طباعة

اتصال موسى بشعيب

اتصال موسى بشعيب

ويشاهد موسى من بعيد ازدحام ناس وقطعان اغنام ، فيقصد هذا الجمع ؛ واذا به امام رعاة انهمكوا بسقيا قطعانهم ، وقد علا ضجيجهم ولغطهم ، وكان الاشداء منهم يتقدمون لسقاية اول الناس ثم بعد ذلك ، ينصرفون .
وتلفت نظر فتاتان تذودان غنمهما ، كي لا يختلط بغيره من اغنام القوم ، وقد وقفتا بذلة ومسكنة ، تنتظران صدور الرعاء ( انصراف الرعيان ومواشيهم بعد السقاية ) وتتحرك فيه طبيعة نصره المظلوم ، المقهور ، فيتقدم منهما مستفسراً : ما شانكما ؟ . فقالتا :{.. لانسقي حتى يصدر الرعاء ، وابونا شيخ كبير .. }
وتثور نفسه لمساعدتهما ، فتقدم من البئر ليسقي لهما ، متخطياً اليه الرجال ، حتى وصل الى فوهته ، فوجد صخرة تحول دون تدفق الماء غزيراً ، فاقتلعها زندين قويين ، وكانهما اصول سنديانة عتيقة فانبهر الجميع لقوة هذا الغريب واندفاعه ، رغم ما يبدو عليه منمظاهر الاعياء ، وعلائم الهزال ؛ فتركوه ، والبئر ، وشانه ، فسقى للفتاتين {.. ثم تولى الى الظل ، وقال : رب اني لما انزلت الي من خير فقير }
فالجوع ، الى جانب ما كابد من اعياء ، يكادان يهدان عزيمته هدا ؟ وما هي الا ساعة ، .. واذا باحدى الفتاتين تتجه مقبلة نحوه استحياء وخفر ، وتقول له : { .. ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا .. }
فيقبل الدعوة موسى ؟ .. ويتبع الفتاة الى دار ابيها . وفي الطريق يطلب موسى من الفتاة ان يتقدمها وتسير هي خلفه ، فهكذا تقضي العفة ، وواجب الوفاة ! .
وعندما وصل موسى الى البيت نزل على ترحاب واطمئنان ، بعد ان استقبله الشيخ بالحفاوة والاكرام . وبعد ان اخذ حظهمن الراحة ، وتناول نصيبه من الطعام ، قص على مضيفه قصته ، فتعجب الشيخ ايما تعجب ، وربت على كتف الفتى قائلاً له بصوت يشيع فيه الوقار ، وهو يهز رأسه : { لا تخف . نجوت من القوم الظالمين }
ويسأل موسى الشيخ الجليل عن اسمه ، فيقول له الشيخ وهو يعبث بلحيته الكثة : " انني شعيب ! .. ارسلني الله تعالى الى اهل هذه القرية المجاورة واسمها " الايكة " ولكنهم قوم يجهلون ، وسفهاء لا يعقلون ، يطفطفون ( أي : ينقصون ) الكيل والميزان ، ويبخسون الناس اشيائهم ! … "
ويصمد الشيخ قليلاً وقد سرح نظره بالافق المتـرامي البعيد . ويصـمت موسى . فالله الحكمة البالـغة ، ان امره كان حتماً مقضيا !.
وتحدثنا بعض الرويات بان"الايكه"هذه،هي،قريه"بليدا" في جنوبي لبنان ،وان البئر التي سقي منها موسى،هي " بئر بليدا " القريبه منها، جنوبا شرقا …وتتقدم احدى الفتاتين من ابيها ،لتهمس في اذنه ، عاى حين غفله من موسى : {..يا ابت ،استاجره، ان خير من استاجرت القوي الامين !}.
وتقص الفتاه على مسامع ابيها كيف اقتلع موسى الصخره من على فوهه البئر ،على هزاله وضعفه فتفجر الماء غزيرا ،..وكيف اطرق الى الارض وهى تدعوه الى منزل ابيها ، وكيف طلب اليها في الطريق ، ان يتقدمها ، وتتبعه ،كي لاتقع عينه على مالا يجوز لها ان تقع عليه ..ويطرق الاب الى حديث ابنته ، فيا لهذا العف، الشهم ،الكريم !.
ويدعو موسى ، ويجلشه على جانبه ، ثم يتوجه اليه بوجهه ، وطيف ابتسامه ياتمع على ثغره الوضئ ، ويقترح الشيخ على فتاه اقتراحاً مفاجئاً :
ما تقول يا موسى في ان ازوجك احدى ابنتي هاتين ، على ان تقوم بمناصرتي وعوني ورعاية اغنامي ثمانية اعوام ، وان اتممتها عشراً اكن لك من الشاكرين .. ، وما اريد ان اشق عليك !…وذلك بمثابة مهر العروس ، كما تعارف على ذلك الناس ؟
فيشرق وجه موسى . وتؤوب اليه نفسه مطمئنة ، اسعد واهنا ما تطمئن اليه نفس انسان !.. لقد وجد في هذا المنزل الكريم ضالته المنشودة ، وفي هذا الشيخ الوقور اسمي درجات الوقار والايمان ، فانجذب اليه ،وشبه الشئ منجذب اليه !..
ولم يطل تفكير موسى ، اذ ما لبث ان وافق ، فتعاهد الرجلان علىذلك ، وكان الله على تعاهدهما شهيداً !..
ويتزوج موسى احدى الفتاتين ، ويبقى عند سيده عشر سنين ، موفياً بما عاهد ، ومتماً اوفى الاجلين ، يناصره ويعينه ، ويرعى له اغنامه التي تكاثرت بشكل مطرد !… ورد في احدى الروايات ، على هذا الصعيد ـ ، نادرة تقول :
بينما كان موسى يرعى قطيع سيده ، اذ فر تيس ماعز في ارض وعرة ، مصعداً في هضاب عالية ، واكام ، وتلال .. ولحق به موسى ، متتبعاً اياه ، لاهثاً ، حتى ادركه بعد عناء شديد ،وجهد جهيد . فاوقفه ، وجلس موسى يستريح ، وقد كادت تنقطع انفاسه الاهثة ، ثم جذبه اليه من قرنيه برفق ، وقبله بين عينيه ، واخذ يمسح جبهته بحنان ، مخاطبا اياه ، وقد تحدرت دمعة على خديه الكريمين :
والله لم الحق بك هذه المسافة الطويلة خوفا من احد ، ولا طمعا بك ، ولكن ، حرصاً عليك من ان يفترسك الذئب !.
وكانت اطلاعة له تعالى على قلب موسى ، فاذا كالذهب الخالص صافياً ، او اشد صفاء ونقاء .. فيقضى ساعتئذ لموسى بالنبوة احسانا لقلبه السليم ، ونفسه الطهور ، وتكريماً !…
تحرك الحنين في نفس موسى بالعودة الى الديار التي درج فيها ايم طفولته وصباه . فما1ا حدث لها بعد هذه السنين العشر الطـوال ، وكانها دهر مديد ؟ .. ويحدث زوجه بالامر ، فلا تمانع ، وويرضى بذلك شعيب .. ويتحول الحنين الى عزم ، وتصميم ، فقرار !.
فيجمع موسى امتعته البسيطة ، ويزوده شعيب بقطيع من الاغنام ، صغير ، ويدعو لهما برحلة سعيدة ، فيودعانه وداعاً حسنا ، ويتجهان في رحلتهما جنوباً ، والله الهدي سواء السبيل !.
ويقطعان ارض كنعان وفلسطين من شمال الى جنوب ، ولايجدان في اجتيازها مشقة تذكر ، او كبير عناء ، .. ففيها الـماء ، والكلا ، والخصب الوفير ..
واليها انشداد روحي عميق عميق ، ففي زايتها الشمالية الغريبة ، عاش اباء له واجداد ، صلحاء واتقياء ً.. وتطوى لموسى وزوجه الارض طياً !.
فاذا بهما بعد بضعة ايام في سيناء ، الارض التي سيكون لـها في تاريخ بني اسرائيل ، بعد حين ، شان جد خطير !.. ويهبط الظلام ، فتمحي الحدود والمسافات ، والابعاد ، والجهات ، .. وتهب ريح باردة .. وياتي زوجه الحامل المخاض ..
فيتلفت موسى الى عل ، والى امام ، وذات اليمين وذات الشمال ، تلفت الحيران في امره ، المضطرب في مسيره ، وقد ضل السبيل ، والتوت عليه الطريق ، فما يدري ماذا يفعل . فيصفق كفاً بكف ، قائلاً : رباه ، ما العمل ؟ ويتلفت موسى الى طور سيناء ، وقد عميت عليه الجهات ، فلا يدري شرقاً من غرب ، ولا يميز شمالاً من جنوب … فلعله يجد في هذا الجبل ، المتواضع بعلوه ، بعض دليل ، واذ به يرى ناراً من الجهة التي تليه .
انها لمفاجأة سعيدة حقاً ، ويفرك عينيه ، وكانه لا يكاد يصدق ما تشاهدان ، احقيقة ما يراه ام طيف منام ؟ ولكن النار ما زالت تظطرم . وما زال لهيبها يسطع في الاجواء بنور ابيض ، لطيف ..
ويقول موسى لزجه التي تعاني ، وقد اخذ يفرك يديه ، بانفعال :
{ امكثوا اني انست نارا ، لعلي اتيكم منها بخبر ، او جذوة من النار لعلكم تضطلون .. }
ويحث موسى خطوه الى النار الملتهبة ، بسرعة الولهان ، وسرعان ما يصل الى { شاطئ الواد الايـمن في البقعة المباركة من الشجرة } وينظر الى النار . انها لنار عجيبة حقاً ، فيغفر فاه دهشاً !..
ويكرر موسى الى النار النظر ، ويعيد ، .. انها تلتهم من العوسجة الاغصان والاوراق ، اما الجذع فمخضوضر يانع ، وكأن بينه وبين النار المشعشعة حائلاً !. ويتأملها برهة ، كالمصعوق ، .. فهي ، بالاضافة الى ذلك لا تتغير ابداً ، فلا لهيبها يخبو ، ولا اضطرامها يزداد . انها على حال واحد لا يتغير ، .. فهي اشبه ما يكون بالنور بال هي نور لا نار !..
وتتعلق بهذا النور الشفاف ، عينا موسى ، مأخوذ !.. ويقطع دهشته صوت ، لا كالاصوات ، ينبعث من قلب هذ العوسجة الغريبة ، بناديه باسمه : { اني ربك فاخلع نعليك ، انك بالواد المقدس طوى } فيتمثل للامر موسى ، وقد ارتعدت فرائصه لهول المفاجأة.