السؤال : وفّقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين ، وأظهر الحقّ على لسانكم وفي كتبكم المقدّسة ، يدّعي البعض بأنّ خروج عائشة في معركة الجمل عن عدم درايتها بأنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد تمّت لـه البيعة ، واستلام الخلافة لـه , وبالتالي هي معذورة في خروجها على الإمام في تلك الحرب ، حيث أنّها لو علمت لما خرجت على رأس الجيش ؟
الرجاء توضيح هذه الشبهة ، ولكم فائق الاحترام والتقدير .
الجواب : المعروف أنّ واقعة الجمل كان سببها خروج عائشة مع طلحة والزبير للمطالبة بدم عثمان ، إلاّ أنّ الثابت تاريخياً أنّ عائشة هي التي حرّضت الناس على قتل عثمان بن عفّان ، وأصدرت فتوى بقتله بعد نعته بنعثل اليهودي ، وقالت : " اقتلوا نعثلاً فقد كفر " (1) ، تعني عثمان ، وفي رواية أُخرى : " اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً " (2) تعني عثمان ، ونعثل هو رجل يهودي كان يعيش في المدينة طويل اللحية ، بل ورد أنّ حفصة وعائشة قالتا لعثمان :
"إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سمّاك نعثلاً تشبيها بنعثل اليهودي " (3) ، وقيل : " إنّ نعثل هو الشيخ الأحمق ، وهو رجل من أهل مصر كان طويل اللحية وكان يشبه عثمان " (4).
وقال ابن أبي الحديد : " قال كُلّ من صنّف في السير والأخبار : إنّ عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان ، حتّى أنّها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنّته " (5) .
وقد صدّق المسلمون ـ وعلى رأسهم الصحابة ـ دعوى عائشة ، واستجابوا لتحريضها ، فشاركوا في قتله ، ودفنوه في مقبرة اليهود (6) .
ولكن السؤال المثير هو : لماذا خرجت عائشة للمطالبة بدم عثمان ؟ وتجييش الجيوش من أجل ذلك ؟
قال الطبري عن تلك الأحداث : " أنّ عائشة لما انتهت إلى سرف ـ موضع ستة أميال من مكّة ـ راجعة في طريقها إلى مكّة ، لقيها عبد ابن أُمّ كلاب ، وهو عبد ابن أبي سلمة ينسب إلى أُمّه ، فقالت لـه : مهيم ؟
قال : قتلوا عثمان ، فمكثوا ثمانياً ، قالت : ثمّ صنعوا ماذا ؟
قال : أخذها أهل المدينة بالاجتماع ، فجازت بهم الأُمور إلى خير مجاز ، اجتمعوا على علي بن أبي طالب ، فقالت : والله ليتَ إنّ هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك ، ردّوني ردّوني ، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول : قتل والله عثمان مظلوماً ، والله لأطلبن بدمه ، فقال لها ابن أُمّ كلاب : ولم ؟ فو الله أنّ أوّل من أمال حرفه لأنتِ ، ولقد كنتِ تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر .
قالت : إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه ، وقد قلت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل ، فقال ابن أُمّ كلاب :
منكِ البداء ومنكِ الغير ومنكِ الرياح ومنكِ المطر
وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام وقلتِ لنا أنّـه قد كفـر
فهبنا أطعناكِ في قتلـه وقاتلـه عندنا من أمـر
إلى آخر الأبيات .
فانصرفت إلى مكّة ، فنزلت على باب المسجد ، فقصدت الحجر ، فسترت واجتمع إليها الناس ، فقالت : يا أيّها الناس ، إنّ عثمان قُتل مظلوماً ، ووالله لأطلبن بدمه " (7) .
والحاصل : إنّ عائشة كانت تعلم بمبايعة الناس لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، ومن هنا كانت نقطة الانقلاب في موقفها ، وبمراجعة يسيرة إلى المصادر التاريخية تجد أنّ عائشة حتّى عند إخبارها بمقتل عثمان قبل علمها بمبايعة علي (عليه السلام) كانت تسمّيه نعثلاً وتتشفّى بمقتله ، ولكن علمها بمبايعة الإمام (عليه السلام) قلب موقفها تماماً ، وقادها إلى القيام بتلك الفتنة الكبيرة التي راح ضحيّتها عشرات الآلاف من المسلمين ، فكيف لا تعلم عائشة بمبايعة الناس لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وهي عندما قدمت إلى البصرة وجدت عليها عثمان بن حنيف عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) عليها ، وقد أرسل أليها أبو الأسود الدؤلي يسألها عن خبرها ، وعن علّة مجيئها إلى البصرة ، فقالت لـه : أطلب بدم عثمان ، قال : إنّه ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد ، قالت : صدقت ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة (8) .
وعندما لم تجد عائشة آذاناً صاغية من عثمان بن حنيف وأصحابه في البصرة في مطالبها ، اشتد النزاع بين الفريقين حتّى حصلت تلك الواقعة المسمّاة بـ " واقعة الجمل الأصغر " ، والتي كان من آثارها أن قتل أربعون رجلاً من شيعة علي (عليه السلام) في المسجد ، وسبعون آخرون في مكان آخر ، وأسروا عثمان بن حنيف ، وكان من فضلاء الصحابة ، فأرادوا قتله ، ثمّ خافوا أن يثأر لـه أخوه سهل والأنصار ، فنتفوا لحيته وشاربيه وحاجبيه ورأسه وضربوه وحبسوه ، ثمّ طردوه من البصرة (9) .
وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد أخبر عائشة عن خروجها هذا وحذّرها منه ، وقال لها : " لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب " ، والحوأب هو وادي كثير الماء نبحت كلابه عند مسير عائشة إلى البصرة ، وعندما سألت عنه أخبروها أنّ هذا المكان يسمّى بماء الحوأب .
فقالت : ردّوني ، ردّوني ، وذكرت التحذير الذي سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولكن وبمحضر من طلحة والزبير أحسّ بجسامة الموقف ، فاحضر خمسين رجلاً ، وشهدوا بأنّ هذا المكان لا يسمّى بماء الحوأب ، وكانت تلك أوّل شهادة زور في الإسلام كما يذكره المؤرّخون (10) .
وخلاصة القول في مسير عائشة هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة لـه : " أيّها الناس ، إنّ عائشة سارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير ، وكُلّ منهما يرى الأمر لـه دون صاحبه ، أمّا طلحة فابن عمّها ، وأما الزبير فختنها ، والله لو ظفروا بما أرادوا ـ ولن ينالوا ذلك أبداً ـ ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد ، والله إنّ راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة ، ولا تحل عقدة إلاّ في معصية الله وسخطه ، حتّى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة " (11) .
وقد حذّر الله سبحانه قبل هذا نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الخروج من بيوتهنّ وأمرهنّ بالقرار فيها بقولـه : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى }(12) ، ولذا نقول : ما حكم من خرجت من بيتها ومدينتها بل وكُلّ بلادها ، وذهبت إلى بلاد أُخرى تبعد عنها آلاف الأميال ، وأشعلت كُلّ هذه الفتنة التي يراها البعض بداية لفتن صفّين والنهروان ، وثمّ تولّي معاوية على رقاب المسلمين ، ثمّ واقعة كربلاء ، وما جرى على المسلمين إلى يومنا هذا ؟ التي يعدّها البعض نتيجة حتمية لضعف العرب والمسلمين بسبب الفتن التي أشعلها الأوائل بوجه الخلافة العلوية .
ولا نريد أن نشير هنا إلى قول النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي رواه مسلم عن ابن عمر قال : خرج رسول الله من بيت عائشة فقال : " رأس الكفر من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان " (13) ، بل جاء في صحيح البخاري عن عبد الله قال : قام النبيّ (صلى الله عليه وآله) خطيباً ، فأشار نحو مسكن عائشة فقال : " هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة ، من حيث يطلع قرن الشيطان " (14) .
____________
1- تاريخ الأُمم والملوك 3 / 477 ، شيخ المضيرة أبو هريرة : 171 .
2- تاج العروس 8 / 141 ، لسان العرب 11 / 670 ، شرح نهج البلاغة 6 / 215 و 20 / 22 .
3- كشف الغمّة 2 / 108 .
4- لسان العرب 11 / 699 .
5- شرح نهج البلاغة 6 / 215 .
6- أُنظر : الطبقات الكبرى 3 / 78 .
7- تاريخ الأُمم والملوك 3 / 476 .
8- شرح نهج البلاغة 6 / 226 .
9- تاريخ الأُمم والملوك 3 / 485 ، انساب الأشراف : 225 ، أُسد الغابة 2 / 40 ، شرح نهج البلاغة 6 / 226 .
10- أُنظر : مسند أبي يعلى 8 / 282 ، شرح نهج البلاغة 6 / 225 و 9 / 310 ، انساب الأشراف : 224 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 181 ، البداية والنهاية 7 / 258 ، المناقب : 181 .
11- شرح نهج البلاغة 1 / 233 .
12- الأحزاب : 33 .
13- صحيح مسلم 8 / 181 .
14- صحيح البخاري 4 / 46 .
( عيسى الشيباني . الإمارات . 26 سنة . طالب ثانوية عامّة ) كانت تعلم بمبايعة الناس لعلي (عليه السلام)
- الزيارات: 497