ما إن أتمّ عمار إفادته ، وأدلى بشهادته ، حتّى أخذت الكلمة ، فشكرت جميع من حضر من الإخوة ، على ما أبدوه من شهادات لله تعالى ، ولرسوله(صلى الله عليه وآله) ، ولأهل البيت(عليهم السلام) ، وللمسلمين الذين ما يزالون بعيدين عن منهاج أهل البيت(عليهم السلام) ، وللتاريخ الذي لم يرق إليه الدنس ، متوّجاً جملة الإفادات بإفادتي أنا أيضاً فقلت :عرفت الإسلام صغيراً في كنف عائلتي المحافظة ، القادمة من تخوم شطّ الجريد ، ومن فطناسة ، إحدى القرى الصحراويّة النائية من ولاية قبلي ، فكنت أُصلّي وأصوم بأمر وإرشاد وتوجيه من أبي وأمّي .
منذ أنْ بدأتُ أدرك ، وفي سنواتي الأولى في المدرسة الابتدائيّة ، كنت أتردّد على بيت أحد رفاق الدراسة ، الذي كانت تشدّني إلى بيت أسرته ، صورة ملكت عليّ جميع أحاسيسي ، وشدّتني إلى عالم من الخيال والتأمّل ، فكنت أسرح معها بعيداً في عالم ذلك الفارس العظيم الذي كُتب إلى جانب صورته ، عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ، على فرس أبيض قد نطّ برجليه الأماميّتين في الفضاء وهو يوجّه ضربته القاضية إلى فارس آخر ، كتب عليه رأس الغول ، وقد سالت الدماء منه .
انطبعت تلك الصورة في أعماق نفسي ; لأنّني قد وجدت أخيراً ما يلامس الحكايات التي كانت جدّتي لأمّي رحمها الله تحكيها لي ، ولأخوتي ، عن سيّدنا عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ومعاركه الحاسمة مع رأس الغول ـ وقد علمت فيما بعد أنّه عمرو بن ودّ ، وأن المعركة كانت غزوة الخندق ـجدّتي كانت تُكبر الإمام(عليه السلام) وتصفه بحيدرة الأحمر ـ نسبة إلى ندرة مثيله ، كندرة الكبريت الأحمر ـ وحكاياتها كلّ ليلة من ليالي الصيف أو الشتاء لا تنتهي ، وكنّا نأوي إليها بعد العشاء ، فتحكي لنا عن ذلك الرجل العظيم ، وتروي قصصاً من بطولاته ، فنرهف لها السمع ، ونسكن حولها كأنّنا كبار عاقلون ، وكأنّ البيت لم يعد يحوي أطفالا لا يهدؤون من اللهو واللعب والعبث .
يمكن اعتبار أنّ جدتي هي التي عرّفتني بالإمام عليّ(عليه السلام) ، وتحديداً عرّفتني بجانب الرجولة والبطولة فيه ، وكانت الصورة التي شاهدتها متزامنة مع فترة الحكايات عنه ، فكنت أستغلّ الفرصة كلّما قصدت بيت رفيق الدراسة ، لأمكث أكبر وقت ممكن أمام تلك الصورة المعبّرة .
كبرتُ وكبرت معي أحلامي وآمالي ، ولم يكبر تديّني لسبب لم أفهمه إلاّ بعد أنْ تشيّعت لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، واعتنقت إسلامهم ، وهو أنّ التديّن الوراثي قاصر عن تقديم الحجج والأدلّة والبراهين المؤيّدة لهذه العقيدة ، أو تلك الشعيرة ، ممّا أثّر سلباً على المتدينين بالوراثة ، فعجزوا عن الدفاع عن عقائدهم أمام ادّعاءات خصومهم من أتباع الأفكار الماديّة والعلمانيّة .
ومع انتمائي العقائديّ الذي غلب عليه الطابع الوراثيّ ، أخذت عن والدي الكريم ، أعزّه الله وأبقاه ، روحيّة الثورة والحماسة والشجاعة والرجولة والكرم ، وهي خصال شهد له بها القريب والبعيد ، حتّى أصبح مضرب مثل من عايشه عن قرب .
وقد كانت تلك الخصال دافعاً لوالدي ـ الذي ترّبى يتيماً ـ في مقاومة الاستعمار الفرنسي ، والانخراط في سلك الثوّار ، وحمل السلاح دفاعاً عن البلاد والقيم والمبادىء التي تربى عليها ، فعن والدي أخذت تلك الخصال ، وبه اقتديت ، وكانت بذرة رفض الظلم وعدم الخضوع والاستكانة له ، هي التي ميّزت شخصيّتي ، وهي التي كان لها الأثر البالغ في نموّ الحس الإنساني في داخلي ، وتحوّلت البذرة إلى شجرة مورقة ضاربة العروق في أعماق عقلي وقلبي وكياني ، وأينعت ثمارها في ضميري قناعة لا تتزحزح أبداً من أنّ الظلم والظالمين ليس لهم مكان في شخصي وفي حياتي ; لذلك فإنّني أتقرّب إلى الله تعالى بكرههم وبغضهم والبراءة منهم ، ومقارعتهم لو أجد لهم قوّة.
ومرّت الأيام وفارقت مدينة قابس سنين طويلة ، وعصفت بي ظروف عديدة ، يطول المقام بذكرها وشرحها ; إذا إنّها كانت تتعلّق برفض الظلم ، ومقارعة الظالمين .
عدت إلى مدينة قابس سنة 1980 بعد أن فارقتها سنة 1963 ، كأنّما قُدّر لي أنْ أعود إلى أجواء الصورة التي كنت شاهدتها في صغري ، وأجواء حكايات جدّتي رحمها الله عن الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) ، وكأنّما قدّر لتلك البقعة أنْ تكون ، منطلق الرؤية والتصوّر الجديد عن الإمام(عليه السلام) .
كنتُ أعرف جيّداً أنّ لي بها ابن عمّ ، وكان أوّل عمل قمت به عند وصولي ، التوجّه إليه ، فاستقبلني ورحّب بي ، وأعلمته بأنّني جئت أبحث عن عمل يناسب اختصاصي ، ولم يدم بحثي طويلا ، إذ سرعان ما وجدت عملا في إحدى شركاتها الكبرى.
باشرت عملي بحمد الله تعالى ، وكان عليّ أن أتزوّج سريعاً ، فقد بلغت من العمر 27 سنة ، وتزوّجت في صيف تلك السنة مودّعاً العزوبيّة ، واستقررت في بيت مستقلّ أنا وزوجتي ، تقاسمت فيه معها تقلّبات الزمن وابتلاءات قضاء وقدر الله تعالى ، ورزقنا ذرية طيبة ، والحمد له على نعمائه التي لا تحصى .
في أحد الأيّام ، قصدت بيت ابن عمّي ، ولمّا انتهيت إليه ، حدّثني قائلا : هل تعرف شيئاً عن الشيعة؟ فأجبته بالنفي . فقال : لقد كنت ذهبت منذ مدة إلى مدينة قفصة (مدينة تقع غرب مدينة قابس ، وتبعد عنها 146 كلم ، تمتاز بمناخ جبليّ صحراويّ يغلب عليه البرد الشديد في الشتاء ، والحرارة المرتفعة في الصيف) لمقابلة الشيخ التيجاني السماوي ، والتعرّف على المذهب الشيعيّ الذي اعتنقه منذ سنوات ، عن طريق أحد الإخوة العراقيين ، وعاد إلى تونس وهو يدعو الناس إليه .
فقلت له : وهل أخذت فكرة جيّدة عن التشيّع منه؟
فقال : لقد تناقشت معه حول عدد من المسائل ، ولكنّني لم أقتنع بكلامه ، فعدت منه مشوّش الفكر متشكّكاً ، على أمل البحث .
قلت : وكيف يتسنّى لك ذلك وكتب الشيعة غير موجودة عندنا؟
قال : القضيّة ليست متعلّقة بكتب الشيعة ; لأنّ ما احتجّ به الشيخ التيجاني عليّ لم يخرج من دائرة السنّة التي أنتمي إليها ، فكتب الصحاح والمدوّنات الروائية السنيّة الأخرى هي المصادر التي كان يحتجّ بها عليّ (سكت قليلا ثمّ قال) : لقد أرسل إليّ الشيخ التيجاني السماوي منذ أيام كتابين ، الأوّل : هو كتاب المراجعات للسيّد عبد الحسين شرف الدين الموسوي(رضي الله عنه) ، والثاني : كتاب دلائل الصدق للشيخ المظفر(رضي الله عنه) ، ولدي الآن رغبة في مطالعتهما ، فهل ترافقني في التعرّف على هذا الفكر؟ فوافقته على الفور ، وجرت إجابتي على لساني كأنّما هناك شيء يدفعها إلى الموافقة دفعاً .
بدأت جلسات مطالعة كتاب المراجعات ، فإذا هو كتاب يحتوي على لقاءات ومراسلات جرت بين السيّد عبد الحسين وشيخ جامع الأزهر في تلك الفترة ، والمدعو بالشيخ سليم البشري ، يعني أنّه حوار ونقاش بين عالمين : الأوّل : شيعيّ عراقيّ المولد ، لبناني النشأة ، ينحدر نسبه إلى الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق(عليهما السلام) ، والثاني : مصريُّ النشأة والمولد ، قُلّد مشيخة الأزهر الشريف في تلك الفترة من الزمن ، كان لقاءهما الأوّل في القاهرة ، وتعدّدت للودّ الذي نشأ بينهما ، والرابطة التي اتفقت رغبتهما على إنشائها فيما بعد للتقريب بين المدارس الفقهيّة الإسلاميّة ; والتأسيس لروح الأخوّة الإسلاميّة في شكل رابطة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة ، هذه التي نتمنى أنْ تعمّ كافّة علماء الأمّة الإسلاميّة ; لتجني من ورائها وحدة الكلمة والصف .
كان الحوار علميّاً إلى أبعد الحدود ، وكان الشرط الذي وضعه شيخ الأزهر ، هو الاستدلال على أحقيّة الإمام عليّ(عليه السلام) على إمامته العامّة ، وولايته لأمور المسلمين التي قلّده النبيّ(صلى الله عليه وآله) إياها ، من خلال اعتماد النصوص الصحيحة المدوّنة عند أهل السنّة في كتبهم المشهورة ، باعتبار أنّ قراءة نفس تلك النصوص من المنظور السنّي ، لم تسفر إلاّ على نتيجة مخالفة تماماً لما وصل إليه أهل البيت(عليهم السلام)وشيعتهم .
بدأنا في قراءة المراجعات ، مراجعة مراجعة ، فكنت كلّما انقضى الزمن المخصّص للمطالعة ، إلاّ وغادرت بيت ابن عمّي متلهّفاً إلى الموعد القادم ، ورأيتني في تلك الأيّام أكثر تحفّزاً وأشدّ حماسة ، وأدقّ موعداً ، وأرهف حسّاً من قبل ، ولم نأتِ على آخر صفحات كتاب المراجعات ، إلاّ وتيقنت تمام اليقين ، بأحقيّة الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في قيادة الأمّة الإسلاميّة ، بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) .
استطاع صاحب كتاب المراجعات ، أنْ يثبت من خلال النصوص التي استدلّ عليها من مصادر أهل السنّة ، أحقيّة الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في الإمامة العامّة ، باعتباره المؤهّل الأوحد لقيادة الأمّة الإسلاميّة ، وليكون المرجع للأول ، في ما يتعلق بالأحكام الشرعيّة ، ممّا دفع بشيخ جامع الأزهر ، إلى الاعتراف بتوضيحات السيّد ، والإقرار بنتيجة البحث المتداول بينهما في مسألة الإمامة ، من حيث كون الإمامة رديف النبوّة ، ودورها يتجاوز إطار الحكومة ، ليشمل مقام حفظ التشريع الإسلاميّ ، ووجوب التعيين فيها على الله تعالى ، ضرورة تطلبتها مرحلة ما بعد النبوّة ، وبيان ذلك على النبيّ(صلى الله عليه وآله)واجب ، يندرج في إطار التبليغ الموكّل به ، وقد نصّ المولى على ذلك ، وبلّغ نبيّه(صلى الله عليه وآله) الأمّة ، ونصّب عليّاً(عليه السلام) في منصرفه من حجّته المعروفة بحجّة الوداع ، يوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة ، في موضع يسمّى غدير خمّ ، قبل أسابيع قليلة من وفاته(صلى الله عليه وآله) ، وقد قام قبل ذلك بنفسه بتهيئة وإعداد الإمام عليّ(عليه السلام)لتلك المهمّة الجسيمة ، فربّاه وعلّمه ورعاه وأحاطه بعنايته الفائقة ، ممّا أثار حفيظة المناوئين ، وأشعل حسد وبغض عدد من الصحابة لعليّ(عليه السلام) ، ولمّا رأى النبيّ(صلى الله عليه وآله) على وجوه الناس ومن خلال أفعالهم ما قذف به صدأ قلوبهم من كراهيّة وحسد وحقد على عليّ وأهل بيته(عليهم السلام) ، حذّرهم تحذيراً شديداً في أكثر من مناسبة ، وبعد كلّ ظهور لذلك الإحساس البغيض ، من ذلك أنّه قال لبريدة الأسلمي : "لا تقع في عليّ ، فإنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي ، وإنّه منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي"(1)وزوّجه سيّدة نساء العالمين(عليها السلام) ، بعد أنْ ردّ كلّ من طلبها للزواج ، عندما جاءه أمر الوحي بذلك ، وقال(صلى الله عليه وآله) : "لو لم يكن عليّ ، لما كان لفاطمة كفؤ"(2) وهو الوحيد الذي لم يتأمّر عليه أحد عدا النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، بينما تأمّر هو(عليه السلام) على البقيّة من الصحابة في مواطن عديدة ، وأمر(صلى الله عليه وآله) بغلق كافّة الأبواب المشرّعة على المسجد إلاّ بابه وباب عليّ وفاطمة ، وقد احتجّ منهم من احتجّ على ذلك القرار لكنّه أجابهم بأن الله سبحانه وتعالى أمره بذلك(3) ، وعزل ابن أبي قحافة من إمارة الحجّ وإرسال عليّ(عليه السلام) بدله أميراً دليل على أنّ مسألة الإمارة لا يصلح لها أحد
وعليّ(عليه السلام) موجود(4) ، فكانت كلّ تلك الأعمال والإشارات والبيانات ، تعريفاً بمقام عليّ(عليه السلام) ، وتهيئة للمسلمين بقبوله إماماً وقائداً وعَلَماً عليهم ، يسلك بهم طريق الرشاد ، ويهديهم سواء السبيل .
ومهّد(صلى الله عليه وآله) لعملية تسليم السلطة لعلّي(عليه السلام) من بعده ، بشكل يُهيىء الأمة لتقبل ذلك ، بالنصّ على أفضليته ، وأحقيّته بمنصب الإمامة ، ولياقته بموضع القيادة ، على رأس هرم السلطة ، وخصائصه التي يتميز بها عن غيره ، في عدد من الأحاديث المتّفق على صحّتها ، ومنها قوله(صلى الله عليه وآله) لعليّ(عليه السلام) : "أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، غير أنّه لا نبيّ بعدي" لمّا تركه خليفة له على المدينة ، وخرج لغزوة تبوك ، تحسّباً من مؤامرة المنافقين .
لكنّ الأمّة أبت أن تسمع وتطيع ، وحصل لها ما حصل لبني إسرائيل ، عندما تجاهلوا تعيين موسى لهارون أخاه خليفة له عليهم ، واستضعفوه وكادوا يقتلونه كما صرّح بذلك القرآن الكريم .
ومن المراجعات انتقلنا إلى مطالعة كتاب دلائل الصدق ، للشيخ المظفر(قدس سره) ، فترسّخت قناعاتي ، وتجذّر إيماني بحقيقة أهل البيت(عليهم السلام) ، وصحّة عقيدتهم ، ونقاوة أركانها ، وسلامة بناءها ، ودقّة تحليلها للمسائل ، وإجاباتها المنطقيّة على الإشكالات المطروحة ، وردودها المفحمة على الطاعنين ، فأعلنت تشيّعي ، وأظهرت عقيدتي في الوسط الذي كنت أعيش فيه ، وتحملت المسؤوليّة في نشر الإسلام المحمّدي ، الذي نقله أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الاثني عشر ، عن جدّهم النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) ، فكان ذلك منطلقاً فعليّاً وبداية مثمرة للدعوة إلى التشيّع الإمامي الاثني عشري ، فلم تمرّ سنوات قليلة حتّى أصبح التشيّع متواجداً داخل أسوار الجامعة التونسيّة ، ومنه إلى الأُسر والقرى والمدن ، رغم قلّة الموارد ، وضيق ذات اليد ، من أن تفي بكلّ متطلّبات الدعوة ، من تنقل وشراء للكتب ، وطبع للدراسات وتوزيعها على الراغبين في مطالعة الفكر النيّر ، لمن أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ...
خاتمة المطاف
الآن وبعد أن انتهينا من جميع إفادات الإخوة الكرام ، يمكننا أنْ نلخّص الأسباب التي دعت الإخوة الحاضرين إلى اعتماد إسلام أهل البيت(عليهم السلام) ، والتشيّع لهم ، وترك ما دونه من أسلام منسوب إلى الصحابة ، وما هو في حقيقته ، غير خليط من حقّ وباطل أسّسه الطغاة من بني أميّة على مدى أكثر من قرن ، سهر على غرسه حكّامهم في أجيال الأمّة ، فنشأ سوادهم على ذلك ، والناس على دين ملوكهم .
وبتتبعنا للحجج التي دفعت بهؤلاء الباحثين إلى اعتبار أنّ الإسلام الشيعيّ الاماميّ الاثني عشري هو الإسلام المحمّدي الصحيح ، الذي لم تشبه شائبة التحريف ، ولا أصابه نزق الظالمين ، نجد أنّ تلك الحجج قد انقسمت في مجموعها إلى محورين أساسيّين : المحور النقلي والمعبّر عنه بالروائي ، حيث اعتمد علماء المسلمين الشيعة فيه على النصوص التي هي عند مخالفيهم ، كأساس أوّل في الاحتجاج ، وهي مقسّمة بدورها إلى قسمين :
القسم العقائدي
وقد أعطى للتوحيد حقيقته ، من حيث ذات الله تعالى المقدسة وصفاته ووضعها موضعها ، وقد سلك مسلكاً تنزيهيّاً واضحاً ، نفى عنه كلّ ما ادّعاه غيرهم من تحقّق رؤيته في الدنيا والآخرة ، ومصاحبته إلى الجنّة ، وأعطوه حقّه في العدل ، بينما نسبه غيرهم إلى الظلم .
كما أعطى الإسلام الشيعيّ النبوّة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام موضعهم الذي يستحقّون ، فنفوا عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) كلّ الروايات المكذوبة ، التي شوّهت الكتب التي تُلقّب بالصحاح ، والتي تمسّ من شخصه وتحطّ من كرامته ، كالادعاء عليه بأنه كان يطوف على نسائه التسع في ليلة واحدة(5) وبغسل واحد(6) ، وتبوّله قائما في سباطة قوم(7) ، وحبّه لسماع الباطل(8) ، ومشاهدته لزينب بنت جحش وهي في حجرتها حاسرة ، فيقع إعجابها في قلبه ، وهي بعد في حبال زيد مولاه(9) . والادّعاء بسحره من طرف يهودي(10) ، وتذكير قارىء له بما نسيه من قرآن(11) ، وأمره لامرأة بإرضاع رجل كبير ; ليصبح ابن زوجها(12) ، وعبوسه لمجيء
أعمى(13) ، ومحاولاته المتكرّرة الانتحار ، عندما ينقطع عنه الوحي ، فينقذه جبريل في آخر لحظة(14) .. إلى غير ذلك من الترّهات والأباطيل التي اعتمدها المخالفون للإمامة الإلهيّة ، كما نفوا ـ أي أهل البيت وأتباعهم ـ عن بقيّة الأنبياء(عليهم السلام) ما نسب إليهم من كذب وظلم ، وأقرّوهم على عصمتهم التي يجب أنْ يكونوا جميعاً عليها ; لضرورة البعثة ، وما تتطلبه من مثال كامل الصفات والخصائص ، لا تشوبه شائبة تعيبه وتعطّل دوره ، وتقلّل من حجّته .
القسم التشريعي
وقد أظهر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وعياً كاملا بالشريعة الإسلاميّة ، ودقائق تفاصيلها ، من أبسط الأحكام إلى أعقدها ، بينما تاه غيرهم في مسائل عديدة كالوضوء الذي أوضح القرآن الكريم كيفيّته ، والبسملة في الصلاة ، مفروضة كانت أم مسنونة ، وغير ذلك .
أمّا المحور الآخر فهو :
المحور العقليّ : فقد تميّز إسلام أهل البيت(عليهم السلام) بإعطاء العقل المستنير مكانته في البحث والتحليل والاستنباط ، وفق الشروط المؤهّلة لذلك ، وبفضل العقل أمكن الوصول إلى الحقائق والاطّلاع عليها ، ومن خلال المقارنة والموازنة بين النصوص ، اثبتوا بالعقل ما يجب في التوحيد من تنزيه مطلق ، والنبوّة والإمامة من تعيين وعصمة ، ودفع الشبهات عنهما ..
في أجواء مليئة بالطمأنينة والارتياح ، وفي خاتمة لقاء تميّز بانفتاح قلوب وعقول شاءت لنفسها ، وأراد لها الله سبحانه وتعالى أنْ تسلك طريق الهدى ،اختتمت جلسة الإفادة ، وانفضّ جمعها ، وتفرّق الإخوة المؤمنون منها كلّ إلى جهته ، آملين أنْ تكون لإفاداتهم التي أدلوا بها بخصوص تشيّعهم لأئمّة أهل البيت الاثني عشر(عليهم السلام) ، النتيجة المرجوّة لمن لم يتعرّف على دوافع ترك المسلمين لمذاهبهم التي تعبّدوا بها زمناً ، واعتنقوا بدلها منهج الإسلام الشيعيّ الاماميّ الاثني عشريّ ـ نسبة إلى الأئمة الاثني عشر الذين نصّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)بكونهم أئمّة للمسلمين ـ ظاهرة الانتقال من التسنّن إلى التشيّع ، والتي ظهرت هنا وهناك في مختلف مناطق العالم ، أرّقت وتؤرّق أنفساً وحكومات استوطنت الشرّ وتوطّنت عليه ، فاندفع منها من اندفع مستميتاً ، يطلب إطفاء نور الهداية إلى أئمة الهدى ، وكانت وسائلهم في تلك المخطّطات ، وأدواتهم لبلوغ تلك الغايات ، الادّعاء بالباطل ، واللجوء إلى الكذب الذي استجار به من سبقهم إلى تلك الغايات ، وفي النهاية ، وهنَ عزمهم ، ولم يستطيعوا وقف شي من ذلك المدّ القادم ، ليُحقّ الله الحقّ بكلماته التامّات ، ويتمّ نوره رغم أنوف الظالمين وأعوانهم من الكاذبين ، وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين .
_____________
1-مسند أحمد 5 : 356 ، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 5 : 262 .
2-مقتل الحسين للخوارزمي : 107 ، ينابيع المودّة 2 : 286 ، واللفظ للأوّل .
3-سنن النسائي 5 : 118 ، مسند أحمد 1 : 175 و4 : 369 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 125 .
4-انظر سنن الترمذي 4 : 339 ، سنن النسائي 5 : 128 ، مسند أحمد 1 : 151 .
5-صحيح البخاري 1 : 75 ، 6 : 155 .
6-صحيح مسلم 1 : 171 .
7-صحيح البخاري 1 : 62 ، صحيح مسلم 1 : 157 .
8-إشارة إلى ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1: 46) بسنده إلى الأسود التميمي قال : "قدمتُ على النبي(صلى الله عليه وآله) فجعلتُ أنشده ، فدخل رجل طوال أقنى ، فقال ]أي النبيّ[ : امسك ، فلمّا خرج قال : هات ، فجعلتُ أنشده ، فلم ألبث أن عاد فقال لي ]أي النبيّ [امسك ، فلما خرج ، قال ، هات ، فقلتُ : من هذا يا نبيّ الله ، الذي إذا دخل قلت امسك ، وإذا خرج قلت هات ، قال : هذا عمر بن الخطّاب ، وليس من الباطل في شيء" نعوذ بالله من هذا الكلام فرسول الله يحبُّ الباطل وعمر يبغضه ، وما دلّ على حبّ النبيّ للباطل وفعله إيّاه روايات عديدة أخرجها البخاري ومسلم وغيرهم منها ما رواه أبو هريرة ، قال : "بينا الحبشة يلعبون عند النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها ، فقال : دعهم يا عمر" صحيح البخاري 3 : 277 وانظر ما دلّ على غناء الجواري في بيت رسول الله في صحيح مسلم 3 : 21 حيث زجرهنّ أبو بكر وقاله : "أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)" لكن كالعادة فالنبي رفض كلام أبي بكر وقال : يا أبا بكر ، إنّ لكلّ قوم عيداً وهذا عيدنا" . وانظر ايضاً كيف أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)يحمل عائشة وخدّها على خدّه تنظر إلى لعب السودان بالدرق والحراب ، إلى أنْ تكتفي من النظر! في صحيح البخاري 3 : 228 وصحيح مسلم 3 : 22 .
9-انظر تفسير الطبري 22 : 17 ـ 18 .
10-صحيح البخاري 4 : 91، 7 : 28، 30، 164 .
11-صحيح البخاري 6 : 111 .
12-انظر صحيح مسلم 4 : 168 ـ 169 ، باب رضاعة الكبير .
13-سنن الترمذي 5 : 103 ، المستدرك 2 : 514 ، والمسألة محلّ إجماع بين مفسّريهم ، انظر تفسير الفخر الرازي مجلد 11 ، ج31 : 55 .
14-صحيح البخاري 8 : 68 ، مسند أحمد 6 : 233 .
الحلقة الثامنة والعشرون والأخيرة شيّعتني فطرتي وكتاب المراجعات
- الزيارات: 859