السؤال : هل لخطبة البيان والطتنجية سند ؟ وإذا كان لها سند ألا تفيد الغلوّ ؟ شكراً لمساعيكم .
الجواب : كثيراً ما يتساءل عن خطبة البيان والخطبة الطتنجية سنداً ودلالةً ، بل كُلّ ما هناك من ألفاظ وصفات إلهية نسبت للمعصومين (عليهم السلام) ممّا تفيد الغلوّ ، بل
الشرك والكفر ، لو أُريد منها معانيها الظاهرية أمثال قولهم (عليهم السلام) : " نحن الأوّل ، والآخر ، والظاهر ، والباطن " وإلى غير ذلك .
فنقول وبالله التوفيق : إنّ الأُمّة المحمّدية قد خصّت من دون الأُمم بفضيلة الإسناد ، وفُضّلت على سائر الشرائع بنعمة الاستناد والاتصال بالمعصومين (عليهم السلام) بالرجال الثقات والممدوحين ، وعليه فكُلّ خبر ما لم يكن مسنداً متّصلاً لا قيمة لـه ولا حجّية ، من أيّ أحد صدر ، ولأيّ شخص نُسب ، وما أرسل منه أو رفع ، أو وقف لـه أحكامه الخاصّة به ، مذكورة في محلّها ، وعليه :
أوّلاً : لم يذكر لأمثال هذه الخطب سنداً معتبراً ، بل قد نجده أرسل ـ بالمعنى الأعم ـ مع أنّا نجد غالب كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبه مسندة في مواطن ، وإن كانت مرسلة في النهج وغيره .
ثانياً : صرف وجود خطبة أو رواية في كتاب ـ مهما كان ـ لا يكفي على مذهب الإمامية للحجّية ، ما لم يقرن بقرائن خاصّة مذكورة في محلّها ، وهذا ما يسمّى بالوجادة ، التي لا حجّية فيها ولا سندية لها في نفسها .
ثالثاً : إنّ إعراض العلماء موهن للخبر ، بل قد يسقطه عن الحجّية ، خصوصاً وهو في مرأى ومسمع منهم ، وأيضاً عدم وجوده في كتب الأُصول " لأُم " عند الطائفة ، وعدم درجه فيها مضعّف لـه .
رابعاً : وجود طائفة كبيرة من أخبار العرض ـ الأخبار العلاجية ـ وما ورد عنهم (عليهم السلام) مستفيضاً من قولهم عن الحديث : " ما خالف كتاب الله فهو : زخرف : لم نقله : وأضربه عرض الجدار ، و ... " ، وهي أحاديث لا تحصى كثرةً ، كما لنا أحاديث جمّة في إسقاط كُلّ حديث خالف العقول ، أو لزم منه الشرك والكفر ، إلاّ إذا أمكن تأويله أو حمله على محمل صحيح ، هذا بشكل عام ، وهي فائدة تنفع في موارد متعدّدة ، ومقامات أُخرى .
وأمّا ما يخصّ المقام فنقول :
أوّلاً : لقد نُسب للسيّد الخوئي (قدس سره) في خصوص خطبة البيان كون ألفاظها ركيكة ، وأنّها ليست بعربية فصيحة ، وأنّها مخالفة للسان أهل البيت (عليهم السلام) ، وهو كلام إنّما يتمّ عند أهل الفن خاصّة ، وفيه مجال للرّد والإبرام ، خصوصاً مع كون " حديثنا صعب مستصعب " ، وقولهم (عليهم السلام) : " ردّوه إلينا " ، كما ويخشى من تعميمه في مواطن أُخرى من غير من هو أهل لذلك .
ثانياً : وجود روايات صريحة صحيحة كثيرة مقابل هذه الأخبار الشاذّة النادرة ، وهذا كافٍ لإسقاطها عن الحجّية .
ثالثاً : إنّها مخالفة للعقل ، ولا يمكن القول بظاهرها من موحّد ، إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة ، التي لا غرض لنا هنا بإحصائها ، إذ لا نجد ثمّة ضرورة في ذلك .
والحاصل : إنّ عمدة الإشكال هنا أنّا لهم مع قولـه تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ... } (1) ، وقولـه عزّ من قائل : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (2) ، وقولـه عزّ اسمه : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } (3) وغيرها مثلاً وما أكثرها ، فكيف يردّ التعبير عنهم (عليهم السلام) أمثال هذه الألفاظ التي يستشمّ منها الغلوّ والكفر ، والعياذ بالله .
ولبّ الجواب عليه ـ فضلاً عمّا سلف ـ هو : إنّه وردت في كتبنا روايات كثيرة عنهم (عليهم السلام) صحيحة ، عندما ذكروا هذه الألفاظ فيها فسّروها لنا ، وقالوا : نقصد منها كذا ، فلو فسّرت بغير هذا من أيّ كان ، أو أخذ بظواهرها ، لكان ردّاً عليهم (عليهم السلام) ، ولابدّ من الأخذ بتأويلهم وبما فسّروه ، وإلاّ لكان باطلاً لم يقصدوه ولا يريدوه ، بل تقوّل عليهم وافتراء ، مثال ذلك :
أ ـ قولـه (صلى الله عليه وآله) : " أنا الأوّل والآخر " ، ثمّ فسّره بقولـه : " أوّل في النبوّة ، وآخر في البعثة " (4) .
ب ـ سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) : كيف أصبحت ؟ فقال : " أصبحت وأنا الصدّيق الأوّل الأكبر ، والفاروق الأعظم ، وأنا وصيّ خير البشر ، وأنا الأوّل وأنا الآخر ، وأنا الباطن وأنا الظاهر ، وأنا بكُلّ شيء عليم ، وأنا عين الله ، وأنا جنب الله ، وأنا أمين الله على المرسلين ، بنا عبد الله ، ونحن خزّان الله في أرضه وسمائه ، وأنا أُحيي وأنا أُميت ، وأنا حيّ لا أموت " .
فتعجّب الإعرابي من قولـه ، فقال (عليه السلام) : " أنا الأوّل ؛ أوّل من آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأنا الآخر ؛ آخر من نظر فيه لمّا كان في لحده ، وأنا الظاهر فظاهر الإسلام ، وأنا الباطن بطين من العلم ، وأنا بكُلّ شيء عليم ؛ فإنّي عليم بكُلّ شيء أخبر الله به نبيّه فأخبرني به ، فأمّا عين الله ؛ فأنا عينه على المؤمنين والكفرة ، وأمّا جنب الله ؛ فأن تقول نفس : يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله ، ومن فرّط فيّ فقد فرّط في الله ، ولم يخبر لنبيّ نبوّة حتّى يأخذ خاتماً من محمّد (صلى الله عليه وآله)، فلذلك سمّي خاتم النبيين محمّد سيّد النبيين ، فأنا سيّد الوصيين .
وأمّا خزّان الله في أرضه ؛ فقد علمنا ما علمّنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول صادق ، وأنا أُحيي ؛ أُحيي سنّة رسول الله ، وأنا أُميت ؛ أُميت البدعة ، وأنا حيّ لا أموت لقولـه تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ... } " (5) .
ج ـ روي أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان قاعداً في المسجد ، وعنده جماعة ، فقالوا لـه : حدّثنا يا أمير المؤمنين ، فقال لهم : " ويحكم إنّ كلامي صعب مستصعب ، لا يعقله إلاّ العالمون " ، قالوا : لابدّ من أن تحدّثنا ، قال : " قوموا بنا " ، فدخل الدار .
فقال : " أنا الذي علوت فقهرت ، أنا الذي أُحيي وأُميت ، أنا الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن " ، فغضبوا وقالوا : كفر !! وقاموا .
فقال علي (عليه السلام) للباب : " يا باب استمسك عليهم " ! فاستمسك عليهم الباب ، فقال : " ألم أقل لكم إنّ كلامي صعب مستصعب ، لا يعقله إلاّ العالمون ؟! تعالوا أفسّر لكم ، أمّا قولي : أنا الذي علوت فقهرت ، فأنا الذي علوتكم بهذا السيف فقهرتكم حتّى آمنتم بالله ورسوله ، وأمّا قولي : أنا أُحيي وأُميت ؛ فأنا أُحيي السنّة وأُميت البدعة .
أمّا قولي : أنا الأوّل ؛ فأنا أوّل من آمن بالله وأسلم ، وأمّا قولي : أنا الآخر ؛ فأنا آخر من سجّى على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ثوبه ودفنه ، وأمّا قولي : أنا الظاهر والباطن ، فأنا عندي علم الظاهر والباطن " .
قالوا : فرّجت عنا فرّج الله عنك (6) .
د ـ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : " قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : أنا وجه الله ، أنا جنب الله ، وأنا الأوّل ، وأنا الآخر ، وأنا الظاهر ، وأنا الباطن ، وأنا وارث الأرض ، وأنا سبيل الله ، وبه عزمت عليه " .
قال معروف بن خربوذ : ولها تفسير غير ما يذهب فيها أهل الغلوّ (7) .
وعلّق عليه العلاّمة المجلسي (قدس سره) بقولـه : " وبه عزمت عليه ، أي بالله أقسمت على الله عند سؤال الحوائج عنه " (8) .
____________
1- النجم : 43 ـ 44 .
2- الحديد : 3 .
3- البقرة : 258 .
4- إعلام الورى 1 / 51 ، كشف الغمّة 1 / 13 .
5- آل عمران : 169 ، مناقب آل أبي طالب 2 / 205 .
6- الاختصاص : 163.
7- اختيار معرفة الرجال 2 / 471 .
8- بحار الأنوار 39 / 349 .
( هادي محمّد . الكويت . ... ) ليس في خطبتي البيان والطتنجية غلوّ
- الزيارات: 438