طباعة

( تقي الدين . مصر . سنّي . 35 سنة . طالب علم ) تعليق على الجواب السابق وجوابه

السؤال : أُعلّق على شيء واحد : لا تصحّ قصّة قطع سيّدنا عمر لشجرة بيعة الرضوان عند المحقّقين من أهل السنّة ، والحافظ ابن حجر لو رجعتم إلى كلامه في فتح الباري ، لوجدتم أنّه قال : " ثمّ وجدت عند سعد بإسناد صحيح عن نافع أنّ عمر بلغه ... " (1) ، فالحافظ لم يصحّح إلاّ إسناد القصّة إلى نافع ، لكن يبقى أنّ هناك انقطاعاً بين نافع وعمر فلا تصحّ القصّة ، هذا من حيث السند ، وقد ضعّفها غير واحد .
ومن حيث المتن : فإنّ هذه الحادثة لا يمكن أن تكون صحيحة ، لمخالفتها ما ثبت في الصحيحين ، من أنّ مكان الشجرة قد خُفي على الصحابة ، وأنّ التابعين كانوا يبحثون عنها بعد وفاة سيّدنا عمر ، ولو كان قد قطعها لانتشر خبر ذلك بينهم .
ففي صحيح البخاري : " حدّثنا محمّد بن رافع حدّثنا شبابة بن سوار أبو عمرو الفزاري ، حدّثنا شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال : لقد رأيت الشجرة ، ثمّ أتيتها بعد فلم أعرفها ، قال محمود : ثمّ أنسيتها بعد " (2) .
وفيه أيضاً : " حدّثنا محمود ، حدّثنا عبيد الله عن إسرائيل عن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجّاً فمررت بقوم يصلّون قلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيّب فأخبرته ، فقال سعيد : حدّثني أبي أنّه كان فيمن بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت الشجرة ، قال : فلمّا خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إنّ أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله) لم يعلموها ، وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم " (3) .
وفيه أيضاً : " حدّثنا موسى حدّثنا أبو عوانة ، حدّثنا طارق عن سعيد بن المسيّب عن أبيه : أنّه كان ممّن بايع تحت الشجرة ، فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا " (4) .
يقول الطبري : " وزعموا أنّ عمر بن الخطّاب مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال : أين كانت ؟ فجعل بعضهم يقول : هنا ، وبعضهم يقول :ههنا ، فلمّا كثر اختلافهم قال : سيروا ، هذا التكلّف فذهبت الشجرة ، وكانت سمرة ، إمّا ذهب بها سيل ، وإمّا شيء سوى ذلك " (5) .
ولم يرتض الحافظ إنكار سعيد حيث قال : " لكن إنكار سعيد بن المسيّب على من زعم أنّه عرفها معتمداً على قول أبيه ، إنّهم لم يعرفوها في العام المقبل لا يدلّ على رفع معرفتها أصلاً ، فقد وقع عند المصنّف من حديث جابر الذي قبل هذا : لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة ، فهذا يدلّ على أنّه كان يضبط مكانها بعينه ، وإذا كان يضبط موضعها ففيه دلالة على أنّه كان يعرفها بعينها ، لأنّ الظاهر أنّها حين مقالته تلك كانت هلكت إمّا بجفاف أو بغيره ، واستمر هو يعرف موضعها بعينه " (6) .
قلت : حاصل ما ذكره الحافظ أن يقال : بأنّ مكان الشجرة كان خافياً على جماهير الصحابة ، وليس هناك ما يدلّ على علم سيّدنا عمر بمكانها .
الجواب : نودّ أن نذكّركم بأنّ المقام مقام بحث وردّ وبدل ، وقرع الحجّة بالحجّة ، وليس المقام مقام إدلاء الكلام ، ورميه كيف ما كان ، فالبدء بالدليل جزء من البدء بغيره ، لأنّ الزمن أصبح زمن الدليل ، وولّى عصر الدعاوى التي لا تقوم على سند .
بالنسبة لشجرة بيعة الرضوان ، فالمروي عن نافع بسند صحيح : أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي قطعها .
يبقى الكلام في كون نافع ـ الذي لا يعرف لـه أب ولا أُمّ ولا رسم ـ مولىً لابن عمر ، وأنّ ابن عمر هو الذي أسره في بعض الغزوات ، فالرواية مرسلة هذا ملخّص الإشكال ؟
والجواب أوّلاً : الحديث المرسل لم يقل أحد بأنّه لا يصحّ مطلقاً ، فهناك من فرّق بين إرسال كبار التابعيين وبين غيرهم ، فقد احتجّ بالمرسل مالك وأبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل (7) ، ونافع من أئمّة التابعين فيمكن الاحتجاج بقولـه .
وثانياً : إنّ نافعاً لم يسند الرواية إلى عمر بن الخطّاب حتّى نقول بأنّها مرسلة ، وإنّما جزم بأنّ عمر بن الخطّاب هو الذي قطعها ، وهذا لا يعني الإرسال ، لأنّ نافعاً معاصر لابن عمر بن الخطّاب ـ وهو مولاه ـ ولكثير من الصحابة ، فيكون هذا الأمر معلوم عنده بواسطة الصحابة الذين عاصروا عمر ابن الخطّاب .
ومن خلال معاصرته لزمن قريب من زمن عمر بن الخطّاب ، فقواعد الحديث أشبهت في تطبيقها هنا ، وإنّما هو قول لنافع مولى ابن عمر في أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي قطع الشجرة.
وثالثاً : على كُلّ تقدير ، فقد قال الإمام مالك في حقّ نافع : " إذا قال نافع شيئاً فاختم عليه " (8) .
وقال الخليلي : " نافع من أئمّة التابعين بالمدينة ، إمام في العلم متّفق عليه صحيح الرواية ، منهم من يقدّمه على سالم ، ومنهم من يقارنه به ، ولا يعرف لـه خطأ في جميع ما رواه " (9).
وأمّا ما روي عن سعيد بن المسيّب فهو مطروح لعدّة أُمور .
أوّلاً : إنّ المبايعين تحت الشجرة بشهادة ابن المسيّب نفسه 1600 نفر ، أو 1500 نفر ، فكيف تعقل أنّ هؤلاء جميعاً نسوا مكان شجرة بيعة الرضوان ، مع أنّ مكان الشجرة يقع في الحديبية ، وهي تبعد مرحلة عن مكّة ، أي مسيرنصف يوم (10) ، وفي هؤلاء المبايعين كثير من المهاجرين ، الذين هم من أهل مكّة ، وهم سكنة تلك المناطق .
أقول : مع هذا كُلّه ، كيف نتصوّر أنّهم أضاعوا المكان ولا يعرفوه ؟!
بل أنّنا نجد شخصاً أنصارياً ـ وهو جابر بن عبد الله الأنصاري ـ يقول : لو كنت أبصرت اليوم لأريتكم مكان الشجرة (11) ، مع أنّه كان في زمن بيعة الرضوان شاباً يافعاً ، وهو مدني والحديبية تبعد عن المدينة تسع مراحل (12) ، ومع ذلك يقول : أنا أعرف مكانها ، وأعرف محلّها ، فما بالك بالمهاجرين ، والذين فيهم الكبار ، وهم أهل مكّة ، كيف لا يعرفونها مع هذا العدد الضخم ؟ الذي لا يقل عن 1400 نفر من المبايعين ؟!
فهذا كُلّه يشهد لصحّة كلام نافع مولى ابن عمر ، من أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي قطعها ، ويبطل قول سعيد بن المسيّب ، بل لا يمكن تصحيح كلام سعيد بن المسيّب بتاتاً ، والقضية مشهورة عند علماء المسلمين ، وإليك بعض كلماتهم :
قال ابن أبي الحديد : " قد وجدنا في الآثار والأخبار في سيرة عمر أشياء تناسب قولـه هذا في الحجر الأسود ، كما أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحتها بيعة الرضوان في عمرة الحديبية ، لأنّ المسلمين بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) كانوا يأتونها فيقيلون تحتها ، فلمّا تكرّر ذلك أوعدهم عمر فيها ، ثمّ أمر بها فقطعت " (13) .
واثبت هذا القول ابن الجوزي في " زاد المسير " (14) ، وذكرها السيوطي في " الدرّ المنثور " (15) ، والشوكاني في " فتح القدير " (16) .
وأمّا ما نقلته عن الطبري فلا ربط لـه بالمقام ، إذ إنّ عمر مرّ بالمكان بعد أن ذهبت الشجرة ، والكلام هو فيمن أذهب الشجرة ؟ لا بعد ذهاب الشجرة ، ولا يوجد أيّ مستند على ذهاب السيل بها ، أو شيء آخر ، وإنّما هو كلام بلا سند .
ثمّ إنّ في رواية سعيد بن المسيّب عن أبيه عبارة وهي : " أنسيناها " أو " نسيناها "، والبخاري أورد " أتيناها " ، أي أن فعل الانساء خارج عن إرادتهم ، ولم يكن منهم ، فكأنّما الله أنساهم مكان الشجرة ، وهذا شيء فيه استفهام كبير ، إذ ما السر في انسائهم مكان شجرة التي بايعوا تحتها بيعة الحديبية .
وأمّا قولك أخيراً : " قلت : حاصل ما ذكره ... " ، فقد اتّضح ما فيه بعد وضوح كون الصحابة الذين بايعوا أكثر من أربعة عشر مائة ، ومنهم من المهاجرين ، والمكان لا يبعد عن مكّة إلاّ نصف يوم ، فكيف خفي عليهم ؟!
وكيف لم يخف على جابر بن عبد الله الأنصاري الحدث السن في تلك الأيّام ، والذي يبعد عن مكّة أربعة أيّام ونصف ، ويخفى على المهاجرين أهل البلد ؟!
هذا ملخّص ما جال في البال ، وإلاّ فللمقام كلام يطول به ، أعرضنا عنه اختصاراً .


______________
1- فتح الباري 7 / 345 .
2- صحيح البخاري 5 / 64 .
3- المصدر السابق 5 / 65 .
4- نفس المصدر السابق .
5- جامع البيان 26 / 112 .
6- فتح الباري 7 / 344 .
7- الباعث الحثيث : 57 .
8- سير أعلام النبلاء 5 / 98 .
9- تهذيب الكمال 29 / 306 .
10- معجم البلدان 2 / 229 .
11- صحيح البخاري 5 / 63 .
12- معجم البلدان 2 / 229 .
13- شرح نهج البلاغة 12 / 101 .
14- زاد المسير 7 / 167 .
15- الدرّ المنثور 6 / 73 .
16- فتح القدير 5 / 52 .