السؤال : كيف يمكن الردّ على من يقول : أنّ الإفطار في السفر ليس واجباً بل هو اختياري ، وهو يعتمد على قولـه تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (1) ، أرجو أن يكون الردّ مفصّلاً .
الجواب : اتّفقت كلمة الفقهاء من الفريقين على مشروعية الإفطار في السفر تبعاً للذكر الحكيم ، والسنّة المتواترة ، إلاّ أنَّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة ، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزاً أو واجباً .
ذهبت الإمامية ـ تبعاً لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ـ والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة ، واختاره من الصحابة : عبد الرحمن بن عوف ، وعمر وابنه عبد الله ، وأبو هريرة ، وعائشة ، وابن عباس ، ومن التابعين : سعيد بن المسيّب ، وعطاء ، وعروة بن الزبير ، وشعبة ، والزهري ، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر ، ويونس ابن عبيد وأصحابه (2) .
وذهب جمهور أهل السنّة ـ وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة ـ إلى كون الإفطار رخصة ، وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم .
ويدلّ على كون الإفطار في السفر عزيمة : الكتاب والسنّة ثمّ إجماع الإمامية والظاهرية ، أمّا الكتاب فيدلّ عليه قولـه سبحانه : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (3) .
استثنى سبحانه صنفين : المريض والمسافر ، والفاء للتفريع ، والجملة متفرّعة على قولـه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } وعلى قولـه : { أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } فنبّه بالاستثناء على أنّه لو عرض عارض ـ من مرض أو سفر ـ فهو يوجب ارتفاع حكم الصوم ، وقضاءه بعد شهر رمضان { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وعلى هذا المعنى فالآية بدلالتها المطابقية تفرض عليهما القضاء الذي هو يلازم عدم فرض الصيام عليهما ، وهذا يدلّ على أنّ الإفطار عزيمة ، إذ المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو القضاء .
هذا وتظافرت السنّة المتواترة الواردة من طرق الشيعة والسنّة على أنّ الإفطار في السفر عزيمة ، ونذكر من كُلّ من الفريقين حديثين للاختصار ، وإذا أردت المزيد فعليك بكتاب البدعة للشيخ السبحاني :
1ـ عن الزهري عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال : " وأمّا صوم السفر والمرض ، فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك ، فقال : يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وأمّا نحن فنقول : يُفطر في الحالين جميعاً ، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء ، فإنّ الله تعالى يقول : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فهذا تفسير الصيام " (4) .
2ـ عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : " سمّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوماً صاموا حين أفطر وقصّر : عُصاة ، وقال : هُم العصاة إلى يوم القيامة ، وإنّا لنعرف أبناء أبنائهم إلى يومنا هذا " (5) .
وأمّا ما رواه أهل السنّة في مجال الإفطار :
1ـ عن جابر بن عبد الله : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان ، فصام حتّى بلغ كراع الغميم فصام الناس ، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ثمّ شرب ، فقيل لـه بعد ذلك : إنّ بعض الناس قد صام ؟ فقال : " أُولئك العصاة ، أُولئك العصاة " (6) .
وهذا الحديث صريح في أنّ الصوم في السفر معصية لا يجوز .
2ـ عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " (7).
هذا وإن استدلّ القائلون بكون الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة بقولـه تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } فالآية راجعة إلى المسافر ، فهو يدلّ مضافاً إلى جواز الصيام في السفر ، يدلّ على أفضليته فيه ، وينتج أنّ الإفطار رخصة والصيام أفضل .
ولكن يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو لم نقل بأنّ الآية الثانية { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... } (8) ناسخة للآية المتقدّمة برمّتها ، ومنها قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، وإلاّ فعلى القول بالنسخ ـ كما رواه البخاري ـ يسقط الاستدلال ، وإليك ما روى : قال : باب { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } (9) قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع : نسختها { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... } (10) .
وثانياً : إنّ الاستدلال مبنيّ على أن لا يكون قولـه سبحانه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ناسخاً لقولـه : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لـه } كما رواه البخاري عن ابن أبي ليلى ، أنّه حدّثه أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله) : نزل رمضان فشقّ عليهم ، فكان من أطعم كُلّ يوم مسكيناً ترك الصوم ممّن يطيقه ورخّص لهم في ذلك ، فنسختها : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } فأمروا بالصوم (11) .
إذ على هذا التفسير لا صلة بالمنسوخ والناسخ بالمسافر ، بل كلاهما ناظران إلى الحاضر ، فقد كان من يطيقه تاركاً للصوم مقدّماً للفدية ، فنزل الوحي وأمرهم بالصوم ، فأيّ صلة لـه بالموضوع .
وثالثاً : مع غضّ النظر عمّا سبق من الأمرين ، وتسليم أنّ الآية ليس فيها نسخ ـ كما هو الحقّ ـ نقول : إنّ قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } حضّ على الصيام ودعوة إلى تلك العبادة ، من غير نظر إلى المريض والمسافر والمطيق ، وإنّما هو خروج عن الآية بإعطاء بيان حكم كُلّي ، وهو أنّ الصيام خير للمؤمنين ، وليس عليهم أن يتخلّوا عنه لأجل تعبه ، ولأجل ذلك يقول : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
قال العلاّمة الطباطبائي : " قولـه تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }جملة متمّمة لسابقتها ، والمعنى بحسب التقدير : تطوّعوا بالصوم المكتوب عليكم ، فإنّ التطوّع بالخير خير ، والصوم خير لكم ، فالتطوّع به خير على خير .
وربما يقال : إنّ قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة ، فإنّ ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك ، فيناسب الاستحباب دون الوجوب ، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر ، فيستحبّ عليهم اختيار الصوم على الإفطار والقضاء .
ويرد عليه : عدم الدليل عليه أوّلاً ، واختلاف الجملتين ، أعني قولـه : { فَمَن كَانَ مِنكُم ... } ، وقولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } بالغيبة والخطاب ثانياً ، وأنّ الجملة الأُولى ليست مسوقة لبيان الترخيص والتخيير ، بل ظاهر قولـه : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } تعيّن الصوم في أيّام أُخر كما مرّ ثالثاً .
وأنّ الجملة الأُولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حقّ المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتّى يكون قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } بياناً لأحد طرفي التخيير ، بل إنّما ذكرت صوم شهر رمضان ، وصوم عدّة من أيّام أُخر ، وحينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره ، من مجرد قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } من غير قرينة ظاهرة رابعاً .
وأنّ المقام ليس مقام بيان الحكم حتّى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبياً ، بل المقام ـ كما مرّ سابقاً ـ مقام بيان ملاك التشريع ، وإنّ الحكم المشرّع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن ، كما في قولـه تعالى : { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } (12) ، وقولـه تعالى : { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } (13) ، وقولـه تعالى : { تُؤْمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (14) ، والآيات من ذلك كثيرة " (15) .
___________
1- البقرة : 184 .
2- أُنظر : المحلّى 6 / 258 ، المصنّف للصنعاني 2 / 567 .
3- البقرة : 184 .
2- وسائل الشيعة 10 / 174 .
5- الكافي 4 / 128 ، من لا يحضره الفقيه 1 / 435 و 2 / 141 ، تهذيب الأحكام 4 / 217 .
6- صحيح مسلم 3 / 141 ، مسند أبي يعلى 3 / 400 ، صحيح ابن خزيمة 3 / 255 ، صحيح ابن حبّان 6 / 423 .
7- سنن ابن ماجة 1 / 532 ، الجامع الصغير 2 / 91 ، كنز العمّال 8 / 503 ، الدرّ المنثور 1 / 191 .
8- البقرة : 185 .
9- البقرة : 184 .
10- صحيح البخاري 2 / 238 .
11- المصدر السابق 2 / 239 .
12- البقرة : 54 .
13- الجمعة : 9 .
14- الصف : 11 .
15- الميزان في تفسير القرآن 2 / 14 .