طباعة

ثالثاً : ملاحقة شيعته ومواليه


طاردت السلطة شيعة الإمام باعتبارهم قاعدته ، ولاحقت أصحابه ورواد مدرسته باعتبارهم عمقة القادر على التأثير والاستقطاب ، وتعرضوا للسجن والتشريد والقتل ، وكانوا يعرضون على السيف لمجرد اعتقادهم بإمامته بشهادة أبرز وزراء البلاط آنذاك ، وهو عبيد الله بن يحيىٰ بن خاقان ، فقد روى عنه ابنه وهو أحمد بن عبيد الله الذي كان يتولى الضياع والخراج في قم أنه قال : « لما دفن ( الامام العسكري عليه‌السلام ) جاء جعفر بن علي أخوه إلى أبي ( عبيد الله بن خاقان ) فقال : اجعل لي مرتبة أخي وأنا أوصل إليك في كلّ سنة عشرين ألف دينار ، فزبره أبي وقال له : يا أحمق ، إن السلطان جرّد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك فلم يتهيأ له ذلك » (1).
وفي ربيع الأول سنة ٢٥٤ ه‍ قتلوا الكثير من أصحاب الأئمة وشيعتهم في قم التي تشكل قاعدة مهمة من قواعد الإمام عليه‌السلام ، فقد نقل المؤرخون أنّ مفلحاً وباجور أوقعا بأهل قم في هذه السنة فقتلا منهم مقتلة عظيمة (2).
وكان بعض الأصحاب يكتبون إلى الإمام عليه‌السلام مستغيثين من ضيق الحبس وثقل الحديد (3) ، وقسوة العمال وظلمهم (4) ، والفقر وقلّة ذات اليد (5) ، فيهرع عليه‌السلام إلى سلاح الأنبياء ليعينهم بالدعاء على نوائب الدهر.
وبلغت قسوة العمال أشدّها معهم ، فكان موسى بن بغا يعاقب بألف سوط أو القتل (6) ، وللإمام عليه‌السلام دعاء طويل قنت فيه عليه لما شكاه أهل قم لظلمه وجوره ، وطلب منهم أن يقنتوا عليه كذلك (7).
وتعرّض كثير منهم للمطاردة والسجن ، وقد أشار ابن الصباغ المالكي إلى ذلك في معرض حديثه عن الخلف الحجة عليه‌السلام حيث قال : « خلّف أبو محمد الحسن من الولد ابنه الحجة القائم المنتظر لدولة الحقّ ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وشدّة طلب السلطان وتطلّبه للشيعة وحبسهم والقبض عليهم » (8).
وسجن بعضهم مع الإمام العسكري عليه‌السلام ، وكان منهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ، والقاسم بن محمد العباسي ، ومحمد بن عبيد الله ، ومحمد بن إبراهيم العمري ، والحسين بن محمد العقيقي (9) وغيرهم.
ولم تنته هذه المحاولات حتى بعد شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام مسموماً سنة ٢٦٠ ه‍ ، إذ تحدثت المصادر عن إلقاء حلائله وأصحابه في السجن ، وأنه جرى عليهم كلّ عظيم من اعتقال وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ (10).
أما موقفه عليه‌السلام مما يجري على أصحابه ، فيمكن تلخيصه في ثلاثة إتجاهات :
الاتجاه الأوّل : الدعاء على أعدائهم
وقد ذكرنا آنفاً أنه عليه‌السلام كان يرفدهم بالدعاء في أحرج الظروف وأحوجها ، ومن ذلك الدعاء الذي رواه عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : كنت عند مولاي أبي محمد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليه ، إذ وردت إليه رقعة من الحبس من بعض مواليه ، يذكر فيها ثقل الحديد وسوء الحال وتحامل السلطان ، فكتب إليه : « يا عبد الله ، إنّ الله عليه‌السلام يمتحن عباده ليختبر صبرهم ، فيثيبهم على ذلك ثواب الصالحين ، فعليك بالصبر ، واكتب إلى الله عزوجل رقعة وانفذها إلى مشهد الحسين بن علي صلوات الله عليه ، وارفعها عنده إلى الله عزوجل ، وادفعها حيث لا يراك أحد ، واكتب في الرقعة »ثم أورد دعاءً طويلاً كان منه قوله عليه‌السلام : « اللهم إني قصدت بابك ، ونزلت بفنائك ، واعتصمت بحبلك ، واستغثت بك ، واستجرت بك ، يا غياث المستغيثين أغثني ، يا جارالمستجيرين أجرني ، يا إله العاملين خذ بيدي ، إنّه قد علا الجبابرة في أرضك ، وظهروا في بلادك ، واتخذوا أهل دينك خولاً ، واستأثروا بفيء المسلمين ، ومنعوا ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلتها لهم ، وصرفوها في الملاهي والمعازف ، واستصغروا آلاءك ، وكذّبوا أولياءك ، وتسلطوا بجبريّتهم ليعزّوا من أذللت ، ويذلّوا من أعززت ، واحتجبوا عمّن يسألهم حاجة ، أو من ينتجع منهم فائدة ... » (11).
وفي هذا الدعاء يشير الإمام العسكري عليه‌السلام إلى مظاهر الفوضى والفساد والظلم التي طبعت الحياة السياسية آنذاك ، فذكر استئثار رجالات السلطة بفيء المسلمين ، ومنعهم ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلها الله لهم ، وتبديدها في أسباب اللهو على حساب فقر الفقراء والمصالح التي تفوت بذلك.
ومن دعاء طويل له عليه‌السلام على موسى بن بغا الذي شكاه أهل قم لجوره وظلمه ، قال عليه‌السلام : « اللّهم وقد شملنا زيغ الفتن ، واستولت علينا غشوة الحيرة ، وقارعنا الذل والصغار ، وحكم علينا غير المأمونين في دينك ، وابتزّ اُمورنا معادن الاُبنَ (12) ممّن عطّل حكمك ، وسعى في اتلاف عبادك ، وإفساد بلادك.
اللّهم وقد عاد فيئنا دولة بعد القسمة ، وإمارتنا غلبة بعد المشورة ، وعدنا ميراثاً بعد الاختيار للاُمّة ، فاشتريت الملاهي والمعازف بسمهم اليتيم والأرملة ، وحكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة (13) ، وولي القيام باُمورهم فاسق كلّ قبيلة ، فلا ذائد يذودهم عن هلكة ، ولا راعٍ ينظر إليهم بعين الرحمة ، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرّى من مسغبة ، فهم أولو ضرع بدار مضيعة ، واُسراء مسكنة وحلفاء كآبة وذلّة.
اللّهم وقد استحصد زرع الباطل ، وبلغ نهايته ، واستحكم عموده ، واستجمع طريده ، وخذرف وليده ، وبسق فرعه ، وضرب بجرانه ، اللّهم فأتح له من الحق يداً حاصدة تصرع قائمه ، وتهشم سوقه ، وتجبّ سنامه ، وتجدع مراغمه ، ليستخفي الباطل بقبح صورته ، ويظهر الحق بحسن حليته ... » (14).
الاتجاه الثاني : احسانه عليه‌السلام إليهم
وقد كان يأمر قوامه ووكلاءه بالتخفيف من وطأة الفقر عن كواهلهم ، ويعطي المعوزين منهم ما يرفع عنهم أسباب العوز والحاجة ، وممن شملهم بره وإحسانه أبو هاشم الجعفري ، وعلي بن إبراهيم بن موسى بن جعفر ، وأبو يوسف الشاعر (15) ، وغيرهم.
الاتجاه الثالث : تحذيرهم من الفتن
حيث كان عليه‌السلام يمارس دوره كقائد لمواليه وأصحابه وراعٍ لمصالحهم ومدافع عن قضاياهم في حدود فسحة ضيقة محكومة بالرقابة والضغط ، وعلى هذا الصعيد كان عليه‌السلام يحذرهم الأخطار والفتن المحدقة بهم ، ومن الوقوع في أحابيل السلطة ، ويساعدهم في إخفاء نشاطهم بحسب الإمكان ، ويهيء الجماعة الصالحة لغيبة ولده الحجة عليه‌السلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
وفي هذا الاتجاه أوصى أصحابه ان يكونوا على اُهبة من فتنةٍ تظلهم عند موت المعتز (16).
وحذرهم من الإذاعة وطلب الرئاسة مشدّداً على التقوى وأداء الأمانة ، فقد جاء في الرسالة له عليه‌السلام إلى بعض بني أسباط : « إياك والاذاعة وطلب الرئاسة ، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة ... واقرأ من تثق به من مواليّ السلام ، ومُرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا » (17).
وأكد على الكتمان والحيطة حتى أنه عليه‌السلام قال لأحد أصحابه : « إذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي اُمرت بها ، وإياك أن تجاوب من يشتمنا ، أو تعرّفه من أنت ، فاننا ببلد سوء ومصر سوء » (18).
وقال لأحد أصحابه حينما أراد أن يصرّح بإمامته عليه‌السلام : « إنّما هو الكتمان أو القتل ، فاتق الله على نفسك » ، وفي رواية : « فابقوا على أنفسكم » (19).
وبلغت درجة الحيطة لديه عليه‌السلام أنه أوصى بعض أصحابه أن لا يسلّم عليه أو يدنو منه ، فقد ترصّده أصحابه يوماً عند ركوبه إلى دار الخلافة ليسلموا عليه ، فخرج التوقيع منه عليه‌السلام إليهم : « ألا لا يسلمنّ عليّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ، ولا يومئ ، فانكم لا تأمنون على أنفسكم » (20).
ونادى عليه‌السلام يوماً حمزة بن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي ، وقد أراد الاقتراب منه حينما خرج مع السلطان وأحسّ منه خلوة : « لا تدن مني ، فإنّ عليّ عيوناً ، وأنت أيضاً خائف » (21).
__________________
(1) أصول الكافي ١ : ٥٠٥ / ١ من الباب المتقدم ، الإرشاد ٢ : ٣٢٤.
(2) تاريخ الطبري ٩ : ٣٨١ ، الكامل في التاريخ ٦ : ١٩٦. حوادث سنة ٢٥٤ ه‍.
(3) راجع : أصول الكافي ١ : ٥٠٨ / ١٠ ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام ـ من كتاب الحجة.
(4) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٦.
(5) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٨ ، كشف الغمة / الاربلي ٣ : ٣١٤ ـ دار الأضواء ـ بيروت ، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ٢ : ١٠٨٣ ـ دار الحديث ـ قم ـ ١٤٢٢ ه‍ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٢ / ٦٦.
(6) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦٠ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٨٢ / ٥٩.
(7) مهج الدعوات : ٦٧ ، بحار الأنوار ٨٥ : ٢٣٠.
(8) الفصول المهمة ٢ : ١٠٩١.
(9) راجع : الغيبة للشيخ الطوسي : ٢٢٧ / ١٩٤ ، الفصول المهمة ٢ : ١٠٨٤ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٣٠٦ / ٢ و ٣١٢ / ١٠.
(10) راجع : الإرشاد ٢ : ٣٣٦.
(11) بحار الأنوار / المجلسي ١٠٢ : ٢٣٨ / ٥ عن الكتاب العتيق للغروي ـ المكتبة الاسلامية.
(12) الاُبَن : جمع ابنة ، الحقد والعداوة والعيب.
(13) قد يقال : إن الخلفاء في هذا العصر خصوصاً المتوكل قد فرضوا قيوداً صارمة على أهل الذمة ، لكن المتصفح لكتب التاريخ يري أنّهم يشكلون جزءاً مهماً من جيوش الخلافة ، وبعضهم كانوا ذوي مناصب عالية في الجيش ، منهم أبو العباس الوارثي النصراني ، الذي وجهه بغا إلى أرمينية. راجع : الكامل في التاريخ ٦ : ١١٦ ، ومنهم صاعد بن مخلد النصراني كاتب الموفق ووزير المعتمد. راجع : سير أعلام النبلاء ١٣ : ٣٢٦ / ١٤٩.
(14) مهج الدعوات لابن طاوُس : ٦٧ ـ طهران ـ ١٣٢٣ ه‍ ، بحار الأنوار ٨٥ : ٢٢٩ / ١.
(15) راجع : أصول الكافي ١ : ٥٠٦ / ٣ و ٥٠٧ / ١٠ ـ باب مولد أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام ـ من كتاب الحجة ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٤ / ٦٩.
(16) كشف الغمة ٣ : ٢٩٥ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٨ / ٧٢.
(17) كشف الغمة ٣ : ٢٩٣ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.
(18) المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ٤٦١.
(19) إثبات الوصية : ٢٥١ ، كشف الغمة ٣ : ٣٠٢ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٩٠ / ٦٣.
(20) الخرائج والجرائح ١ : ٤٣٩ / ٢٠ ، بحار الأنوار ٥٠ : ٢٦٩ / ٢٤.
(21) الثاقب في المناقب / لأبي جعفر محمد بن علي الطوسي : ٥٧٣ / ٥٢٠ ـ دار الزهراء ـ ١٤١١.