السؤال : تعتقد الشيعة على خلاف أهل السنّة العصمة التامّة والكاملة للرسول محمّد (صلى الله عليه وآله) ، حتّى في الشؤون المتعلّقة بالحياة المعيشية ، فما قولكم في المسألة ؟
خاصّة وأنّ الكثير من النصوص القرآنية والشواهد التاريخية تثبت ـ بما لا يدع مجالاً للشكّ ـ ما يذهب إليه أهل السنّة ، فما قولكم في واقعة أسرى بدر ؟ وترخيصه لبعض من تخلّف من المقاتلين في عدم المشاركة في الجهاد ، أو النزول عند الموقع المحدّد في واقعة بدر الكبرى ، وكذلك تأبير النخل في الحديث المشهور عنه (صلى الله عليه وآله) : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " حين بدا لـه عدم صواب رأيه ؟
المرجو إيفادنا بالشرح المستفيض والدقيق ، معزّزاً بالأدلّة الشرعية من مصادر أهل السنّة ، وكذلك الشيعة ما أمكن ، لكُلّ حادثة من الحوادث المذكورة أعلاه ، ولكم جزيل الشكر والامتنان .
الجواب : إنّ الأدلّة القائمة على العصمة التامّة ـ للأنبياء (عليهم السلام) عموماً ، ولنبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) خصوصاً ـ أدلّة عقلية ونقلية لا يعتريها الشكّ والريب ـ كما قرّر في محلّه ـ وعليه فلابدّ من تأويل ما جاء خلافه ـ إن صحّ سنده ـ فإنّ ما يوهم خلاف تلك القاعدة مردود ، إذ أنّ القاعدة المذكورة لم تبتن على الأمثلة حتّى يرد عليها النقض ، بل يجب أن يفسّر كُلّ حادث على ضوء تلك القاعدة .
ثمّ إنّ ما ذكرتموه في المقام ، لا يصلح لأن يكون مورداً للنقض لما يلي :
أوّلاً : إنّ ما ذكر في بعض كتب السير والتاريخ ـ من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد نزل أدنى ماء ببدر أوّلاً ، وثمّ بعد ما أشار عليه الحباب بن المنذر بأن ينزل أدنى ماء من القوم ، ويصنع أحواضاً ويمنع المشركين من الماء ، صوّب الرسول (صلى الله عليه وآله) رأيه وأمر بتنفيذه ـ لم يصحّ لوجوه :
منها : إنّ المشركين هم الذين سبقوا بالنزول في بدر ، ولا يعقل أن ينزلوا في مكان لا ماء فيه ، ويتركوا الماء لغيرهم من المسلمين .
ومنها : إنّ العدوة القصوى التي نزلها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضاً لابأس بها ، على العكس ممّا نزلها المسلمون ، وهي العدوة الدنيا ، إذ كانت غبار تسوخ فيها الأرجل ، ولم يوجد فيها الماء (1) .
ومنها : إنّ ابن الأثير ـ من أصحاب السير ـ ينصّ على أنّ المشركين وردوا الحوض ، فأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن لا يعترضوهم (2) .
ومنها : إنّ المنع من الماء لا ينسجم مع أخلاقيات ومبادئ الإسلام ونبيّه الأعظم (صلى الله عليه وآله) .
فإذاً ، الصحيح هو الرواية التي تقول بأنّ المسلمين لم يكونوا على الماء ، فأرسل الله السماء عليهم ليلاً حتّى سال الوادي ، فاتخذوا الحياض كما جاء في الذكر الحكيم : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } (3) ، وهذا هو سرّ بناء الأحواض لا ما ذكروه .
ثانياً : إنّ البعض قد ذكروا : أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) رخّص طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد وعثمان في عدم المشاركة في بدر ، ثمّ ضرب لهم سهامهم من الغنائم .
وهذا أيضاً من الموضوعات ، إذ جاء في بعض الكتب : أنّ العلّة للتخلّف في الأوّليين ـ طلحة وسعيد ـ هو التجسّس لخبر العير بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) (4) ، وجاء في بعضها الآخر : أنّهما كانا في تجارة إلى الشام (5) ؛ فإذا كانت العلّة هذه ، هل يعقل أن يضرب لهما سهامهما من الغنائم ؟! خصوصاً أنّ السيوطي وغيره ينكران هذه الفضيلة لغير عثمان (6) .
وأمّا في مورد عثمان ، فإنّ الرواية التي تذكر علّة تخلّفه ـ أنّها لتمريض زوجته رقية بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ متعارضة مع الرواية التي تصرّح بأنّ العلّة هي إصابة عثمان نفسه بالجدري (7) .
وأيضاً كان بعض المسلمين يعيّرون عثمان بعدم حضوره في بدر ، وهذا لا ينسجم مع رخصته فيه ، إذ كيف خفي هذا العذر على مثل عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود (8) .
وأخيراً : لقد جاء في حديث مناشدة علي (عليه السلام) لأصحاب الشورى ـ وفيهم طلحة وعثمان ـ قولـه : " أفيكم أحد كان لـه سهم في الحاضر وسهم في الغائب " ؟ قالوا : لا (9) ، وهذا يفنّد كلام القوم من الأساس !!
ثالثاً : إنّ ما يذكر من خطأ اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ والعياذ بالله ـ في موضوع أُسرى بدر لا أساس لـه من الصحّة ، فالآية التي يشير إليها البعض في المقام { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لـه أَسْرَى ... } (10) في وزان إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، فالمقصود من الآية المسلمون لا النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، إذ أنّ الالتزام به يكون بمعنى مخالفة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأوامر الوحي ، وهذا محالّ .
ولكنّ المعنى أنّ الصحيح في المقام هو الحكم الأوّلي في شأن الأسرى ببدرٍ كان القتل ، وهو حكم خاصّ بهم ، لا أنّ الفداء لا يحلّ أبداً في الأسرى ، إذ قد عمل به ـ الفداء ـ في واقعة عبد الله بن جحش قبل بدر بأزيد من عام ، ولم ينكره الله تعالى (11) ، وبعدما أصرّ المسلمون على مخالفة ذلك الحكم الأوّلي ، عاتبهم الله تعالى فاستحقّوا العذاب ثمّ عفا عنهم .
ويدلّ عليه أنّه جاء في بعض النصوص : أنّ جبرائيل (عليه السلام) أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) بكراهة ما صنعه قومه من أخذ الفداء ، وأخبره بأنّ الله أمره أن يخيّرهم بين قتل الأسرى وأخذ الفداء ، على أن يقتل منهم في المستقبل بعددهم ، فرضوا بالفداء والشهادة (12)، وعلى الأخصّ فقد نصّ البعض على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) مال إلى القتل (13) .
رابعاً : إنّ حديث تأبير النخل ـ بالشكل الذي نقلوه ـ لا يوافق العقل والنقل ، لوجوه :
منها : إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يعيش في منطقة تغصّ بالنخل ، فهل يعقل أنّه لم يكن يعرف تأثير تأبير النخل وفائدته ؟ وأنّ النخل لا ينتج بدونه ؟! والحال نرى أنّ الرواية المزعومة تقول : بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) نفى لزوم التأبير فتركوه.
ومنها : كيف نصدّق بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يرضى بإدخال ذلك الضرر الجسيم عليهم ـ عدم نتاج نخلهم ـ بتصرّفه فيما ليس من اختصاصه ؟!
ومنها : إنّه (صلى الله عليه وآله) كيف يقول لهم ـ حسب الرواية المذكورة ـ أنّ العملية كانت من ظنونه ـ والعياذ بالله ـ وليس لهم أن يؤاخذوه بالظنّ ، في الوقت الذي كان يحثّ الناس على كتابة ورواية ما يصدر عنه (14) .
وصفوة القول : أنّ العصمة لها أدلّتها القيّمة من العقل والنقل ، فلا تنثلم بما نقل بخلافها مع وهن السند والدلالة .
____________
1- فتح القدير 2 / 311 ، شرح نهج البلاغة 14 / 118 ، جامع البيان 10 / 14 ، زاد المسير 3 / 246 ، الجامع لأحكام القرآن 8 / 21 ، تفسير القرآن العظيم 2 / 326 ، الدرّ المنثور 3 / 166 ، الطبقات الكبرى 2 / 27 .
2- الكامل في التاريخ 2 / 123 .
3- الأنفال : 11 .
4- السيرة الحلبية 2 / 203 ، أُسد الغابة 2 / 307 ، تاريخ المدينة 1 / 219 ، سبل الهدى والرشاد 4 / 19 .
5- التنبيه والإشراف : 205 ، المستدرك 3 / 368 ، الاستيعاب لابن عبد البر 2 / 765 ، المعجم الكبير 1 / 110 .
6- السيرة الحلبية 2 / 254 .
7- المصدر السابق 2 / 253 .
8- مسند أحمد 1 / 68 و 75 ، مجمع الزوائد 7 / 226 ، الدرّ المنثور 2 / 89 ، تفسير القرآن العظيم 1 / 428 ، تاريخ مدينة دمشق 39 / 258 ، البداية والنهاية 7 / 231 .
9- كنز العمّال 5 / 725 ، تاريخ مدينة دمشق 42 / 435 .
10- الأنفال : 67 .
11- السيرة الحلبية 2 / 263 .
12- المصنّف للصنعاني 5 / 209 ، الطبقات الكبرى 2 / 22 ، عيون الأثر 1 / 373 ، الدرّ المنثور 3 / 202 .
13- الكامل في التاريخ 2 / 136 .
14- مجمع الزوائد 1 / 139 ، 151 ، الجامع الصغير 1 / 404 ، كنز العمّال 10 / 224 و 229 .
( علي . المغرب . سنّي . 28 سنة . طالب جامعة ) ردّ توهّمات أهل السنّة في عصمة النبيّ
- الزيارات: 457