• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

علم أئمة الشيعة بالغيب

شاعت القالة حول علم الائمَّة من آل محمَّد صوات الله عليه وعليهم ممّن أضمر الحنق على الشيعة وأئمتهم، فعندكلٍّ منهم حوشيٌّ من الكلام، يزخرف الزّلح من القول، ويخبط خبط عشواء، ويثبت البرهنة على جهله، كأنَّ الشيعة تفرَّدت بهذا الرأي عن المذاهب الاسلاميّة، وليس في غيرهم مَن يقول بذلك في إمام من أئمَّة المذاهب، فاستحقّوا بذلك كلَّ سبب وتحامل ووقيعة.
فحسبك ما لفّقه القصيمي في «الصِّراع» من قوله في صحيفة «ب» تحت عنوان: الائمة عند الشيعة يعلمون كلَّ شيء، والائمَّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيّاه، وهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلاّ باختيارهم، وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولايخفى عليهم شىءٌ ص 125 وص 126 (من الكافي للكليني).
ثمَّ قال: وفي الكتاب نصوص أُخرى أيضاً في المعنى، فالائمَّة يُشاركون الله في هذه الصفة، صفة علم الغيب، وعلم ما كان وما سيكون، وأنَّه لا يخفى عليهم شيءٌ، والمسلمون كلّهم يعلمون أنَّ الانبياء والمرسلين لم يكونوا يشاركون الله في هذه الصفة، والنصوص في الكتاب والسُنَّة وعن الائمَّة في أنَّه لا يعلم الغيب إلاّ الله متواترةٌ لا يستطاع حصرها في كتاب. إلخ.
ج ـ العلم بالغيب ـ أعني الوقوف على ما وراء الشهود والعيان من حديث ما غبر أو ما هو آت ـ إنَّما هو أمرٌ سائغٌ ممكنٌ لعامَّة البشر، كالعلم بالشهادة يُتصوَّر في كلِّ ما يُنبَّأ الانسان من عالم غابر، أو عهد قادم لم يَرَه ولم يشهده، مهما أخبره بذلك عالمٌ خبيرٌ، أخذاً من مبدأ الغيب والشهادة، أو علماً بطرق أُخرى معقولة، وليس هناك أيُّ وازع من ذلك.
وأمّا المؤمنون خاصَّة فأغلب معلوماتهم إنّما هو الغيب من الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وجنَّته وناره ولقائه والحياة بعد الموت والبعث والنشور ونفخ الصور والحساب والحور والقصور والولدان وما يقع في العرض الاكبر، إلى آخرما آمنَ به المؤمن وصدَّقه، فهذا غيبٌ كلّه، وأُطلق عليه الغيب في الكتاب العزيز، وبذلك عرَّف الله المؤمنين في قوله تعالى: (الَّذينَ يُؤمنون بالغيبِ) «البقرة 3»، وقوله تعالى: (الَّذينَ يَخشونَ ربَّهم بالغيب) «الانبياء 49» وقوله: (إنَّما تُنذر الَّذينَ يخشونَ ربَّهم بالغيب) «فاطر 18» وقوله: (إنَّما تُنذر مَن اتِّبع الذكر وخشيَ الرّحمن بالغيب) «يس 11» وقوله: (مَنْ خشي الرَّحمن بالغيب) «ق 33» وقوله: (إنّ الذينَ يخشونَ ربَّهم بالغيب لهم مغفرةٌ) «الملك 12» وقوله: (جنّاتِ عدن وعدَ الله عباده بالغيب) «مريم 61».
ومنصب النبوَّة والرِّسالة يستدعي لمتولِّيه العلم بالغيب من شتّى النواحي مضافاً إلى ما يعلم منه المؤمنون، وإليه يشير قوله تعالى: (كلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرُّسل ما نثبِّت به فؤادك وجاءك في هذه الحقّ وموعظة وذكرى للمؤمنين) «هود 120».
ومن هنا قصَّ على نبيّه القصص، وقال بعد النبأ عن قصّة مريم: (تِلكَ من أنباءِ الغيب نوحيها إليك) «هود 49».
وقال بعد قصّة إخوان يوسف: (ذَلِكَ مِن أنباءِ الغيب نوحيه إليك) «يوسف 102».
وهذا العلم بالغيب الخاصّ بالرُّسل دون غيرهم ينصُّ عليه بقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يُظهر على غيبة أحداً إلاّ من ارتضى من رسول)(1) نعم: (ولا يُحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء)(2) (وما أُوتيتم من العلم إلاّ قليلاً)(3) .
فالانبياء والاولياء والمؤمنون كلّهم يعلمون الغيب بنصٍّ من الكتاب العزيز، ولكلٍّ منهم جزءٌ مقسوم، غير أنَّ علم هؤلاء كلّهم بلغ ما بلغ محدودٌ لا محالة كمّاً وكيفاً، وعارضٌ ليس بذاتيٍّ، ومسبوقٌ بعدمه ليس بأزليٍّ، وله بدءٌ ونهايةٌ ليس بسرمديٍّ، ومأخوذٌ من الله سبحانه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو)(4) .
والنبيّ ووارث علمه في أُمّته(5) يحتاجون في العمل والسير على طبق علمهم بالغيب من البلايا، والمنايا، والقضايا، وإعلامهم الناس بشيء من ذلك، إلى أمر المولى سبحانه ورخصته، وإنَّما العلم، والعمل به، وإعلام الناس بذلك، مراحل ثلاث لادخل لكلِّ مرحلة بالاُخرى، ولا يستلزم العلم بالشيء وجوب العمل على طبقه، ولا ضرورة الاعلام به، ولكلٍّ منها جهاتٌ مقتضيةٌ ووجوهٌ مانعةٌ لابُدَّمن رعايتها،وليس كلّما يُعلم يُعمل به، ولاكلّمايعُلم يُقال.
قال الحافظ الاُصولي الكبير الامام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفّى 790 هـ في كتابه القيِّم (الموافقات في أُصول الاحكام) ج 2 ص 184: لو حصلت له مكاشفة بأنَّ هذا المعيَّن مغصوبٌ أونجسٌ، أو أنَّ هذا الشاهد كاذبٌ، أو أنَّ المال لزيد، وقد تحصّل (للحاكم) بالحجّة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصحُّ له العمل على وفق ذلك مالم يتعيّن سببٌ ظاهرٌ، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمّم، ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يد على حال، فإنّ الظواهر قد تعيَّن فيها بحكم الشريعة أمرٌ آخر، فلا يتركها، إعتماداً على مجرَّد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النوميّة، ولو جاز ذلك لجاز نقض الاحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: «إنَّكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأحكم له على نحوما أسمع منه»(6) الحديث.
فقيَّد الحكم بمقتضى مايسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثيرٌ من الاحكام التي تجري على يديه يطّلع على أصلها وما فيها من حقٍّ وباطل، ولكنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يحكم إلاّ على وفق ماسمع، لا على وفق ما علم(7) وهو أصلٌ في منع الحاكم أن يحكم بعلمه، وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه: أنّ الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمّد الكذب، لانّه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكماً بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفاداً من العادات التي لا ريبة فيها لامِن الخوارق التي تداخلها أُمور، والقائل بحصّة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره رسول الله (صلى الله عليه وآله)وهو الحجّة العظمى.
إلى أن قال: في ص 187. إنّ فتح هذا الباب يؤدِّي إلى أن لا يُحفظ ترتيب الظواهر، فإنَّ من وجب عليه القتل بسبب ظاهر فالعذر فيه ظاهرٌ واضحٌ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرَّد أمر غيبيٍّ ربَّما شوَّش الخواطر وران على الظواهر، وقد فُهِمَ من الشرع سَدّ هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أنَّ البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر، ولم يُستثن من ذلك أحدٌ حتّى أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) احتاج إلى البيِّنة في بعض ما أُنكر فيه ممّا كان اشتراه فقال: «مَن يشهد لي»؟ حتّى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين. فما ظنّك بآحاد الاُمَّة، فلو ادَّعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحدٌ، فالاعتبارات الغيبيَّة مهملةٌ بحسب الاوامر والنواهي الشرعيَّة.
وقال في ص 189: فصلٌ: إذا تقرّر إعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها؟ فالقول في ذلك: إنّ الاُمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدَّم وذلك على أوجه:
أحدها: أن يكون في أمر مباح، كأن يرى المكاشف أنَّ فلاناً يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة، أو يطَّلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حقٍّ أو باطل وما أشبه ذلك، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفَّظ من مجيئه إن كان قصده بشرٍّ، فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك، لكن لا يُعامله إلاّ بما هو مشروعٌ كما تقدَّم.
الثاني: أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها، فإنَّ العاقل لا يدخل على نفسه مالعلّه يخاف عاقبته، فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها أو غيره، والكرامة كما أنَّها خصوصيّةٌ كذلك هي فتنةٌ واختبارٌ لينظر كيف تعملون، فإن عرضت حاجةٌ أو كان لذلك سببٌ يقتضيه فلا بأس. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)يخبر بالمغيَّبات للحاجة إلى ذلك، ومعلومٌ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يخبر بكلِّ مغيَّب إطَّلع عليه، بل كان ذلك في بعض الاوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصَّلاة والسَّلام المصلّين خلفه: أنَّه يراهم من وراء ظهره. لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر كراماته ومعجزاته، فعمل أُمَّته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الاوَّل، ولكنَّه مع ذلك في حكم الجواز، لما تقدَّم من خوف العوارض كالعجب ونحوه.
الثالث: أن يكون فيه تحذيرٌ أو تبشيرٌ، ليستعدَّ لكلٍّ عدَّته، فهذا أيضاً جائزٌ، كالاخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا، أولا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك... إلى آخره.
فهلاّ كان من الغيب نبأ إبني نوح، وأنباء قوم هود وعاد وثمود، وقوم إبراهيم ولوط، وذكرى ذي القرنين، ونبأ مَن سلف من الانبياء والمرسلين؟!
وهلاّ كان منه ما أسرَّ به النبيُّ (صلى الله عليه وآله) إلى بعض أزواجه فأفشته إلى أبيها، فلمّا نبّأها به وقالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبَّأني العليم الخبير؟ «التحريم 3».
وهلاّ كان منه ما أنبأ موسى صاحبه من تأويل مالم يستطع عليه صبراً؟ «الكهف».
وهلاّ كان منه ما كان يقول عيسى لاُمَّته (وأُنبِّئكم بما تأكلون وماتدَّخرون في بيوتكم) ؟ «آل عمران 49».
وهلاّ كان من منه قول عيسى لبني إسرائيل: (يا بني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة ومبشِّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) ؟ «الصف 6».
وهلاّ كان منه ما أوحى الله تعالى إلى يوسف: (لتنبئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) ؟ «يوسف 15».
وهلاّ كان منه ما أنبأ آدم الملائكة من أسمائهم أمراً من الله (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) ؟ «البقرة 33».
وهلاّ كانت منه تكلم البشارات الجمّة المحكيّة عن التوراة والانجيل والزَّبور وصحف الماضين وزبر الاوَّلين بنبوَّة نبيِّ الاسلام وشمائله وتأريخ حياته وذكر أُمّته؟.
وهلاّ كانت منه تلك الانباء الصحيحة المرويَّة عن الكهنة والرهابين والاقسَّة حول النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ولادته؟.
ليس هناك أيّ منع وخطر إن علّم الله أحداً ممّن خلق بما شاء وأراد من الغيب المكتوم من علم ما كان أوسيكون، من علم السَّماوات والارضين، من علم الاوَّلين والاخرين، من علم الملائكة والمرسلين. كما لم يُر أيّ وازع إذا حَبا أحداً بعلم ما شاء من الشهادة وأراه ما خلق كما أرى إبراهيم ملكوت السّماوات والارض. ولا يُتصوَّر عندئذ قطُّ اشتراك مع المولى سبحانه في صفته العلم بالغيب، ولا العلم بالشهادة ولو بلغ علم العالم أيَّ مرتبة رابية، وشتّان بينهما، إذ القيود الامكانيّة البشريّة مأخوذةٌ في العلم البشريِّ دائماً لا محالة، سواءٌ تعلّق بالغيب أو تعلّق بالشهادة، وهي تلازمه ولا تفارقه، كما أنَّ العلم الالهي بالغيب أو الشهادة تؤخذ فيه قيود الاحديّة الخاصّة بذات الواجب الاحد الاقدس سبحانه وتعالى.
وكذلك الحال في علم الملائكة، لو أذن الله تعالى إسرافيل مثلاً وقد نصب بين عينيه اللوح المحفوظ الذي فيه تبيان كلّ شيء أن يقرأ ما فيه ويطلّع عليه لم يُشارك الله قطُّ في صفته العلم بالغيب، ولا يلزم منه الشرك.
فلا مقايسة بين العلم الذاتيِّ المطلق وبين العرضيِّ المحدود، ولا بين ما لا يكيَّف بكيف ولا يؤيَّن بأين وبين المحدود المقيَّد، ولا بين الازليِّ الابديِّ وبين الحادث الموقَّت، ولا بين التأصليِّ وبين المكتسب من الغير، كما لا يُقاس العلم النبويُّ بعلم غيره من البشر، لاختلاف طُرق علمهما، وتباين الخصوصيّات والقيود المتَّخذة في علم كلٍّ منهما، مع الاشتراك في إمكان الوجود، بل لا مقايسة بين علم المجتهد وبين علم المقلّد فيما عملما من الاحكام الشرعيَّة ولو أحاط المقلّد بجميعها، لتباين المباديء العلميَّة فيهما.
فالعلم بالغيب على وجه التأصّل والاطلاق من دون قيد بكمٍّ وكيف كالعلم بالشهادة على هذا الوجه إنّما هما من صفات الباري سبحانه، ويخصّان بذاته لا مطلق العلم بالغيب والشهادة، وهذا هو المعنيُّ نفياً وإثباتاً في مثل قوله تعالى: (قل لا يعلم مَن في السَّمواتِ والارض الغيب إلاّ الله) «النمل 65»، وقوله تعالى: (إنّ الله عالم غيب السَّموات والارض إنَّه عليمٌ بذات الصدور) «فاطر 38»، وقوله تعالى: (إنَّ الله يعلم غيب السَّموات والارض بصيرٌ بما تعملون) «الحجرات 18»، وقوله تعالى: (ثمَّ تردّون إلى عالم الغيبِ والشهادةِ فينبِّئكم بما كنتم تعملون) «الجمعة 8»، وقوله تعالى: (عالم الغيبِ والشهادةِ هو الرَّحمن الرَّحيم) «السجدة 6»
وقوله تعالى: (عالم الغيبِ والشهادةِ العزيز الحكيم) «التغابن 18»، وقوله تعالى حكايةً عن نوح: (لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنّي ملك) «انعام 50، هود 31»، وقوله تعالى حكايةً: (لوكنت أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير) «الاعراف 188».
وبهذا التفصيل في وجوه العلم يُعلم عدم التعارض نفياً وإثباتاً بين أدلَّة المسألة كتاباً وسُنّة، فكلُّ من الادلَّة النافية والمثبتة ناظرٌ إلى ناحية منها، والموضوع المنفيُّ من علم الغيب في لسان الادلَّة غير المثبت منه، وكذلك بالعكس. وقد يوعز إلى الجهتين في بعض النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، مثل قول الامام أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) مجيباً يحيى بن عبدالله بن الحسن لَمّا قاله: جعلت فداك انَّهم يزعمون أنّك تعلم الغيب؟ فقال (عليه السلام): «سبحان الله، ضع يدك على رأسي فوالله ما بقيت شعرةٌ فيه ولا في جسدي إلاّ قامت»، ثمّ قال: «لا والله ما هي إلاّ وراثة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(8) .
وكذلك الحال في بقيَّة الصفات الخاصّة بالمولى العزيز سبحانه وتعالى، فإنّها تمتاز عن مضاهاة ما عند غيره تعالى من تلكم الصفات بقيودها المخصّصة، فلو كان عيسى على نبيِّنا وآله وعليه السلام يُحيي كلَّ الموتى بإذن الله، أو كان خَلق عالماً بشراً من الطين باذن ربِّه بدل ذلك الطير الذي أخبر عنه بقوله: (إنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله) «آل عمران 49»، لم يكن يُشارك المولى سبحانه في صفته الاحياء والخلق، والله هو الوليّ، وهو محيي الموتى، وهو الخلاّق العليم.
وإنّ الملك المصوِّر في الارحام، مع تصويره ما شاء الله من الصور وخلقه سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها(9) ، لم يكن يشارك ربَّه في صفته، والله هو الخالق البارئ المصِّور، وهو الذي يصِّور في الارحام كيف يشاء.
والملك المبعوث إلى الجنين الذي يكتب رزقه وأجله وعمله ومصائبه وما قدّر له من خير وشرٍّ وشقاوته وسعادته ثمّ ينفخ فيه الروح(10) لا يشارك ربّه، والله هو الذي لم يكن له شريكٌ في الملك وخلق كلَّ شيء فقدَّره تقديراً.
وملك الموت مع أنّه يتوفَّى الانفس، وأنزل الله فيه القرآن وقال: (قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وُكّل بكم) «السجدة 11»، صحَّ مع ذلك الحصر في قوله تعاليع: (ألله يتوفّى الانفس حين موتها) ، والله هو المميت ولا يشاركه ملك الموت في شيء من ذلك، كما صحّت النسبة في قوله تعالى: (الَّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) «النحل 28»، وفي قوله تعالى: (الَّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين) «النحل 32»، ولا تعارض في كلِّ ذلك ولا إثم ولا فسوق في إسناد الاماتة إلى غيره تعالى.
والمَلك لا يغشاه نوم العيون(11) ولا تأخذه سِنة الراقد بتقدير من العزيز العليم وجعله، ومع ذلك لا يشارك الله فيما مدح نفسه بقوله: (لا تأخذه سِنةٌ ولا نومٌ) .
ولو أنَّ أحداً مكّنه المولى سبحانه من إحياء موتان الارض برمّتها لم يشاركه تعالى والله هو الذي يحيي الارض بعد موتها.
فهلمَّ معي نسائل القصيمي عن أنَّ قول الشيعة بأنَّ الائمّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيَّاه، كيف يتفرَّع عليه القول بأنَّ الائمّة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب؟ وما وجه الاشتراك بعد فرض كون علمهم بإخبار من الله تعالى وإعلامه؟
وقد ذهب على الجاهل أنَّ الحكم بأنَّ القول بعلم الائمّة بما كان وما يكون ـ وليس هو كلّ الغيب ولا جلّه ـ وعدم خفاء شيء من ذلك عليهم يستلزم الشرك بالله في صفة علمه بالغيب، تحديدٌ لعلم الله، وقولٌ بالحدِّ في صفاته سبحانه، ومَن حدَّه فقد عدَّه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. والنصوص الموجودة في الكتاب والسنّة على أن لا يعلم الغيب إلاّ قد خفيت مغزاها على المغفَّل ولم يفهم منها شيئاً (ومِن النّاس مَن يجادل في الله بغير علم ويتَّبع كلَّ شيطان مريد)(12) .
ونُسائل الرَّجل: كيف خفي هذا الشرك المزعوم على أئمّة قومه؟ فيما أخرجوه عن حذيفة قال: أعلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما كان وما يكون إلى يوم القيامة(1) ، وما أخرجه أحمد إمام مذهب الرجل في مسنده ج 5 ص 388 عن أبي ادريس قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: والله إنّي لاعلم الناس بكلِّ فتنة هي كائنةٌ فيما بيني وبين السّاعة.
وقد جهل بأنَّ علم المؤمن بموته وإختياره الموت واللقاء مهما خيّر بينه وبين الحياة ليس من المستحيل، ولا بأمر خطير بعيد عن خطر المؤمن فضلاً عن أئمّة المؤمنين من العترة الطاهرة، هلاّ يعلم الرجل ما أخرجه قومه في أئمَّتهم من ذلك وعدّوه فضائل لهم؟ ذكروا عن ابن شهاب(13) قال: كان أبو بكر ـ ابن أبي قحافة ـ والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أُهديت لابي بكر فقال الحارث لابي بكر: إرفع يدك يا خليفة رسول الله إنَّ فيها لسمّ سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد، فرفع يده، فلم يزالا عليلين حتّى ماتا في يوم واحد عند إنقضاء السنة.
وذكر أحمد في مسنده 1 ص 48 و 51، والطبري في رياضه 2 ص 74 إخبار عن موته بسبب رؤيا رآها، وما كان بين رؤياه وبين يوم طعن فيه إلاّ جمعة.
وفي الرياض ج 2 ص 75 عن كعب الاخبار إنّه قال لعمر: يا أمير المؤمنين أعهد بأنَّك ميِّت إلى ثلاثة أيّام، فلمَّا قضى ثلاثة أيَّام طعنه أبو لؤلؤة فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال: القول ما قال كعب.
وروي إنّ عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر: إحترس أو اخرج العجم من المدينة، فإنّي لا آمن أن يطعنك رجلٌ منهم في هذا الموضع. ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.
وعن جبير بن مطعم قال: إنّا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة إذ سمعت رجلاً يقول: يا خليفة! فقال أعرابيٌّ من لهب من خلفي: ما هذا الصوت؟ قطع الله لهجتك والله لا يقف أمير المؤمنين بعد هذا العام أبداً. فسببته وأدَّبته، فلمّا رمينا الجمرة مع عمر جاءت حصاة فأصابت رأسه ففتحت عرقاً من رأسه فسال الدم، فقال رجلٌ: أشعر أمير المؤمنين أما والله لا يقف بعد هذا العام ههنا أبداً. فالتفت فإذا هوذلك اللهبي، فوالله ماحجّ عمر بعدها.خرَّجه ابن الصحّاك.
وإن تعجب فعجبٌ إخبار الميِّت وهو يُدفن عن شهادة عمر في أيّام خلافة أبي بكر، أخرج البيهقي عن عبدالله بن عبيدالله الانصاري قال: كنتُ فيمن دفن ثابت بن قيس وكان قتل باليمامة(14) فسمعناه حين أدخلناه القبر يقول: محمّد رسول الله، أبو بكر الصدّيق، عمر الشهيد، عثمان البرّ الرَّحيم. فنظرنا إليه فإذا هو مِّيت. وذكره القاضي في «الشفاء» في فصل إحياء الموتى وكلامهم.
وعن عبدالله بن سلام قال: أتيتُ عثمان وهو محصورٌ أُسلِّم عليه فقال: مرحباً بأخي مرحباً بأخي، أفلا أُحدِّثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقلت: بلى. قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مثّل لي في هذه الخوخة ـ وأشار عثمان إلى خوخة في أعلى داره ـ فقال: حصروك؟ فقلت. نعم فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم. فأدلى دلواً من ماء فشربت حتّى رُويت، فها أنا أجد برودة ذلك الدلو بين ثديي وبين كتفي. فقال: إن شئت أفطرت عندنا وإن شئت نصرت عليهم؟ فاخترت الفطر(15) .
وعنه قال: إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) البارحة و أبابكر و عمر فقالوا لي: صبراً فإنَّك تفطر عندنا القابلة.
عن كثير بن الصلت عن عثمان قال: إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في منامي هذا فقال: إنَّك شاهدٌ معنا الجمعة (ك ـ مستدرك الصحيحين ـ 3 ص 99).
وعن ابن عمر: انّ عثمان أصبح يحدِّث الناس قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام قال: يا عثمان أفطر عندنا غداً، فأصبح صائماً وقتل من يومه.
قال محبّ الدين الطبري في «الرِّياض» 2 ص 127 بعد رواية ما ذكر: واختلاف الروايات محمولٌ على تكرار الرؤيا فكانت مرَّة نهاراً ومرَّة ليلاً.
وأخرج الحاكم في «المستدرك» 3 ص 203 بسند صحَّحه إخبار عبدالله بن عمرو الانصاري الصحابي ابنه جابر بشهادته يوم أُحد، وأنَّه أوَّل قتيل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكان كما أخبر به.
وذكر الخطيب البغدادي في تأريخه 2 ص 49 عن أبي الحسين المالكي أنَّه قال: كنتُ أصحب خير النساج ـ محمّد بن اسماعيل ـ سنين كثيرة ورأيت له من كرامات الله تعالى ما يكثر ذكره غير أنَّه قال لي قبل وفاته بثمانية أيّام: إنّي أموت يوم الخميس المغرب، فأُدفن يوم الجمعة قبل الصَّلاة وستنسى فلا تنساه. قال أبو الحسين: فأنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من خبَّرني بموته فخرجت لاحضر جنازته فوجدت الناس راجعين فسألتهم لِمَ رجعوا فذكروا أنّه يدفن بعد الصَّلاة، فبادرت ولم ألتفت إلى قولهم فوجدت الجنازة قد أُخرجت قبل الصَّلاة أو كما قال. وهذه القصَّة ذكرها ابن الجوزي أيضاً في المنتطم 6 ص 274.



___________
(1) الجن: 26 ـ 27.
(2) البقرة: 255.
(3) الاسراء: 85.
(4) الانعام: 59.
(5) أجمعت الامة الاسلامية على أنّ وارث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علمه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، راجع الجزء الثالث من كتابنا ص 95 ـ 101 «المؤلِّف».
(6) صحيح البخاري 3:235، مسند أحمد بن حنبل 6: 203، كنز العمال 5: 847/14536.
(7) قال السيد محمد الخضر الحسين التونسي في تعليق الموافقات: لا يقضي عليه الصلاة والسلام يمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه السلام، حتى يكون للامة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة. إلى أن قال: والحكم بالظاهر وإن لم يكن مُطابقاً للواقع ليس بخطأ، لانه حكم بما أمر الله.(1) أخرجه شيخنا المفيد في المجلس الثالث من أماليه «المؤلِّف».
أنظر الطبعة المحققة في الامالي ص 23 حديث 5.
(8) عن حذيفة مرفوعاً: إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله اليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: ياربّ أذكر أم انثى؟ فيقضي ربك ماشاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا ربّ أجله؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثمّ يقول: يا ربّ رزقه؟ فيقضي ربّك ما شاء ويكتب الملك، ثمّ يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ذلك شيئاً ولا ينقص. أخرجه أبو الحسين مسلم في صحيحه، وذكره ابن الاثير في جامع الاُصول و ابن الدبيع في التيسير 4 ص 40.
وفي حديث آخر ذكره ابن الدبيع في تيسير الوصول 4 ص 40: اذا بلغت «يعني المضغة» أن تخلق نفساً بعث الله ملكاً يصورها، فيأتي الملك بتراب بين اصبعيه فيخط في المضغة ثم يعجنه ثم يصورها كما يؤمر فيقول: أذكر أم انثى؟ أشقي أم سعيد؟ وما عمره؟ وما رزقه؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله فيكتب الملك «المؤلِّف».
(9) عن ابن مسعود مرفوعاً: ان خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح.
أخرجه البخاري في باب ذكر الملائكة في صحيحه ومسلم وغيرهما من أئمة الصحاح إلاّ النسائي وأحمد في مسنده 1 ص 374، 414، 430، وأبو داود في مسنده 5 ص 38، وذكره ابن الاثير في جامعة، وابن الدبيع في التيسير 4 ص 39.
(10) راجع الخطبة الاُولى من نهج البلاغة وشروحها.
(11) الحج: 3.
(12) صحيح مسلم في كتاب الفتن، مسند أحمد 5 ص386، البيهقي، تاريخ ابن عساكر 4 ص94 تيسير الوصول 4 ص 241، خلاصة التهذيب 63، الاصابة 1 ص 218، التقريب 82 «المؤلِّف».
(13) ك ـ مستدرك الصحيحين ـ 3 ص 64، صف ـ صفة الصفوة ـ 1 ص 10، يه ـ البداية والنهاية لابن الاثير ـ 1 ص180 «المؤلّف».
(14) بلدة باليمن على ستة عشر مرحلة من المدينة، وكانت وقعة اليمامة في ربيع الاول سنة اثنتي عشرة هجرية في خلافة أبي بكر «المؤلِّف».
(15) الرياض النضرة 2 ص 127، الاتحاف للشبراوي 92 «المؤلِّف».


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page