السؤال : يحتجّ أبناء السنّة : بأنّ أبا بكر وعمر وعثمان أفضل من الإمام علي (عليه السلام)، لأنّ أبا بكر قد تصدّق بكلّ ماله في سبيل الله ، ويروون أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قال : ( ما نفعني مال مثل مال أبي بكر ) ، وأنّ عمر أنفق نصف ماله ، وعثمان أنفذ جيش العسرة ، فكيف نردّ على هذا الكلام؟
أرجو أن تكون الإجابة موثّقة حتّى يمكنني الرجوع للمصادر ، ولكم جزيل الشكر .
الجواب : إنّ الموارد التي ذكروها كمنقبة لأُولئك الثلاثة ، كلّها مردودة عقلاً ونقلاً ودلالةً ، فنقول توضيحاً :
1ـ إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن محتاجاً إلى أموال أبي بكر ، إذ كان يكفله عمّه أبو طالب (عليه السلام) قبل زواجه (صلى الله عليه وآله) ، وبعد تزويجه بخديجة (عليها السلام) كانت أموالها تحت يده تغنيه، هذا كلّه قبل الهجرة .
وأمّا بعد الهجرة ، فغاية ما يدّعى : أنّ أبا بكر جاء بستة آلاف درهم ـ وهي جميع ما كانت عنده من المال ـ من مكّة إلى المدينة ، وما عساها أن تجدي نفعاً لو أنفقها كلّها ؟ وما هي قيمتها تجاه مصارف الدولة والحكومة الإسلاميّة آنذاك ؟
2ـ لو كان لأبي بكر هذه الأموال الطائلة ـ كما يقولون ـ أليس كان الأجدر به أن يصرف قسطاً منها لإغناء أو رفع فاقة أبيه ـ أبي قحافة ـ والذي كان أجيراً لعبد الله بن جدعان للنداء على طعامه .
وأيضاً لو كان له ما حسبوه من الثروة ، لما ردّ الرسول (صلى الله عليه وآله) إليه ثمن الراحلة التي قدّمها له ، ولم يكن ردّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) إيّاها إلاّ لضعف حال أبي بكر من ناحية المال ، أو أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يرقه أن يكون لأحد عليه منّة .
3ـ متى كان إنفاق أبي بكر لثروته الطائلة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) !! ؟ وكيف أنفق ولم يره أحد ، ولا رواه راوٍ ، ولم يذكر التاريخ مورداً من موارد نفقاته ؟ وقد حفظ له تقديم راحلة واحدة مع أخذ ثمنها من الرسول (صلى الله عليه وآله) .
4ـ إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) تصدّق بأربعة دراهم ليلاً ونهاراً ، وسرّاً وجهراً ، فنزلت آية في حقّه : { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... } (1) ، وتصدّق بخاتمه ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ... } (2) ، وأطعم هو وأهله مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، فنزل في حقّهم : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ... } (3) .
ثمّ هل من المعقول أن ينفق أبو بكر بجميع ماله ، ولم يوجد له مع ذلك كلّه ذكر في القرآن ؟! إلاّ أن يقال : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } (4) .
5ـ إنّ الروايات المنقولة في ثراء أبي بكر كلّها مفتعلة وموضوعة سنداً ، فمثلاً ترى أنّهم يروون عن عائشة أنّها كانت تفتخر بأموال أبيها في الجاهلية (5)، والحال أنّ عائشة لم تدرك العهد الجاهلي ، كيف وقد ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس سنين (6) ، وهكذا حال الأحاديث الأُخرى .
6ـ هل يعقل أنّ أبا بكر وعمر كانا صاحبي ثروة ، وقد أخرجهما الجوع ذات ليلة في المدينة طلباً للطعام ؟! (7) .
7ـ من أين جاء عمر بأموال تزيد على حاجته حتّى ينفق نصفها ، وهو كان في الجاهلية إمّا راعياً (8) ، أو نخّاساً للحمير (9) ، أو حمّالاً للحطب مع أبيه .
8 ـ إنّ إنفاق عثمان على جيش العسرة ، أيضاً هو من المواضيع المختلقة عندهم ، إذ ذكره الرازيّ في تفسيره لآية { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُون ... } (10) ، وذكره آخرون في تفسيرهم لآية { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... } (11) ، والحال أنّ هاتين الآيتين هما من سورة البقرة ، وهي أوّل سورة مدنية ، وقد نزلت قبل غزوة تبوك وجيشها ـ جيش العسرة الواقعة في شهر رجب سنة تسع ـ بعدّة سنين .
مضافاً إلى أنّ البيضاوي في تفسيره ، والزمخشري في كشّافه ، يؤكّدان نزول الآية الأخيرة في أبي بكر (12) ، فكيف ينحلّ هذا التناقض ؟
وهكذا الكلام في مكذوبة أبي يعلى الدالّة على إنفاق عثمان بعشرة آلاف دينار في غزوة ، إذ إنّ إسناده ضعيف جدّاً ، كما جاء في فتح الباري (13) .
ثمّ إنّ رواياتهم ـ على تقدير التسليم ـ تدلّ على تجهيز عثمان مائتي راحلة في غزوة تبوك ، وكان جيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي خرج به يومئذٍ خمسة وعشرين ألفاً غير الأتباع ، فما هي النسبة بين أُولئك المجاهدين وبين مائتي راحلة ؟ ولماذا هذه المبالغة الكاذبة في كونه ـ أي عثمان ـ جهّز وأنفذ جيش العسرة ؟
9ـ إنّ الإنفاق عمل قصدي ، فيشترط في صحّته نية القربة ، وليس مجرد صرف المال ، وفي المقام لا يوجد دليل نقلي معتدٌّ به على تأييد إعطائهم الأموال من آية محكمة أو حديث معتبر ، وكلّ ما في الأمر بعض الروايات الموضوعة والضعيفة والمتعارضة فيما بينها ، لا تغني ولا تسمن من جوع .
10ـ الذي يقوى في النظر : أنّ هذه الأكاذيب كلّها قد وضعت في قبال فضائل أهل البيت (عليهم السلام) المسلّمة عند الكلّ ، ريثما يتوفّر لأُولئك الثلاثة وأشياعهم بعض الصلاحيات في تصدّيهم لأمر الأُمّة والإمامة .
___________
1- البقرة : 274 .
2- المائدة : 55 .
3- الإنسان : 8 .
4- المائدة : 27 .
5- ميزان الاعتدال 3 / 375 ، مجمع الزوائد 4 / 317 .
6- الإصابة 8 / 231 .
7- صحيح مسلم 6 / 116 ، مسند أبي يعلى 11 / 41 ، صحيح ابن حبّان 12 / 16 ، الدرّ المنثور 6 / 389 .
8- تاريخ المدينة 2 / 655 .
9- الطرائف : 468 ، عن نهاية الطلب للحنبلي .
10- البقرة : 262 ، التفسير الكبير 3 / 40 .
11- البقرة : 274 ، الدرّ المنثور 1 / 363 ، فتح القدير 1 / 294 .
12- أنوار التنزيل 1 / 141 ، الكشّاف 1 / 504 .
13- فتح الباري 5 / 306 و 7 / 44 .
( أبو حسن . السعودية . ... ) إنفاقهم الأموال في ميزان النقد العلميّ
- الزيارات: 361