بشير ، أخ في الله عرفته حديثاً ، ورغم حداثة العهد تلك ، فإنّه قد أخذ مكاناً كبيراً في قلبي ، لما لمسته منه من رفعة وعزّة ورجولة ، ما لفت نظري في شخصه ، أنّه كان سريع المبادرة ، كثير التفكّر في أمر الله تعالى ، قليل الاهتمام بالمسائل الدنيوية الزائلة ، يهتمّ ويغتمّ إذا ضيّع أمراً من دينه ، ولا يأبه ولا يبالي إذا ضاع منه أمر من أمور الدنيا ، كان يحزن إلى حدّ البكاء إذا ضيّع شيئاً في جنب الله تعالى ، وكان يضحك إذا ضيّع فرصة دنيوية ، كان ممّا قرّبني له أنّني سمعت بتشيّعه لأهل البيت(عليهم السلام) ، وقد حكى لي قصته ، ولمّا عرضت لي الفكرة في جمع إفادات المستبصرين ، دعوته ليدلي بشهادته ، فجاء رغم بعد المسافة ، وكان حاضراً معنا في الجلسة ، ولما جاء دوره قال :
لم يكن في حسابي أنْ أدرس التشيّع في يوم من الأيّام ، ولا أن ألتفت إلى كنهه ومعناه الحقيقيين ، فقد قرأت عنه من الزاوية المذهبيّة ، وتعرفت على وجهه المشوّه ، والذي كنت معتقداً أنّه وجهه الحقيقي ، من خلال كتب مناهضة ومعادية له ، ككتاب ضحى الإسلام لأحمد أمين المصري ، ومنهاج السنّة لابن تيمية ، وكتب أخرى ، امتداداً لحركة القصّاصين ووعاظ السلاطين من عبدة الدنيا ، وامتداداً للأيدي القذرة التي حرّفت وشوّهت كلّ جميل في التراث الإسلامي ، وهي لا تزال تعمل للحيلولة دون معرفة المسلمين لحقائق دينهم ، وما يترتب عليها من فهم ووعي بالواقع المرير الذي عاشه أجدادهم ، ويعيشون فيه هم أيضا إلى الآن .
لم تتولّد في نفسي همّة معرفة الشيعة ، إلاّ بعد أنْ ألقت الصدفة في طريقي أحد أفراد الشيعة ، لم يكن ذو أصول شيعيّة ، فهو قد تشيّع بعد دراسة وتمحيص استمرّ فترة زمنية غير قصيرة ، زيادة على كونه من أهالي منطقة عرفت باتّباع المذهب المالكي قرون متعاقبة .
الصدفة تمثّلت في دعوتي لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء ، وأثناء تواجدي بالحفل ، وجدت الرجل من بين المدعوّين ، لم أكن أعرفه معرفة جيّدة ، كلّ ما عرفته عنه هو ما قيل فيه من إشاعات متعلقة بانتمائه ، وبسبب ذلك كنت أتوقى الالتقاء به ، والجلوس معه على نفس الطاولة ، وقد دار في ذلك المجلس حوار ونقاش حول بعض المواضيع ، وسمعتُ الرجل يتكلّم بكلام منطقيّ نابع من قناعة راسخة لديه جعلته يتكلم بثقة تامة وعزة نفس .
استدرت من مجلسي والتفتّ إليه ، ثمّ خاطبته قائلا : ألستَ شيعيّاً؟
قال : بلى . قلت : وهل الشيعة مسلمون حقّاً؟ قال وقد ظهرت على ملامحه علامات الغضب : إذا لم يكن الإسلام عندهم وفيهم ، فأين يمكن أنْ يوجد؟
قلت : وكلّ هذه التهم التي تحاصر التشيّع والشيعة ، كالادّعاء بأنّ جبريل قد أخطأ في تنزيل الرسالة ، ودعوى تحريف القرآن ، ودعوى تأسيس الفكر الشيعي على يد عبد الله بن سبأ اليهودي ، ودعوى استباحة الشيعة للمحرّمات ، أليست كافية بأنْ تكون دليل على انحراف طائفتك؟
قال : وهل تعتقد أنّ أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، والذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، يعتقدون بالذي ذكرت؟
قلت له : حاشا وكلاّ ، أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم مبرؤون من ذلك ، لكنّ أتباعهم قد يكونون انحرفوا عن طريقهم .
فقال : طالما أنّك قد برأت أهل البيت(عليهم السلام) من تلك التهم الباطلة من أساسها ،فاعلم أنّ ما روّج على الشيعة من أقاويل ليس لها إثبات على أرض الواقع ، وهي مدعاة للسخرية والاستخفاف بمن يعتقدها ، وترك العلم واتّباع الظنّ يؤدّي دائماً بصاحبه إلى التفريط في الحقيقة والابتعاد عنها ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}(1) ونصيحة الباري تعالى هذه جاءت لغلق الباب أمام عامل الظن ، لأنّه وسيلة واهمة لا توصل صاحبها إلى علم أبدا .
أمّا ما تُقوّل على الشيعة بشأن جبريل(عليه السلام) لا أساس له من الصحّة ، وأجزم لك بأنّ مخترع تلك الدعاية المغرضة لقيط من أبناء عواهر زمن انحطاط الأمّة ، والمستأنس بذلك القول ليس له عقل يميّز به ، ولا فكر مستنير ليسترح إليه ، أمّا دعوى تحريف القرآن فقد قال الإمام جعفر بن محمد الصادق سادس أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في معرض حديثه عن الذين انحرفوا عن نهج أهل البيت(عليهم السلام) : "..وأقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده"(2) . في إشارة إلى أنّ غير أتباعه وشيعته هم الذين حرّفوا تفسير الكتاب العزيز ، نزولا عند إرادة ورغبة حكّامهم . ثمّ إن جميع الفرق الإسلاميّة نقلت روايات التحريف في القرآن ، غير أنّ علماء الشيعة كالشيخ الكليني أفردها في باب النوادر ، تصغيراً لشأنها ، بينما نقلها من تسمّوا بأصحاب الصحاح في أبواب الفقه دون تخصيص ولا إفراد .
أمّا إن ابن سبأ على حسب الدعوى المطلقة فقد عاش في زمن الإمام عليّ(عليه السلام) ، وكان بحسب تلك الأقاويل من أتباعه والدعاة إلى إمامته وإمامة أبنائه ، فلو كان موجوداً وجاء بمفتريات قد تسهم في تحريف الدين وتقويض أسسه لشهّر به ، وحذّر منه ، ولتبرّأ من مفترياته ، وسيرة عليّ(عليه السلام) في عدم الاعتماد على المشكوك في صدقيتهم ونزاهتهم غير خافية على ذوي الأفهام ،فهو عند تسلّمه زمام الحكم ، قد عزل جميع الولاة الذين اعتمدهم الخليفة الثالث عثمان ، وقيل له أنْ لا يتعجّل في عزل معاوية الطليق ، فأبى ، وردّ مستشهداً بقوله تعالى قائلا : {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}(1)(2) فكيف يأنس والحال تلك بيهودي لا يعلم أصله من فصله؟
ثمّ إنّ محيط عليّ(عليه السلام) أتباعاً وأعواناً وجيشاً ، كلّهم من العلماء وحفظة القرآن وزهّاد القوم وخيرتهم ، فكيف يستقيم الاعتقاد بأنْ يوجد مشبوه بينهم ، أو أنْ يستطيع منافق أو عدو من أعداء الله أن يحوز مكاناً بين هؤلاء الأتقياء ، على أنّ عدداً من الباحثين والمحقّقين قد انتهوا إلى أنّ شخصيّة عبد الله بن سبأ ، ليست إلاّ دعاية مغرضة صنعها الدهاء الأمويّ ، لينفّر الناس عن إسلام أهل البيت(عليهم السلام) ، الإسلام الشيعيّ .
وإذا فرضنا أنّها شخصيّة حقيقيّة ، مارست دورها وقامت بمهمّتها على أحسن وجه في التنقّل بين الحجاز والعراق ومصر ، لدعوة المسلمين إلى ولاية أهل البيت(عليهم السلام) ، وكونهم الأحقّ والأولى بتقلّدها منذ البداية من غيرهم ، فلا يمكنها أنْ تعدو الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ذوي الأصول اليمنيّة ; لأنّ كلّ ذي أصل يمنيّ يشترك في نسبته إلى سبأ ، التي تعتبر رمز اليمن واليمنيين .
قلت له : كلامك منطقيّ وتحليلك لا يستطيع منصف أن يتجاهله ، إلاّ أنّني أتساءل عن السبب الذي جعل الغالبية العظمى من المسلمين تتنكّب عن نهجهم؟
قال: وهل لتلك الغالبية من المسلمين القدرة على غير ذلك الفعل ، طالما أنّها جعلت مقاليد دينها بين أيدي أعدائها من الطغاة والظلمة ، واستمرّت عل ذلك دهراً طويلا ، وهي إلى اليوم تراوح في مشيّها على نفس الطريق ، وبنفس الوتيرة ،ولم تتّعظ يوماً من بطلان مسلكها ، ومنذ ظهور عليّ(عليه السلام) ووضوح مقامه ، لم يجد هذا الرجل الفذّ أتباعا ، غير المستضعفين من أمثال أبي ذر وعمّار وسلمان والمقداد ، ومقابل ذلك ظهرت أضغان النفاق والشرك من خلال التحريض عليه والوشاية به ، اعتقاداً من هؤلاء بإمكانيّة إسقاط عليّ(عليه السلام) ، وزحزحته من قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فلم يزد تكالبهم على الوقيعة بعليّ(عليه السلام) ، إلاّ رسوخاً لمحبّة أمير المؤمنين في كلّ الأفئدة ، التي رفضت الدنيا وباطلها وزيفها وبهرجها ، وكلّما خرج حبّ الدنيا من قلب مؤمن ، تهافت عليه طلاّبها ، فوضعوه في قلوبهم ; لذلك لم يجتمع حبّ علي(عليه السلام) ، وحبّ الدنيا في قلب مؤمن أبداً ، وبقيت هذه المعادلة مقياساً صحيحاً ، يعرف به المتّجه إلى الله تعالى ، من المتّجه إلى الشيطان والدنيا .
قلت له : فماذا قدّم الشيعة إذاً للإسلام؟
قال : قدّموا كلّ خير ، وأظهروا كلّ جميل ، وبيّنوا كلّ لبس ، وعاشوا بين الناس بأبدان قلوبها معلّقة بالمحلّ الأعلى ، فخيرة الصحابة كانوا شيعة عليّ وأهل بيته(عليهم السلام) ، وخيرة التابعين هم أيضاً شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ، كلّ جيل من الأجيال الإسلاميّة ، مثّل الشيعة نخبتهم وخيرتهم بدون مبالغة ، وبكلّ تواضع أقول لك : إنّنا إذا صنّفنا وميّزنا العلماء ، لوجدنا علماء الشيعة هم أفضل العلماء ، بدليل ما كتبوه للأمّة الإسلاميّة وللناس جميعاً ، وإذا صنّفنا عامّة الناس وجدنا عامّة الشيعة هم أفضل عامّة ، لقول الأئمّة(عليهم السلام) : "ليس من شيعتنا مَن يكون في مصر ، يكون فيه مائة ألف ، ويكون في المصر أورع منه"(1) ، وكان حثّهم لأتباعهم على العمل الصالح ، وتطبيق أحكام الله تعالى ، من أولى أولوياتهم ، فقالوا : "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم"(2) . حتّى الشعراء فإنّك إذا وردّت دواوينهم ، وجدت أنّ أفضلهم شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ، وبصراحة فإنّني لا أرى طيّبا ولا جميلا إلاّ وهو شيعي .
قلت له : أراك تبالغ في تفضيل وتقديم الشيعة .
قال : أنا أنقل لك الحقيقة بغير طلاء ولا زينة ، الحقيقة التي ظلّت مغيّبة عنّا قرون طويلة ، تلك التي أُبعدنا عنها بالكذب تارة وبالدعاية الباطلة تارة أخرى ; لذلك فإنّني أتمنى من كلّ مسلم أنْ لا يطمئنّ إلى كلّ ما يلقى إليه ، فليشكّك في كلّ شي ليتخلّص من موروثاته التي علق بها كثير من البهتان ، ثمّ ليبدأ البحث عن الحقيقة ، خالياً من التبعات ، وأنا متأكّد من أنّه سيدرك الحقيقة من دون عناء .
قلت له : وهل النخب التي تحدّثت عنها من الشيعة مخصوصة بالعصور الفارطة ، أم تشمل العصر الحديث؟
قال : التشيّع يا أخي متّصل الحلقات ، ومترابط الأجيال ، فلم يخْلُ منه مكان ولا زمان ، أنا لا أدعوك فقط إلى متابعة النهضة المباركة للجمهورية الإسلاميّة في إيران ، ولا إلى الالتفات إلى تلك الثلة المؤمنة في لبنان ، المسمّاة بحزب الله ، بل أدعوك إلى تحكيم قلبك ، ومتابعة الأدلّة النظريّة من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية دلّت على أحقيّة الشيعة .
انتهى الحديث مع ذلك الشيعيّ ; نظراً لأنّ المكان لا يسمح بأكثر من ذلك ، فقد جئنا جميعاً لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء ، وعلينا أن نلتفت إليه ونهتمّ به ، وتغيّرت منذ تلك المناسبة السعيدة على أهلها وعليّ ، بتعرفي على شخص ،استطاع بمنطقه ولباقته ومعرفته ، أنْ يهديني إلى اتّباع الصراط المستقيم ،الذي تاه عنه كثير من الناس ، ممّن يمتلكون أسباب المعرفة ووسائل البحث والوصول إلى الحقيقة ، ولم نفترق من ذلك الحفل إلاّ بعد أنْ وعدني بأنْ يمدّني بكتاب تأسيس الشيعة الكرام لعلوم الإسلام ، لأتأكّد من مصداقيّة القيمة التي ذكرها ، عن العناصر التي شايعت عليّاً والأئمّة من ذريته(عليهم السلام) ، فكان كتاباً شاهداً على تلك الفئة المباركة التي لعبت دوراً رئيساً في حفظ الدين، وإحياء أحكامه وسننه ، وتطوير مناهجه وعلومه ، ممّا أتاح لي أنْ أنزع غشاوة التضليل ، واُلقي بتبعات التمذهب الموروث عن الآباء ، إنْ كان الآباء حقيقة على تلك المذاهب المفروضة على الناس في الزمن الغابر ، وأيقنت أنّ الإسلام المحمّدي ، والدين الحقّ ، لا يمكنه أن يكون في غير أهل البيت(عليهم السلام) ، فآمنت به واتّبعت طريقتهم كما قال تعالى : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) .
الحلقة الثانية والعشرون فوجئت بحقيقة الشيعة والتشيّع .. فتشيّعت
- الزيارات: 1082