لقد انبثق علينا الإسلام الحنيف من عمق الحياة بخطوط القدرة الخالقة من لدن حكيم عليم، وهو المدرسة الجامعة التي نتمسّك بها نجاةً وعلاجاً لكلّ جوانب الحياة ولكلّ حاجيات الإنسان الدنيوية والأخروية، الجسمية منها والروحية، الإسلام يرسم لنا بكلّ وضوح الأصول العقائدية الخمسة التي هي أساس مذهب أهل البيت^ وهي: العدل والتوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد.
الإسلام لا يرى التقليد والتعبّد كافياً في ممارسة الأصول العقائدية التي ذكرناها، بل إنّه يوجب على كلّ فرد البحث عن صحّة هذه العقائد وبصورة مستقلّة بعيدةٍ عن العاطفة والتقليد الأعمى، ذلك لأنّ الإسلام لا يحصر العبادة بالعبادة البدنيّة كالصلاة والصوم أو العبادة الماليّة كالخمس والزكاة لأنّ هناك ما هو أعظم من هذا وهي العبادة الفكريّة التي تحثّ الإنسان وتطلب إليه التأمّل والتفكّر في آلاء الله سبحانه وتعالى، كما تحثّنا على وجوب الاستنتاج الفكري بحثاً عن الحقيقة ووصولاً إليها، ذلك لأنّ الأصول كلّها محورها التعقّل كالعدل والتوحيد والمعاد وبالتبعية النبوّة والإمامة، إن كتاب الله يحثّنا على أن نفكّر مخلصين في آلاء الله سبحانه كي نعرف العدل والتوحيد و...
قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ (1).
لكن الراسخ في المجتمع وفي ترسبات الأجيال الحفاظ والدفاع عن العقائد المتوارثة، ذلك لأنّ العادة والتلقائيّة تؤثّر حتّى على ذوي الشهادات العالية وتجعلهم لا يسيرون إلّا على طريق الإتباع والتقليد المتوارث الأعمى، برغم أنّ القرآن الكريم نبّهنا وحذّرنا أن لا نقبل معتقدات ومفاهيم قديمة قبل عرضها على العقل وعلى قواعد القرآن الكريم، وقبل أن نتأمّل فيها بعمق وبفكر منفتح.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ (2).
يقول كتاب الله العظيم إن التقليد الأعمى يوجب الشقاء الأبدي وبشكل خاص لأهل العلم.
وقال: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ (3).
إنّه من واجب الإنسان الواعي أن يجعل الفكر والتبصّر والتأمّل رائداً له في سلوك الطريق التي توصل إلى الحقّ سبحانه وتعالى، آخذاً بالعقائد الصحيحة، وتاركاً النزعات القبلية والعنصرية والقومية التي لا تولّد عنده إلّا القلق الدائم والخوف المستمر وعدم الاستقرار النفسي.
العلم والإيمان يكّمل أحدهما الآخر بحيث لا يمكن الفصل بينهما، ولو فصلنا لتسبّبنا في أضرار جسمية توقعنا بالخرافات والجمود الفكري والدوران في المكان حول النفس.
يا إخوتي في مثل هذه الحال العقيمة المرّة التي نعيشها وسط مذاهب متعدّدة وطرق إسلاميّة شتّى لم لا نحاول البحث عن المذهب الحقيقي كي نتمسّك به؟
يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : >من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ<(4).
وعلى هذا فمن واجب المسلم أن يدرس وأن يتأمّل المذاهب المطروحة في الساحة الإسلاميّة ، وأن يعتمد على عقله وتفكيره، وعلى عوامل الاستدلال والاطمئنان المتوافرة لديه، وعند الاختلاف فإنّ الحقّ بيّن واضح لا يتعدّد ولا يأخذ مظهراً وصوراً واشكالاً شتّى، خلافاً لما يرى ويقول المصوّبة المغرضون.
يبدو أنّ هناك إشكالاً عميقاً يكمن في مناهج الدراسة في الجامعات والمعاهد الدينية، حيث تقتصر كلّ مؤسسة على تدريس اتجاه معيّن ونمطٍ واحد من العقائد والفقه والعلوم الدينية، متجاهلةً سائر الاتجاهات والمذاهب الأخرى، وإنّ الأنكى والأخطر من ذلك هو تعبئة الطلاب فكرياً ونفسياً ضدّ كلّ ما يخالف مذهب تلك المؤسسة ومنهجها، فيتخرّج طلاب هذه العلوم بفكر منغلق وعقلية ضيّقةٍ محدودة جاهلين الرأي الآخر ومنحازين بتعصّب أعمى ضدّ كلّ ما لا يوافق فكرهم.
إنّ احترام العالم يقاس بمدى احترامه للحقيقة، لأنّها ضالته أينما وجدت، وفي كتب الشيعة الإمامية اجتهادات قد لا يعرفها حتّى الخواص من علماء السنّة، ولو أنّهم اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة الإمامية، ولاحترموا علماء المسلمين ومذاهبهم، ولقويت البواعث على تمهيد السبيل ووحدة الفكر والعقيدة بين الإخوة المؤمنين من حيث يريدون أو لا يريدون.
__________
1- الأعراف ٧: ٦٩.
2- البقرة ٢: ١٧٠.
3- الأحزاب ٣٣: ٦٧.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨: ٤٠٤.
ابحث عن الحقّ تجد أهله
- الزيارات: 508