقه أحداً ، وإنّه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها ، فتقول : هل من مزيد ؟ ثلاثاً ، حتّى يضع فيها قدمه ، فتمتلئ ويرد بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط قط ) (18) .
قال ابن حجر : وقد قال جماعة من الأئمّة : أنّ هذا الموضع مقلوب ، جزم ابن القيّم بأنّه غلط ، واحتجّ بأنّ الله تعالى أخبر بأنّ جهنّم تمتلئ من إبليس وأتباعه ، وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني ، واحتج بقوله تعالى : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } (19) .
فليقرأ السنّي هذا بإمعان ، وليعرف عمّن يأخذ دينه ، من كتاب هو عيبة سفاسف لا الجامع الصحيح كما سمّوه ، ممّا وقع فيه الغلط , وهذا كثير .
أقول للزاعم المهرّالجواب : أرأيت كيف حمل شيخ إسلامك على رموز أعلامك ، وكشف الغطاء عن بعض موارد الغلط والشطط عند زوامل الأسفار ، الذين يرون في صحيح البخاريّ أنّه أصحّ كتاب بعد كتاب الله ؟
ولم يسلم صحيح مسلم من نقد ابن تيمية ، فقد قال في كتابه : ( وممّا قد يسمّى صحيحاً ما يصحّحه علماء الحديث ، وآخرون يخالفونهم في تصحيحه ، فيقولون : هو ضعف ليس بصحيح ، مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه ، ونازعه في صحّتها غيره من أهل العلم ، إمّا مثله أو دونه أو فوقه ، فهذا لا يجزم بصدقه إلاّ بدليل ، مثل حديث ابن وعلة عن ابن عباس : أنّ رسول الله قال : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) ، فإنّ هذا انفرد به مسلم عن البخاريّ ، وقد ضعّفه الإمام أحمد وغيره ، وقد رواه مسلم ) (20) .
ثمّ ذكر عدّة موارد أُخرى ، ولا أُريد أن أطيل الوقوف عند هذا الباب ، فإنّه لا يخلو منه كتاب غير كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وكم من دراسات حديثة صدرت حول كتابي البخاريّ ومسلم وغيرهما من بقية الصحاح ، فأبانت عن الأخطاء والأوهام في المتون والأسانيد في تلك الكتب التي يسمّونها أصحابها والمتعبّدون بالأخذ بما فيها بالصحاح ، وهي فيها من الشاذّة والمردودة لنكارة فيها سنداً أو متناً .
وتعجبني كلمة الإمام الحافظ المحدّث العلاّمة أبي الفيض أحمد بن محمّد ابن الصدّيق الغماري الحسني ، المتوفّى 1380 هـ ، قالها في خاتمة كتابه ـ المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير : 136 ، بعد أن ذكر العمدة في معرفة الحديث الموضوع ـ : ومنها وجود النكارة الظاهرة في متنه بركاكة اللفظ أو مخالفة المعنى للثابت المعروف ، وإن كان سنده صحيحاً .
قال : ( ومنها أحاديث الصحيحين ، فإنّ فيها ما هو مقطوع ببطلانه فلا تغتر بذلك ، ولا تتهيّب الحكم عليه بالوضع لما يذكرونه من الإجماع على صحّة ما فيهما ، فإنّها دعوى فارغة لا تثبت عند البحث والتمحيص ، فإنّ الإجماع على صحّة جميع أحاديث الصحيحين غير معقول ولا واقع ... ) .
نقلاً بواسطة نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث ، إسماعيل الكردي ، وقد أقرّه على ذلك الشيخ ناصر الدين الألبانيّ المحدّث المشهور في مقدّمة كتابه آداب الزفاف : 60 ، بعد ذكره عبارة الغماري تلك : وذه إمّا لا يشكّ فيه كلّ باحث متمرّس في هذه العلم ، وقد كنت ذكرت نحوه في مقدّمة شرح الطحاويّة ... الخ.
وقال الألبانيّ في إرواء الغليل 5 / 33 : ( وأمّا القول بأنّ من روى له البخاريّ فقد جاوز القنطرة ، فهو لا يلتفت إليه أهل التحقيق ، كأمثال ابن حجر العسقلانيّ ، ومن له اطلاع لابأس به على كتاب التقريب يعلم صدق ما نقول ) .
وأخيراً : فأنا أهيب بكلّ سنّي باحث عن الحقّ ، وليس التعصّب الأعمى ، أن يتأمّل هذه الحقائق ، ويعرف الأُسس التي بنى عليها دينه ، وأنّ الأحاديث التي في الصحاح ، وخصوصاً في الصحيحين فيها أخبار ضعيفة وشاذّة ومنكرة، بل وموضوعة ، بمعنى أنّها أحاديث مكذوبة ، وضعها الكذّابون والمفسدون لأغراض مهينة ومشينة ، فليتق الله ربّه ولا تخدعه زبرجة الألقاب ، والله هو الهادي إلى الصواب .
وأمّا ما جاء في آخر المسائل : من ردّ على كتاب البرقعي ، وكتاب حيدر علي قلمداران القمّيّ : فالجواب لو أراد الشيعة أن ينصبوا أنفسهم للردّ على كلّ كتاب يتناولهم بالسبّ والتهريج ، لأضاعوا أوقاتهم في غير فائدة ، فإنّ سماسرة الأقلام المشتراة في كلّ زمان ومكان ليس عندهم من جديد ما يفيد ، بل هو أجزاء طعام الآخرين من الأوّلين السابقين ، وما صدر عن أعلام الشيعة في جواب أُولئك يكفي .
______________
1- الحشر : 7 .
2- فضائل الصحابة : 15 ، الجامع الكبير 5 / 328 ، تحفة الأحوذيّ 10 / 196 ، المصنّف لابن أبي شيبة 7 / 418 ، كتاب السنّة : 337 و 629 ، السنن الكبرى للنسائيّ 5 / 45 و 130 ، خصائص أمير المؤمنين : 93 ، المعجم الصغير 1 / 135 ، المعجم الأوسط 4 / 33 و 5 / 89 ، المعجم الكبير 3 / 66 و 5 / 154 و 166 و 170 و 182 ، شرح نهج البلاغة 9 / 133 ، نظم درر السمطين : 232 ، كنز العمّال 1 / 172 و 186 ، تفسير القرآن العظيم 4 / 122 ، المحصول 4 / 170 ، الإحكام للآمدي 1 / 246 ، الطبقات الكبرى 2 / 194 ، علل الدارقطنيّ 6 / 236 ، أنساب الأشراف : 111 و 439 ، البداية والنهاية 5 / 228 ، السيرة النبويّة لابن كثير 4 / 416 ، سبل الهدى والرشاد 11 / 6 و 12 / 232 ، ينابيع المودّة 1 / 74 و 95 و 99 و 105 و 112 و 119 و 123 و 132 و 345 و 349 و 2 / 432 و 438 و 3 / 65 و 141 و 294 ، النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 211 و 3 / 177 ، لسان العرب 4 / 538 و 11 / 88 ، تاج العروس 7 / 245 .
3- مسند زيد بن علي : 404 .
4- مقدمة فتح الباري : 9 .
5- الأُم 7 / 358 .
6- شرح صحيح مسلم 1 / 131 .
7- رجال النجاشيّ : 6 .
8- تذكرة الحفّاظ 3 / 1045 .
9- الوافي : 11 .
10- الأنبياء : 26 .
11- الأعلى : 15 ـ 16 .
12- القاموس المحيط 3 / 338 .
13- وسائل الشيعة 30 / 259 .
14- معجم رجال الحديث 1 / 33 .
15- اختيار معرفة الرجال 1 / 347 .
16- الأُم 7 / 358 .
17- مجموع الفتاوى 13 / 352 .
18- صحيح البخاريّ 8 / 186 .
19- الكهف : 49 ، فتح الباري 13 / 368 .
20- مجموع الفتاوى 18 / 17 .
( ... . اليمن . 28 سنة . طالب حوزة ) ردّ شبهات القوم على أحاديثنا
- الزيارات: 563